يأتي الحديث عن قانون محاسبة سورية في الولاياتالمتحدة ضمن تظهير الصورة الأساسية في المنطقة من المنظور الأميركي، وهو جزء من عملية ترجمة الخطاب السياسي داخل الإدارة الأميركية عملياً على ارض الواقع. فالقانون احدى الوسائل السياسية التي تستخدمها هذه الإدارة بهدف اخضاع "الدول المارقة" وهي السياسة المعتمدة منذ ما بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001. ويخطئ من يعتقد ان 11 ايلول كان كارثياً بمجمله على الولاياتالمتحدة. فهذا التاريخ كان بالتأكيد مفاجأة استراتيجية من العيار الثقيل، وشكل نقطة البدء لرسم الخطوط الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية المستقبلية، وبالتالي الاستراتيجية العسكرية الكبرى. لكنه من جهة اخرى، كان فرصة ذهبية لواشنطن لتثبيت هيمنتها على العالم وعلى مصادر طاقته. وفي هذا السياق تمكنت الولاياتالمتحدة من تحقيق ما يأتي: استغلت الفرصة لتثبيت سيطرتها على العالم، خصوصاً مراكز الثقل فيه، والمتمثلة بالنفط. وبسطت سيطرتها على آسيا الوسطى، ونشرت قواتها في الفيليبين، ووسعت انتشارها في الخليج الى اكثر من 50 ألف جندي. قسّمت العالم الإسلامي الممتد من الفيليبين حتى كوسوفو الى قسمين تفصلهما كتلة بشرية ضخمة متمثلة بالهند بليون نسمة معادية للإسلام ولباكستان حيث القنبلة النووية الإسلامية. انتقلت من احتواء الاتحاد السوفياتي، الى احتواء العالم العربي. فهي موجودة في الخليج واليمن ومصر وإسرائيل وتركيا، ويدور الحديث الآن عن الأردن كنقطة انطلاق لضرب العراق، اضافة الى تهديد كل من سورية ولبنان. بعد تقسيم العالم الإسلامي، واحتواء العالم العربي بدأ التدخل العمودي في شؤون الدول العربية الداخلية كالمصارف والأمن القومي ومناهج التدريس. في هذا الوقت ركبت اسرائيل الموجة وضربت السلطة الفلسطينية الى درجة لم تعد قادرة على إدارة شؤون الفلسطينيين. وباتت القضية الفلسطينية شأناً اسرائيلياً داخلياً. وتزامن ذلك كله مع حملة شعواء ضد العالم العربي وأبرز دوله، عملت من خلالها واشنطن على عزل مصر وإضعافها وشغلها بأمنها المائي، عبر التدخل الأميركي في السودان، والتهديد بقطع المساعدات عنها بسبب قضية سعد الدين ابراهيم. فيما تتعرض المملكة العربية السعودية لحملة ضخمة من التشويه يقف وراءها اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة. ولإكمال المخطط، توجه الادارة الأميركية تهديدها الى لبنان وسورية، محاولة قلب المعادلة القديمة التي أرساها هنري كيسنجر، والتي تقول ان "لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سورية". ويتزامن مسخ صورة لبنان وسورية في الإعلامين الأميركي والإسرائيلي، مع مواقف سياسية متشددة وخطاب هجومي تهديدي. فتدرج سورية على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، ويضاف "حزب الله" الى لائحة المنظمات الارهابية، وتتهم دمشق بتمرير الأسلحة الى العراق عبر اراضيها والتعاون معه اقتصادياً على رغم الحظر عليه، اضافة الى الحاقها بين الفينة والأخرى بدول "محور الشر"، واتهامها أخيراً، وليس آخراً، بالسماح لعناصر من "القاعدة" بدخول لبنان والاقامة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوبه. وتدعم هذه السياسة عناصر متشددة في الكونغرس معروفة بارتباطاتها باللوبي اليهودي، مثل السيناتور بوب غراهام الذي طالب واشنطن باعلان الحرب على لبنان وسورية قبل العراق. ولا يمكن فصل الاستعدادات الجارية لضرب العراق عن هذه السياسة المستهدفة لسورية، اذ ان ضربة كهذه تفقد العرب، وخصوصاً سورية، العمق الاستراتيجي الضروري لمحاربة اسرائيل. وأي تقسيم لهذا البلد يعني اكتمال حلقة التطويق لسورية من الجهتين، التركية والاسرائيلية. وفي هذا تحقيق للأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية في المنطقة والتي تقوم على: امن الداخل عبر انهاء القضية الفلسطينية، والأمن الغذائي عبر السيطرة على منابع المياه، وتفتيت دول المحيط كالعراق والسودان، واحتكار اسلحة الدمار الشامل. وبذلك تحل اسرائيل مشكلتها الديموغرافية عبر إبقاء اللاجئين حيث هم، وترحيل من تريد الى اي دولة عربية قد يكون العراق في مقدمها. والجدير ذكره في هذا السيق ان الدولة العبرية أعادت أخيراً احياء المكتب الديموغرافي الذي تأسس عام 1967. * كاتب وباحث لبناني. عميد ركن متقاعد.