«لقد فعل هتلر أشياء سيئة بالتأكيد، لكنني أشعر بالشفقة عليه من الناحية الإنسانية». كانت هذه العبارة كافية لإحداث صدمة فريدة من نوعها في تاريخ مهرجان كان السينمائي... ما أدى بالتواتر الى إعلان إدارة المهرجان قائلها شخصاً غير مرغوب فيه... وانه لم يعد ضيفاً ويرجى منه ألا يطأ قصر المهرجان ولا أي مكان يتعلق به. قد يبدو الأمر غير ذي أهمية، لولا ان قائل الكلام والمعاقَب لقوله هو واحد من أكبر السينمائيين في عالم اليوم، ولولا أن الفيلم الذي يشارك به في مسابقة المهرجان واحد من أهم الأفلام التي حقِقت أخيراً. المخرج هو، كما بات معروفاً الآن، الدنماركي لارس فون تراير. أما الفيلم فهو تحفته الجديدة «ميلانكوليا»، الفيلم الذي، إن رأت لجنة التحكيم إعطاءه جائزة، سيخلق توتراً إضافياً، وإن قالت إدارة المهرجان انه حتى لو فاز فلن يسمح لمخرجه بدخول الاحتفال لتسلم جائزته. والحال ان هذا الأمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ «كان» وربما في تاريخ أي مهرجان سينمائي كبير آخر. أما فون تراير فهو معروف بمدى ما في تصرفاته من مشاكسة. ومع هذا يلوح هنا سؤال أساسي: هل حقاً كانت تلك العبارة هي السبب؟ ظاهرياً نعم، خصوصاً أن صاحب «دوغفيل» أردف إذ استفزته مواقف الصحافيين أكثر وأكثر، قائلاً: «ماذا أقول لكم، حسناً... أنا نازي بعض الشيء». المشكلة الحقيقية هنا ان الجميع يعرف بالتأكيد ان لارس فون تراير كان يمزح بخرقه العهود، وأنه لم يكن يعني أبداً ما يقول. كانت مزحة سمجة من النوع الذي اعتاد عليه. ومن هنا قد يجدر بنا أن نلتفت بحثاً عن السبب الحقيقي في كل ما حدث، ناحية أخرى... كلاماً آخر قاله في المناسبة ذاتها، ولكن من دون مزاح هذه المرة... ذلك أنه وقد أحسّ بمدى ما في مزحته السمجة من إساءة وإثارة لسوء الفهم، قال أيضاً: «أنا أتعاطف كلياً مع اليهود... لكن اسرائيل زادتها كثيراً في تعاملها مع الفلسطينيين. انها مثيرة للقرف». وفي يقيننا الآن أن هذا هو الكلام الذي دفع ادارة «كان» الى الرضوخ للجمعيات اليهودية والصهيونية وإصدار البيان، على رغم ان المعني بالأمر، فون تراير، اعتذر أكثر من مرة. وعلى رغم ما يعرفه الجميع من أن زوجة لارس فون تراير يهودية وأبناءه الأربعة منها يهود... بل انه هو أيضاً يهودي بالاختيار، اعتنق دين زوج أمه الذي ربّاه، بدلاً من دين أبيه الحقيقي الذي تخلى عنه منذ طفولته. في كل هذا واضح أن «جريمة» فون تراير، كانت إعلانه، بكل قوة واشمئزاز هذا الموقف من إسرائيل، متخذاً لمرة نادرة في تاريخه الاستفزازي سمات الجدية. أما الموقف الآخر، الساخر والتهريجي من هتلر، فبالتأكيد ما كان من شأنه أن يجر عليه كل هذا الغضب، لولا حكاية إسرائيل. مهما يكن، أعلنت إدارة المهرجان ان طرد المخرج الدنماركي لن يؤدي الى سحب فيلمه. وربما سيكون لمرة واحدة فقط، هذا إذا رضي هو نفسه بالعودة الى «كان»، هو الذي تبذل المهرجانات عادة جهوداً كبيرة لدعوته. وإذا كان مخرج فرنسي من طينة كلود ليلوش، علّق على هذا كله بقوله ان ما فعله فون تراير إنما هو «انتحار سينمائي»، فإن هذا الكلام يبدو مضحكاً ومثيراً للسخرية بالطبع. ففون تراير الذي حضر «كان» للمرة العاشرة... وسبق أن فاز بالسعفة الذهبية بين أفلام أخرى، يعرف جيداً أنه إن فاتته «كانات» مقبلة، فإن عشرات المهرجانات مستعدة للتدافع منذ الآن لدعوته... كما ان هذه الحادثة في حد ذاتها تضمن لفيلمه دعاية ما كان يحلم بها. وبالتأكيد، الخاسر من هذه القضية، سيكون مهرجان «كان» نفسه، الذي ربما سيجد عشرات المخرجين في مرات مقبلة يتخذون مواقف مشابهة... فهل سيطردهم جميعاً؟