أصدر مجلس شورى الدولة اللبنانية قراراً بقبول الطعن الذي تقدمت به الرابطة المارونية لإبطال مرسوم الجنسية الذي صدر عام 1994 عن الحكومة اللبنانية ومُنح بموجبه سوريون وفلسطينيون واصحاب جنسيات اخرى الجنسية اللبنانية. وكان المرسوم في السنوات العشر الأخيرة مجال رفض وقبول من قبل الجماعات اللبنانية، فأعتبرت شخصيات مسيحية أنه ادى الى اخلال بالتوازن الطائفي، فيما رأى فيه آخرون مقدمة لتوطين الفلسطينيين في لبنان. النتائج الثقيلة والمرهقة للسياسات التي سلكتها الحكومات اللبنانية بعد اتفاق الطائف يبدو التراجع عنها امراً لا يقل ثقلاً وفداحة، خصوصاً ان هذا التراجع لا ينطوي على رغبة في تصحيح الأوضاع، وانما على مخاوف وتسويات هي جزء من آلة الدولة المتخلفة والطبقة السياسية التي نمت وتشكلت بفعل اكثر من عشر سنوات من الارتهان ومن اقفال باب التصدر في وجه غير المرتزقين على ابواب وُلاة الأمر. قبل نحو تسع سنوات وفيما كان الشاب الأردني داني جالساً في منزله في عمان اتصل به عبر الهاتف موظف في مكتب احد المسؤولين اللبنانيين. قال الموظف لداني "ان مرسوم التجنيس الصادر عن الحكومة اللبنانية والذي يتضمن اسمك يتطلب منك التقدم بأوراق حتى تحوز الهوية اللبنانية". وأضاف الموظف "طلبت ان يتم تسجيلك في سجلات نفوس مدينة بيروت لأن والدتك من هذه المدينة. الآن هذا الأمر صعب ولكي تنال الجنسية عليك ان تطلب تسجيلك في سجلات نفوس منطقة المتن الشمالي". وافق داني طبعاً على كلام الموظف، فالجنسية اللبنانية التي سعى اليها، والتي تتوافر شروطها لديه، هو ابن الأم اللبنانية والأب الفلسطيني، ستحرره من تلك الثنائية الأردنية - الفلسطينية التي يعيشها والتي تهدده في عمان. ومسألة نقل النفوس من بيروت الى المتن والاقتراع في الانتخابات النيابية لمصلحة "زعيم" المتن الممسك بملفات المجنسين، تصبح تفصيلاً يمكن التغاضي عن نتائجه. قبل نحو اسبوعين اصدر مجلس شورى الدولة اللبنانية قراراً قبل فيه الطعن الذي تقدمت به الرابطة المارونية لإبطال مرسوم التجنيس الذي منح الجنسية اللبنانية لنحو 160 ألفاً ممن تقدموا بطلبات لنيلها. ومجلس الشورى الذي قبل الطعن اعطى وزارة الداخلية اللبنانية حق النظر في سحب الجنسية من اي من الذين لا تتوافر فيهم شروط حيازتها. علماً ان وزير الداخلية الياس المر هو نجل النائب ميشال المر صاحب النفوذ الانتخابي الكبير في منطقة المتن الشمالي والساعي بوسائل كثيرة للإستئثار بتمثيل هذه المنطقة في البرلمان. الرابطة المارونية التي تقدمت بالطعن مدفوعة بمخاوف ما احدثه مرسوم التجنيس من خلل في التوازن الطائفي في لبنان، نظراً لشموله عدداً مضاعفاً لمسلمين اكثر من ثلثي المجنسين بموجب المرسوم هم من المسلمين بحسب مسؤولين لبنانيين، لطفت مخاوفها هذه بأخرى تقول ان هذا المرسوم سيكون مقدمة لتوطين الفلسطينيين في لبنان في اشارة الى شمول المرسوم عدداً من الفلسطينيين. اما ردود الفعل الأولى على قرار مجلس شورى الدولة والصادرة عن نواب ومسؤولين موارنة، خصوصاً تلك الفئة التي تمكنت من اعادة نسج علاقات مع سورية مكنتها من العودة الى الصدارة بعد انكفاء مديد عنها، فكانت ترحيباً مقروناً بالأشارة الى نزع الجنسية عن الفلسطينيين الذين نالوها "بغير حق". المجنسون الفلسطينيون هم المستهدف البديهي في عرف الساسة الموارنة الجدد، فهؤلاء ولكي يستقيموا في مواقعهم قاموا بحرف مشاعر الكراهية وتوجيهها الى ذلك المكان الضعيف والمنتهك في الجسم العروبي للدولة اللبنانية. لكن مرسوم التجنيس ضم مواطنين سوريين وبأعداد مضاعفة عن اعداد الفلسطينيين كما يؤكد مسؤولون لبنانيون ل"الحياة"، ولا يبدو ان