ما يدفع الى طرح هذه القضية هو الموقف العربي المرتبك الحالي واتجاه الولاياتالمتحدة الى استثمار ما حققته في العراق بالضغط على سورية وسؤالها عن اسلحتها الكيماوية من دون ان تسأل إسرائيل عن اسلحتها النووية والكيماوية والبيولوجية. والمطروح هنا فرضية أنه رغم أن فرنسا وألمانيا عارضتا علناً وبقوة استعمال الولاياتالمتحدة وبريطانيا القوة المسلحة ضد العراق تحت ادعاء نزع أسلحة الدمار الشامل، وعارضتا صدور قرار ثانٍ لمجلس الأمن يجيز استعمال تلك القوة، إلا أن فرنساوالمانيا من الناحية الفعلية تفاهمتا، وإن شئت فقل تواطأتا مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا، لإخراج مسرحية دولية محبوكة يبدو فيها بعض القوى الغربية فرنساوالمانيا كأنها تؤيد الحل السياسي وتحاول حماية العراق من العدوان، بينما يبدو بعض القوى الأخرى وهي توجه للعراق اتهامات تبرر استعمال القوة العسكرية ضده. بدأت "المسرحية" - وهذا الوصف هو مجرد "فرضية" أولية حتى الآن - بإصدار القرار الرقم 1441، وبدا من مناقشات مجلس الامن أن فرنساوالمانيا تعارضان اللجوء الى حل عسكري وتطالبان بحل سلمي قوامه التفتيش الدولي. وهكذا عاد المفتشون الى العراق، وبدا أن عودتهم طريق لتفادي العدوان، وسمح العراق لفرق التفتيش بأن تصول وتجول بحرية في انحاء البلاد، وأن تعاين كل المواقع بما في ذلك القصور الرئاسية، وبأن تستولي على الوثائق والمواقع وترفع القياسات، وتحدد أماكن المباني المهمة في العراق. كل ذلك والحشد العسكري الاميركي - البريطاني يتصاعد في منطقة الخليج. وكان مشهداً غير مسبوق في التاريخ، أن ترى القوات الانغلو - اميركية تتدفق قرب الحدود العراقية ويزداد حشدها، في الوقت الذي يقوم العراق بتدمير صواريخ "الصمود"؟ أعتقد أن القارئ يمكن أن يتفق معي بأنه لم يسبق ان حدث موقف مماثل اذ توشك معركة مسلحة أن تبدأ، ويزيد أحد الأطراف حشد قواته وأسلحتها، فيما يدمّر الآخر أسلحته. والحق، أنني تصورت أن العراق فعل ذلك لأنه حصل على ضمانة أمنية فرنسية على الأقل قوامها عدم السماح بالعدوان المسلح، مقابل السماح لفرق التفتيش بالعمل بحرية. وتبين أن مثل هذه الضمانة لم يقدم أبداً، بل إن فرنساوالمانيا لم تعترضا على الاجراءات التي اتبعت للتمهيد للحرب مثل ازالة السور الحديد الذي يحدد خط الحدود العراقية - الكويتية، والذي اثبته قرار سابق لمجلس الأمن. فإزالة هذا السور كانت إعداداً متقدماً للمسرح وفتحاً للطريق امام الدبابات الانغلواميركية. وكذلك لم تعترض الدولتان على قرار كوفي أنان سحب المفتشين الدوليين من العراق، واكتفى المندوب الالماني في مجلس الامن بالقول إن أنان ابلغ اعضاء المجلس بسحب المفتشين، وأننا أحِطنا علماً بذلك. وهذا على رغم أن ارسال المفتشين أو المراقبين وسحبهم من اختصاص المجلس، وكان يمكن أن يتم وقف سحب المفتشين لعل ذلك يعطل بدء الحرب. واحتج البعض بأن يوثانت، الأمين العام للامم المتحدة السابق، سبق ان سحب بقرار منه قوات الطوارئ الدولية من سيناء في آيار مايو سنة 1967 بناء على طلب مصر. ومن ثم، فإن أنان سار على نهج سلفه، والواقع ان القياس هنا غير وارد لأن قرار يوثانت كان مبنياً على طلب الدولة المضيفة للقوات الدولية، وكان رفض الطلب يعني تحدي سيادة تلك الدولة، في وقت كان لسيادة الدولة وزن. أما قرار أنان فبني على طلب الدولة التي تنوي ارتكاب العدوان خصوصاً ان الدولة المضيفة للمفتشين لم تطلب منهم الخروج، بل ألحت على بقائهم. ولم يحتج الفرنسيون ولا الالمان على ذلك، بل اكتفوا بأخذ العلم. بمجرد أن بدأت الحرب، أدارت فرنساوالمانيا وجهيهما في اتجاه آخر، فلم تطلب أي منهما عقد جلسة لمجلس الأمن أو دورة طارئة للجمعية العامة بناء على صيغة "الاتحاد من أجل السلم" لممارسة ضغط سياسي عالمي على الدولتين المعتديتين لانتهاكهما ميثاق الاممالمتحدة بارتكاب عمل عدواني مخالف لأحكام الميثاق، وذلك رغم تصريح وزير الخارجية الالماني يوشكا فيشر يوم 20 آذار مارس، أي يوم اندلاع الحرب ب "أن يوم بدء الحرب على العراق هو يوم حزين للعالم، لأن الحرب هي أسوأ خيار يمكن اللجوء اليه لحل الازمات". ورغم