قبل أن أستأنف من حيث توقفت أمس عن صدق محمد سعيد الصحاف مقارنة مع الكذب الأميركي والبريطاني قبل الحرب، وخلالها وبعدها، ان أقول ان أي نظام سيقوم في بغداد بعد سقوط صدام حسين سيكون أفضل من نظامه. هذا صحيح ولا ينتقص من صحته كذب المسؤولين الأميركيين والبريطانيين في تبرير الحرب، وفي ادارتها وفي نتائجها. جورج بوش قال مرة بعد مرة ان نظام صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، وبقي بعد سقوط النظام يصر على أنها ستوجد، ثم صمت لأن وجودها "غير مهم". ورئيس الوزراء توني بلير قال حرفياً ان برنامج أسلحة الدمار الشامل "نشط ومفعّل ومستمر"، ثم قال يوم بدء الحرب: "ان جنودنا رجالاً ونساء يحاربون جواً وبراً وبحراً لإزالة أسلحة الدمار الشامل الموجودة في العراق". وكان آخر تصريح له ان المقبرة الجماعية تبرر الحرب، وهو تصريح مرفوض مرتين فكلامه المسجل غير ذلك، ثم ان المقبرة تعود الى أيام كانت بريطانيا والولايات المتحدة حليفتين للعراق وتساعدانه ضد ايران، أو تسكتان عنه وهو يبطش بالأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب. الحرب التي شنت لسبب غير موجود واستعمل الأميركيون فيها سلاحاً من عناصره اليورانيوم المنضّب، أي من نوع السلاح الممنوع الذي كانوا يفتشون عنه، لا بد أن تنتهي نهاية خاطئة. ماذا في العراق اليوم؟ ما ليس فيه كهرباء أو ماء صالح للشرب، وما فيه سطو وتدمير واحراق مبانٍ رسمية، وبيع سلاح في الشوارع. اليوم في العراق "المحرر" لا يجرؤ سكان بغداد على ترك بيوتهم بعد الظلام، والطبقة الوسطى تشتري السلاح للدفاع عن نفسها، والصحافيون الأجانب تحدثوا الى محام هنا أو طبيب هناك، مسلح بكلاشنيكوف ليحمي نفسه وأسرته وبيته. بل ان الأميركيين جلبوا معهم جريمة لم تكن معروفة في بلادنا من قبل هي "كارجاكنغ" أو خطف السيارات من أصحابها بالقوة في الشوارع، وكان هناك حل محدود على الطريقة الأميركية أيضاً، فالكابتن ويل نوباور قال انه "وظف" اللصوص في منطقته من شرق بغداد، بدفع مرتبات صغيرة لهم، فكادت السرقات تنتهي. غير ان الجنرال ديفيد ماكيرنان، قائد القوات البرية الأميركية في العراق وأعلى العسكريين الأميركيين هناك رتبة، اعترف بأن وقف العنف والسرقات والتدمير والحرق سيحتاج الى وقت أطول. وقد أبدى أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي قلقهم من تدهور الأمن، وقال السناتور بيت دومينتشي: "أشعر بأننا ربحنا الحرب وخسرنا المعركة". ورد العسكريون بأن هناك 150 ألف جندي أميركي "فقط" في بلد بحجم كاليفورنيا. هل يريد القارئ كذبة "صحّافية" المستوى؟ المسؤولون الأميركيون في العراق برروا فشلهم بالزعم ان سبب انهيار الأمن بعد التحرير هو ان صدام حسين كان أطلق مئة ألف مجرم عادي من السجون، وان الجرائم من فعل هؤلاء، وأيضاً من أنصار النظام السابق كنوع من المقاومة للاحتلال... يعني ان صدام حسين مسؤول عن فلتان حبل الأمن حتى بعد سقوطه. لا بد ان هناك بعض الصحة في مثل هذا القول، غير أن الأكثر صحة هو ان عصابة اسرائيل خططت للحرب، ولتدمير العراق كبلد، ولم تخطط لما بعد الحرب. وقد أرسل الليكوديون في الإدارة أحدهم وهو الجنرال المتقاعد جاي غارنر ليدير العراق، وفشل الى درجة ان الإدارة الأميركية أرسلت مسؤولاً آخر فوقه. والمسؤول الجديد هو بول بريمر الذي تقتصر خبرته على مكافحة الارهاب وليس ادارة مدن. وقد اعترض عليه بسرعة الزعيم الكردي مسعود بارزاني لأنه عمل لهنري كيسنجر الذي يحمله الأكراد المسؤولية عن دعم صدام حسين ضدهم. بعض المسؤولين الذين جاؤوا مع غارنر ترك فعلاً، وبعضهم في الطريق. وكان يفترض ان يترك غارنر نفسه، إلا أن بريمر قال انهما سيعملان معاً، ما يعني ان غارنر قد يبقى بضعة أسابيع. مرة أخرى، مظاهر العنف لا بد ان تتوقف يوماً، والنظام القادم سيكون أفضل من نظام صدام حسين، لأنه لا يمكن أن يقوم نظام أسوأ. غير أن أسباب الحرب الخاطئة، وادارتها ونتائجها تظهر ان الإدارة الأميركية حاربت في المكان الخطأ، وفيما كان العراق يعاني من انفلات الأمن تعرضت أهداف مدنية في الرياض لهجوم ارهابي جبان أظهر أن الأميركيين هجموا على بلد لا يملك أسلحة دمار شامل، وليست له علاقة مع القاعدة، وأهملت الخطر الحقيقي الذي تمثله القاعدة. وأعود الى محمد سعيد الصحاف، أو "علي الكوميدي"، فهو قصر عن مستوى الكذب الأميركي مرة أخرى. والأميركيون بعد انفجار الخبر لم يقولوا ان عصابة شارونية دفعت البلاد كلها نحو حرب غير ضرورية، وانما أصدروا بيانات تقول ان السعوديين تجاهلوا تحذيرات أميركية عن توقع هجمات ارهابية وشيكة. الأميركيون حذروا فعلاً، ولكن ما قد لا يعرف القارئ هو انهم يحذرون كل يوم. وهم في بلادهم، وفي سفاراتهم في الخارج، وفي تعاملهم مع الدول الأخرى يصدرون تحذيرات دورية، بل يومية. وكان الراعي الذي قال "الذئب" مرتين وجد ان سكان القرية لم يصدقوه في المرة الثالثة. أما الإدارة الأميركية فتريد ان تكذب ألف مرة، ثم ان نصدقها في المرة الواحدة بعد الألف. لو كان محمد سعيد الصحاف ناطق رسمياً أميركياً لقصر في مهمته.