الطعن يستهدف هؤلاء، ولا يستهدفهم ايضاً كلام النواب الموارنة، او من اصطلح على تسميتهم "موارنة سورية". وفي لبنان يبدو الميل لتحميل الفلسطينيين مسؤولية الأوضاع الناشئة عن تراخي الدولة وعجزها امراً من السهل الأتيان به، فسكان المخيمات هم الحلقة الأضعف من حلقات التبادل البائس بين الجماعات في لبنان. هذا الأمر عبر عنه بوضوح وزير الاعلام اللبناني الجديد ميشال سماحة حين وصف المخيمات الفلسطينية في لبنان بأنها بؤر للارهاب، متجاهلاً دور الحكومات اللبنانية ورعاتها في تحويلها الى ما هي عليه اليوم. لكن هذا الكلام يُشبع عداوات قديمة يمكن في حال استحضارها امتصاص نقمة المسيحيين على تعريب لبنان، وحرف هذه النقمة في اتجاه الفلسطينيين الذين لا حول لهم ولا دور في المأزق الراهن للبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً. وبغض النظر عن حركة المشاعر العرجاء هذه، يبدو ان قرار تجميد جنسية من مُنحوها لا يقل تعسفاً عن قرار منحهم الجنسية. فالمئة وستون الف لبناني جديد، هؤلاء لا يمكن القبض على مجريات حياتهم بسبب قرار خاطئ، خصوصاً انهم ليسوا المسؤولين عن هذا الخطأ. فخلال عشر سنوات قضوها لبنانيين كاملي الحقوق والواجبات باستثناء الحق بالترشح والتوظف في انتظار مرور عشر سنوات على لبنانيتهم، قام هؤلاء بتحويل حياتهم كلها بناء على هذا المعطى الجديد والمتمثل بقبولهم مواطنين كاملين. تزوج كثيرون منهم وانجبوا بناء على هذه الحقيقة، وأورث آباء اولادهم بناء عليها ايضاً. تملك معظمهم منازل وعقارات بناء على القانون الذي يمنع تملك الأجانب، وبعضهم مُنح تأشيرات دخول الى دول بسبب حيازته وثيقة سفر لبنانية، وشبان منهم التحقوا بالجيش اللبناني وآخرون صاروا ضباطاً فيه. آباء وافقوا على تزويج بناتهم من شباب يحوزون الجنسية. وقائع كثيرة املتها على هولاء حيازتهم الجنسية، ولذلك يبدو ان التراجع عن خطأ المرسوم في حال حصوله لن يتم الا بخطأ اكبر منه. انها الحقائق الثقيلة التي علينا نحن اللبنانيين تصريف نتائجها بعد عيشنا سنوات عجافاً في ظل دولة قاصرة ووصاية كان في حسبانها ايقاعنا بما وقعنا فيه. النائب والوزير السابق بشارة مرهج كان وزيراً للداخلية اثناء صدور المرسوم. ولكن بعد ثلاثة اشهر من صدوره تغيرت الحكومة وصار ميشال المر هو الوزير، اي في الفترة التي شرع فيها المجنسون تقديم ما طلب منهم من اوراق. مرهج قال ل"الحياة" ان مرسوم التجنيس استهدف حين صدر تصحيح اوضاع قائمة تتسم بالخلل وكان من الطبيعي ان ينطوي على اعداد غير متوازنة بين المسلمين والمسيحيين، فالمتقدمون بالطلبات كانوا على هذا النحو. ويرفض الوزير السابق اعطاء نسب لتوزع المجنسين على الطوائف والجنسيات السابقة لكنه يشير الى ان العدد الأكبر منهم هم من السوريين، مبرراً ذلك بأن اوضاعاً تراكمت منذ اعلان لبنان الكبير حالت دون منح الجنسية لآلاف يستحقونها، فيشير الى مجموعة رفضت فكرة لبنان الكبير بسبب مشاعرها القومية ورفضت بالتالي الهوية اللبنانية في حينها اي في ثلاثينات القرن الفائت واربعيناته، وفضلت هذه المجموعة الاحتفاظ بهويتها السورية، وهؤلاء بحسب الوزير من حقهم او من حق اولادهم استعادة الجنسية التي رفضوها، فتم منحهم الجنسية بناء على ذلك. المجموعة الثانية التي اشار اليها الوزير مرهج من مجموعات المجنسين من اصل سوري هم عشائر عرب الفاعور الذين منحت الجمهورية اللبنانية الأولى حين انشائها جزءاً منهم الجنسية وحجبتها عن جزء آخر، فكان لا بد من استكمال تجنيسهم. اما المجموعة الكبيرة الأخرى فهم عرب وادي خالد الذين قال مرهج انهم لبنانيون رفضوا الجنسية حين عرضت عليهم في بداية عهد الجمهورية