أفضل فيلم في الأسبوع الأول من مهرجان كان السينمائي الدولي لم يكن فيلم لارس فون تراير، كما كان متوقعاً، ولا فيلم اندريه تيشيني كما روّج بعض الفرنسيين ولا فيلم سميرة مخملباف على حسناته الأكيدة، بل فيلم من مخرج تركي غير معروف هذا ثالث أفلامه اسمه نوري بيلج سيلان بعنوان "مبتعد". واذ يمضي النصف الأول من المهرجان ويبدأ النصف الثاني، فإن المهرجان لا يزال عليه أن يأتي بما هو أفضل مما ورد فيه الى الآن حتى ينقذ الدورة من خفوتها ويمنحها بعضاً من التميّز أو الأهمية. الرهان لدى كثيرين، كان على فيلم لارس فون تراير "دوغفيل"، هناك أكثر من سبب لذلك من أهمها الصيت الذي يحمله فون تراير كمخرج سبق أن قدّم أفلاماً أثارت إعجاب النقاد العالميين، ومن بينها أنه شخص لا يخشى التجربة. حينما قدّم أول أفلامه في مهرجان كان "عناصر جريمة" عام 1984، عمد الى أسلوب عمل يختلف عما انتهجه لاحقاً في "يوروبا" 1991 وحتى فيلمه اللاحق "كسر الأمواج" 1996 الذي اختلف عن المرحلتين السابقتين. في "راقصة في الظلام" 2000 ابتعد مجدداً عن اساليبه السابقة، او لنقل فتح نوافذ جديدة تنتمي الى الأسلوب العام ذاته. هذا الى جانب أن الرجل من مؤسسي "الدوغما". ومع أن هذه المدرسة أصبحت فورة من الماضي القريب وتأثيرها اقتصر على بضعة أفلام ولم يتعد ذلك الى تيار حقيقي يؤمه سينمائيون من كل مكان، الا أن النقد الغربي كان - ولا يزال - أكثر صبراً مما يجب. لارس فون تراير مخرج أكثر عناداً وجرأة من أن يعرف أين يتوقف. فيلمه الجديد "دوغفيل" حال ناشزة من العمل السينمائي. واولئك الذين خرجوا من القاعة بعد ثلاث ساعات منهكة ليبشروا بأن "دوغفيل" عمل استثنائي، انما لا يجدون في خروج فون تراير عن القواعد الصحيحة للسينما. هذا فيلم من مقدمة وتسعة فصول تقع أحداثها في قرية خيالية اسمها دوغفيل تقع في جبال الروكي في ولاية كاليفورنيا، وهي على آخر الطريق. بعدها جبال وعرة. الى القرية تصل امرأة في حلكة الليل. غريبة. خائفة، وفي أعقابها عصابة. القرية تفكر في نبذها أول الأمر لكنها تقبلها لاحقاً. ومن هذه النقطة ولاحقاً هناك محاولة تلك المرأة نيكول كيدمان التأقلم مع الحياة الجديدة ولو أن الأمور لا تمضي في هذا الاتجاه طويلاً. يصر فون تراير على القول انه لم يتخل عن واقعيته حتى ضمن الأجواء الخاصة التي شكّل منها هذا الفيلم. ما فعله فون تراير هنا هو تحويل "بلاتوه" من استوديوات صغيرة تقع في بلدة ترولهاتان السويدية الى القرية المزعومة. لكن عوض أن يبني قرية اكتفى بالطبشور على الأرض راسماً شارعاً رئيسياً وبضعة متفرعات، وبضعة بيوت وكنيسة، وسمح ببعض الأسلاك الخلفية وبشاحنة صغيرة لا تستطيع الكاميرا متابعة حركتها لأن القرية الخيالية قائمة في بلاتو، لا يزيد حجمه عن ملعب كرة قدم. لا أبواب ولا جدران ولا سقف، بل بعض الأثاث في البيوت الخيالية. هذا الشيء الذي بالكاد يمكن تسميته بالديكور هو ما يأخذ بألباب المعجبين بالمخرج لاهين عن التناقض الواضح بين إصراره على أنه يتعامل والموضوع واقعياً وبين شروط الواقع التي لا وجود لها. الواقعية لها شروط تماماً كما السينما لها قواعد، وما يفعله تراير هو الخروج عنهما في نوع من تجاوز شروط الأولى وهدم قواعد الثانية. الفيلم المقابل الذي احترم تلك الأسس والشروط لا يحمل إسم مخرج معروف. نوري سيلان قدم فيلمه الأول عام 1997: "البلدة الصغيرة"، والثاني بعد عامين "سحب أيار"، وهما لم يثيرا الإهتمام به. لكن "مبتعد" بمعنى "غير المتواصل مع الآخرين" لا بد من أنه سيغيّر هذا الوضع وسيمنح مخرجه ركناً مهماً بين أترابه. انه عن رجلين، أولهما، محمود مظفر اوزدمير هاجر من القرية الى اسطنبول منذ سنوات حيث يعمل مصوّراً. حقق لنفسه قدراً من النجاح وتزوّج ثم تخلى، وارتبط بأكثر من امرأة لا تعني احداهن شيئاً بالنسبة اليه. والثاني، يوسف محمد أمين طبرق يهجر القرية نفسها الآن ويطلب البقاء في شقة قريبه ذاك ريثما يبحث عن عمل في مرفأ المدينة. حينما يصل يوسف يجد استقبالاً شبه فاتر من محمود الذي كان خط حياته على الابتعاد وعدم الألفة. والفيلم من هنا نظرة متأنية عن رجلين لا تتوطد علاقتهما بل تسوء في مرحلة لاحقة. يتجه تعاطف المشاهد مع يوسف الذي يحاول أن يكسب ود محمود والذي لا يمكن لومه كثيراً اذا ما كان جديداً على المدينة وشروط حياتها. واذا ما كان يعاني الوحدة ويمنِّي النفس بأنثى تتحدث اليه وتهواه ولو لساعة. نوري يسحب من عالمه التأمل وطول اللقطة وما يرد فيها من حركات. من ألوان الليل والنهار الأجواء التي يريد صبغها على العمل. والكاميرا بين يديه لا تتدخل في المسافة بين المتابع والمشهد المرتسم أمامه. فيلم رزين وأليف وأهم ما فيه عدم سعيه لإدانة شخصه الآخر. هذه هي حياته التي يرتاح اليها. ولا يمكن لومه على ذلك.