أثيرت في استوكهولم أخيراً قضية الأشخاص الذين يرتكبون جرائم حرب في دولهم ثم يلجأون إلى السويد سعياً وراء ملاذ آمن بعيداً من العدالة ولتجنب العقاب القانوني. وبحسب تقدير دائرة الهجرة السويدية هناك نحو 70 لاجئاً من دول مثل لبنان والعراق وتركياوأفغانستانوكولومبيا وأوغندا يعتقد بأنهم ارتكبوا جرائم حرب وتمكنوا من الحصول على قلعة آمنة لهم في السويد. والمشكلة القانونية التي وقعت فيها السلطات السويدية أن هناك ثلاثة قرارات دولية تتعارض مع بعضها بعضاً تحكم التوجه تجاه هؤلاء. فلو عملت استوكهولم بحسب قرار جنيف لحقوق اللاجئين لسنة 1951 لكان في إمكانها طرد هؤلاء إلى بلادهم أو البلاد التي قدموا منها لأن هذا القرار لا يشمل مجرمي الحرب. لكن قرار جنيف يتضارب مع قرارين أوروبيين لحقوق الإنسان وقرار للأمم المتحدة صدر عام 1984 يحمي هؤلاء الأشخاص. وبين الحاصلين على حق اللجوء في السويد ممن يعتقد بأنهم ارتكبوا جرائم حرب عناصر تنتمي إلى ميليشيا "جيش لبنانالجنوبي" التي كانت تابعة لاسرائيل إبان احتلالها جنوبلبنان، وأخرى من حزب العمال الكردستاني الذي يتزعمه عبدالله أوجلان الذي يقضي حكماً بالسجن المؤبد في تركيا، ومقاتلون من جبهة "فارك" الماركسية في كولومبيا، وعناصر من جهاز الاستخبارات الافغاني خاد الذين ارتكبوا جرائم حرب في أفغانستان أبان الاحتلال السوفياتي لبلادهم، إضافة إلى مجرمين ارتكبوا جرائم حرب في البوسنة. ودفع هذا النقاش المحتدم السويد التي لا ترغب في اكتساب سمعة إيواء عناصر مجرمة على أراضيها، إلى تشكيل مجموعة عمل مهمتها التحقق في إمكان محاكمة هؤلاء في السويد أو درس إمكان إبعادهم إلى دولهم أو الدول التي أتوا منها، أمثال عناصر جيش أنطوان لحد الذين قدموا من إسرائيل. وتعمل هذه المجموعة تحت مظلة دائرة الإجرام العامة التابعة للشرطة السويدية ويديرها هانس أولفي برو، وهو مسؤول سابق لمجموعة التحقيق في اغتيال رئيس وزراء السويد أولوف بالمه. وأوضح أولفي برو ل"الحياة" أن "مهمتي أن أدرس ملفات هؤلاء وأحاول درس إمكان محاكمتهم في السويد. نحن نعرف أن هناك مجموعات أصعب من غيرها في الحصول على معلومات حول الجرائم التي ارتكبتها. لو أخذنا الذين يعتقد بأنهم ارتكبوا جرائم في الحرب اليوغوسلافية، مثلاً، فأقول لك إن هذه المجموعة يسهل الحصول على معلومات وشهود عليهم خصوصاً أن هناك تعاوناً مع السلطات الحالية في تلك المنطقة. أما في ما يتعلق بعناصر ميليشيا جيش لبنانالجنوبي فلا أخفي أن الوضع أكثر صعوبة ولا أعتقد بأن الحصول على أدلة ضدهم سيكون سهلاً". وبحسب معلومات دائرة الهجرة، يوجد في السويد نحو 150 شخصاً كانت لهم صلة بميليشيا لحد، يحمل معظمهم تصاريح إقامة، لكن أكثر الإقامات التي حصلوا عليها موقتة ريثما يقرّر مصيرهم. وأكد الخبير في شؤون الشرق الأوسط في دائرة الهجرة ماغنوس رودين أن من بين عناصر لحد من يعتقد بأنه ارتكب جرائم حرب في لبنان. وأوضح: "أكثريتهم خدموا في ميليشيا جيش لبنانالجنوبي كضباط مدفعية ومسؤولي مواقع ويوجد أيضاً جنود عاديون. ونعتقد بأن عدداً منهم أقدم على ارتكاب جرائم حرب من أنواع مختلفة، انطلاقاً من التعذيب النفسي والجسدي لسجناء ومواطنين في المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، ووصولاً إلى عمليات قتل واغتيال. ولا يمكننا أن نعلن أسماء هؤلاء الأشخاص لأسباب تتعلق بأمنهم، لكن هناك محاولة جدية للنظر في إمكان محاكمتهم في السويد". وتوجد معايير قانونية يجب أن تكتمل قبل إحالة أي من هؤلاء إلى المحاكمة وتوجيه التهم إليهم، أهمها تقديم إثباتات مادية تدينهم وإحضار شهود تضرروا من أفعالهم. وأفاد أولفي برو أن "المعلومات التي نبني عليها شكوكنا في أن هؤلاء ارتكبوا جرائم حرب، تنطلق من رواياتهم التي يقولونها لنا عندما يتقدمون بطلبات لجوء. لكن هذه الروايات غير كافية لمحاكمتهم، ولذا نتعاون مع منظمات غير حكومية، ومع سفاراتنا في الدول التي نعتقد بأن هؤلاء ارتكبوا جرائهم. وفي ما يتعلق بعناصر جيش