اللبنانية بعد تخويفهم بأنهم سيخضعون للجباية وللجندية في حال تحولهم الى مواطنين لبنانيين، ومنذ ذلك الوقت وهم يسمون ب"مكتومي القيد". وإضافة الى عدم اشارة السياسيين الموارنة الجدد الى المجنسين السوريين، من المرجح ان اصابعهم لن تتوجه الى ابناء القرى السبع وهي قرى شيعية ضمتها اسرائيل الى اراضيها عام 1948 وهجرت ابناءها الى لبنان، واستمر هؤلاء من دون جنسية يعيشون كلاجئين او في وضع ما اصطلح على تسميته "جنسية قيد الدرس" الى ان عادت الحكومة اللبنانية ومنحتهم الجنسية في مرسومها الشهير عام 1991. واسباب استبعاد استهداف هؤلاء بقرار الطعن المقدم من قبل الرابطة المارونية كثيرة، منها ان لبنانية هؤلاء راجحة في الخرافة اللبنانية، ومنها ايضاً شيعيتهم التي تشكل حصانة اخرى في ظل تصدر الشيعة الحياة السياسية وتحالفهم المتين مع سورية، خصوصاً ان الكثير من ابناء القرى السبع هم اليوم من ناخبي حركة امل وحزب الله. ومن بين المجنسين في المرسوم المطعون فيه بحسب المصادر اللبنانية نحو 800 ايراني و600 تركي و500 فرنسي و90 كندياً. ومن بينهم ايضاً نحو 2200 مصري معظمهم من الأقباط والكثير من الأرمن السوريين. وتشير مصادر المعارضة اللبنانية الى قيام النافذين في وزارة الداخلية بالفرض على المجنسين في حينها تسجيل نفوسهم في منطقة المتن الشمالي تحت تهديد اعادة النظر في منحهم اياها وذلك لأهداف انتخابية، وكانت النتيجة ان تسجل في نفوس المتن نحو 15 ألف مجنس منهم عرب رحل مقيمون بين لبنان وسورية ومواطنون سوريون وقسم من ارمن سورية وسريان مسيحيون من اصول سورية. ومجنسو المتن وزعت قيودهم على بلدات الساحل المتني، وهي حواضر مدينية اقل ممانعة في تقبل وافدين غرباء الى سجلاتها مثل بلدات سد البوشرية وبرج حمود وسن الفيل وانطلياس. ولكن على رغم ما عانت منه المعارضة لجهة توظيف اصوات الناخبين المجنسين في المتن ضدها فلا يبدو ان قرار قبول الطعن بالمرسوم قد خلف ارتياحاً في اوساطها، باستثناء تلك الأصوات من خارج قرنة شهوان كالنائب نعمة الله ابي نصر ووزير الاعلام ميشال سماحة، ومرد ذلك الى ان قرار القبول بالطعن اعطى وزارة الداخلية حق اعادة النظر بملفات المجنسين وسحب الجنسية ممن لا يستحقها، ووزارة الداخلية في لبنان هي "امارة آل المر" منذ ما يقارب العشر سنوات كما هي وزارة العمل "امارة الحزب السوري القومي الأجتماعي". وآل المر هم الخصم الانتخابي للمعارضة، ومثلما اتيحت لهم فرصة اختيار المجنسين الذين يرغبون في تسجيلهم في نفوس المتن ستتاح امامهم هذه المرة فرصة شطب جنسية من لم يوالهم من هؤلاء في السنوات العشر السابقة. المسألة الأهم في اراجيز مقاومة التوطين اللبنانية التي اطلقها المرحبون بقرار قبول الطعن بمرسوم التجنيس كان نزع الجنسية عن متسللين فلسطينيين لا يستحقون الجنسية، وحصر النتائج بهؤلاء، وبعد ان حذفنا من المطعون بجنسيتهم السوريين والمسيحيين وابناء القرى السبع وابناء منطقة عرب وادي خالد والمجنسين القلائل من اصول آسيوية واوروبية، فسنحصل على رقم صغير هو هامش الخطأ الطبيعي في اي تنفيذ اداري لعمل من هذا النوع، اما الخطأ الكبير في المرسوم فلا يبدو ان السلطة اللبنانية ناضجة بما يكفي للتصدي له. فالمئات القليلة من المجنسين المهددين بنزع جنسيتهم لا يهددون بالطبع التوازن الطائفي بقدر ما يهدده ذلك الاستئثار المضني بالقرار السياسي. والمصفقون لقرار قبول الطعن انما يصفقون مدفوعين برغبات مريضة، بعدما اجهض ولاة امرهم اي امكانية لتصحيح الأوضاع الناشئة عن عشر سنوات من السياسات التي يصب معظمها في خانة تفكيك اي نسيج طبيعي كان تشكل حول التجربة اللبنانية السابقة.