لبنانالجنوبي نواجه صعوبات في الحصول على معلومات من إدارات لبنان الرسمية. فمعلوم أنه طوال فترة احتلال إسرائيل لجزء من لبنان لم يكن للسلطة اللبنانية وجود هناك، وهؤلاء ارتكبوا جرائهم في المناطق الخارجة عن نطاق سيطرة السلطة اللبنانية والتي كانت خاضعة للأمن الإسرائيلي. ونحن نعرف أن إسرائيل التي كانت تسيطر على المنطقة لن تزودنا بأي تفاصيل عن تلك الجرائم". لكنه أشار إلى أنه في حال امتلاك السلطات اللبنانية معلومات تدين هؤلاء وتسهل المسار القانوني فإن السويد "ترحب بالتعاون اللبناني لتزويدنا بكل ما عندهم من أدلة ومعلومات لتسهيل إمكان محاكمة هؤلاء أمام محكمة سويدية". ومعلوم أن القانون السويدي يسمح بطرد أو تسليم شخص تتهمه سلطات بلاده بارتكاب جرائم حرب شرط عدم تطبيق الإعدام في حق من يدان من هؤلاء. ويقول المسؤول في دائرة الهجرة ماغنوس رودين إنه في حال "حصلت السويد على ضمانات من لبنان بعدم تطبيق حكم الإعدام أو تعرض المدانين للتعذيب فهذا سيسهل إمكان تسليمهم إلى لبنان". ولكن بغض النظر عن إمكان محاكمتهم أو إعادتهم إلى لبنان، لا يبشر مستقبل عناصر ميليشيا أنطوان لحد في السويد بالطمأنينة، إذ إن استوكهولم تعمل جهدها للتخلص منهم بأي طريقة. ويوضح رودين أن معظم عناصر لحد قدموا إلى السويد عبر إسرائيل "وأكثريتهم تحمل تصاريح عمل وإقامة في اسرائيل التي غادروها بطرق غير شرعية. ولو أردنا تطبيق القانون الآن فإن هؤلاء يجب أن يعادوا إلى إسرائيل لأنهم يحملون تصاريح إقامة فيها. وعلى رغم أن الدولة العبرية ترفض استقبالهم الآن، لكن هذه الأمور يمكن حلها عندما تناقش على مستوى سياسي عال بين الجانبين". وأكد رودين أن البلدين يناقشان حالياً إمكان إبعاد مسؤول سابق في معتقل الخيام إلى إسرائيل، يعتقد بأنه ارتكب خروقات لحقوق الإنسان، وفي حال تمكنت استوكهولم من إبعاده إلى إسرائيل التي يحمل تصريحاً بالإقامة فيها، سيفتح ذلك الباب أمام إعادة بقية عناصر "جيش لبنانالجنوبي" الذين لجأوا إلى السويد بعد تحرير الجنوباللبناني، كما يمكن أن يثير ذلك الموضوع في دول غربية أخرى مثل الدنمارك وكندا وألمانيا. ومعلوم أنها ليست المرة الأولى التي تحاول السويد التخلص من عناصر "جيش لبنانالجنوبي". إذ أرسلت تل أبيب بعد تحرير جنوبلبنان وفداً رسمياً إلى استوكهولم ناقش مع رئيس الوزراء السويدي يوران برشون إمكان استقبال السويد نحو 500 عنصر من ميليشيا لحد، لكن برشون رفض الطلب الإسرائيلي، من دون أن يقفل الباب نهائياً، وأكد للاسرائيليين أنه في حال أتى أفراد من عناصر لحد إلى السويد فستدرس الدوائر المختصة كل طلب على حدة. وهو ما شجع على إرسال هؤلاء إلى السويد متفرقين بعد تزويدهم جوازات سفر مزورة. ويرى المراقبون في محاولات السويد لطرد المتهمين بارتكاب جرائم حرب خطوة للتخلص من أفراد يشكلون عبئاً أمنياً على البلد. إذ إن عدداً كبيراً من العناصر الميليشيوية لعبت دوراً أساسياً في نقل أساليب الاحتيال والإجرام إلى السويد وإلى الدول الأخرى التي قدموا إليها. ومن الحالات التي أثيرت أخيراً قضية المسؤول السابق في جماعة لحد حسين علي عباس الموجود في الدنمارك والذي اعترف بأنه شارك مع رفيقه في ميليشيا لحد، اللبناني إبراهيم الحلبي المسجون في الدنمارك، في اغتيال الشيخ راغب حرب وتسهيل مهمة خطف الشيخ عبدالكريم عبيد. وأصبح حسين علي عباس الذي سهلت له إسرائيل الهروب إلى الدنمارك عنصراً أساسياً في عصابات السرقة وتهريب المخدرات والدعارة وابتزاز الأموال. وحكم عليه مرات عدة بجرائم مختلفة في الدنمارك، آخرها الاتجار بالمخدرات وابتزاز أموال ثلاثة رجال أعمال عرب بعد تصويرهم في أوضاع مشينة مع إحدى بنات الليل. وتخشى الدول الاسكندينافية من عدم قدرة المجموعات التي كانت تمارس الإرهاب في بلادها على الاندماج بالمجتمع الأوروبي واستمرارها في عالم الإجرام، لذا تعمل على التخلص منهم بأي طريقة. ويتوقع المراقبون هنا أن تشهد الأشهر القليلة المقبلة عمليات طرد لعدد كبير من هؤلاء.