ادانة جان بيار رافاران، رئيس وزراء فرنسا، للولايات المتحدة يوم 3 نيسان ابريل باعتبارها ارتكبت خطأ سياسياً واخلاقياً واستراتيجياً بشن الحرب. فكل ذلك لم يكن مبررا لدعوة مجلس الأمن للانعقاد وتقديم مشروع قرار بوقف الحرب، وإحراج الولاياتالمتحدة بدفعها الى استخدام الفيتو. بل إن السفير الفرنسي لدى واشنطن صرح في اول يوم للحرب بأنه اذا ما استعمل العراق اسلحة دمار شامل ضد القوات الاميركية او البريطانية، فإن فرنسا ستقف ضد العراق لأن استعمال تلك الاسلحة مخالف للقانون الدولي، على حد قول السفير، وكأن ما فعلته القوات الاميركية والبريطانية يتفق مع القانون الدولي. هددت فرنسا، اذن، بالوقوف الى جانب المعتدي، ولم تهدد ابداً بمساعدة المعتدى عليه. ولم يتذكر السفير ان الولاياتالمتحدة سبق ان استعملت اسلحة الدمار الشامل ضد اليابان عام 1945 وضد فيتنام عام 1967. بل إن رئيس اركان الجيش الفرنسي صرح يوم تحدث رئيس الوزراء بأن جيشه مستعد لأي مهمة في "مرحلة ما بعد الحرب على العراق". أي بعد ان تنتهي الولاياتالمتحدة من مهمتها. وفي اليوم ذاته 3 نيسان ابريل جعل شرودر المسألة أكثر وضوحاً في خطابه أمام البرلمان الالماني حين قال إن بلاده ستمنح القوات الاميركية حقوق الطيران في اجواء المانيا، وحق الدخول بحرية الى قواعدها. واضاف المستشار الالماني انه يأمل أن تنتهي الحرب بأسرع وقت ممكن، معتبراً أن الشعب العراقي سيتمكن عبر إطاحة الدكتاتورية من تحقيق حلمه بالعيش بسلام وحرية. ولم يتعرض شرودر الى ما اذا كان تحقيق هذا الهدف يمكن أن يتم عن طريق تدمير العراق بالوسائل العسكرية. ولكي تكتمل الصورة جاءت تصريحات رافاران في 31 آذار مارس لتؤكد أن "الحكومة الفرنسية لا تتمنى أن تنتصر الدكتاتورية العراق على الديموقراطية الولاياتالمتحدة، وأن معسكر فرنسا هو معسكر "الديموقراطية". وفي 3 نيسان ابريل صرح السفير الالماني لدى واشنطن بأنه رغم ان بلاده تعارض الحرب على العراق، "إلا أنها مازالت تقدم مساعدة تفوق ما يقدمه كثير من اعضاء الائتلاف الذي تقوده الولاياتالمتحدة للإطاحة بصدام". وأضاف السفير مخاطباً الشعب الاميركي: "اننا نعمل معكم ولكم بشكل أكبر من معظم اعضاء هذا الائتلاف. إننا مازلنا شريكاً وحليفاً لكم". الألمان إذن، على حد قول سفيرهم في واشنطن، عارضوا الحرب، ولكنهم قدموا المساعدات للدولة المعتدية تفوق ما قدمه الذين ايدوها علناً. والحق ان هذا الموقف ليس بجديد على المانيا. فقد دعت المانيا مراراً الى التسوية السلمية لأزمة الشرق الاوسط، ولكنها في الوقت ذاته باعت لإسرائيل خلال الأعوام الخمسة الاخيرة ثلاث غواصات قادرة على حمل صواريخ ذات رؤوس نووية قيمتها تصل الى 1050 مليون دولار، إحداها اعطاها شرودر هدية لإسرائيل بمناسبة زيارته للشرق الاوسط سنة 2000. في 8 نيسان ابريل زاد فيشر الامر وضوحاً اثناء زيارته لإسرائيل، اذ اعتذر علناً للولايات المتحدة عن المشاجرة التي جرت معها حول ضرب العراق، مشيراً الى أن العلاقات بين ضفتي الاطلسي حاسمة بالنسبة الى الأوروبيين والاميركيين. وفي 15 نيسان ابريل صرح شرودر بعد مقابلته بلير في هانوفر "ليس سراً أنه كانت هناك خلافات في الرأي حول ضرورة الحرب إلا اننا نتفق الآن على أنه في هذه المرحلة الجديدة حان وقت السير قدماً والعمل سوياً". العمل سوياً مع من؟ مع الدولة التي ضربت مجلس الامن وارتكبت عدواناً ادى الى شبه تدمير لدولة عضو في الاممالمتحدة. فهل من المبالغة القول بأن المعارضة الفرنسية - الالمانية قبل الحرب كانت في حقيقتها جزءاً من إعداد المسرح؟ لا اتصور أن فرنساوالمانيا اخطأتا الحساب السياسي ثم عادتا لتصحيحه. فسياسات الدول الكبرى لا تصاغ بهذا الشكل، وانما اميل الى تصور ان الموقف الفرنسي - الالماني كان موقفاً محسوباً يدعم الولاياتالمتحدة من خلال مسرحية التفتيش الدولي لتتأكد الولاياتالمتحدة ان العراق ليس فيه اسلحة دمار شامل يمكن أن تلحق الأذى بقواتها، ولترصد من على الأرض خرائط المدن العراقية، ولتربك العالم العربي بطرح وهم ان هناك معارضة اوروبية تتفق مع الموقف العربي المعارض. وبمجرد تصميم الولاياتالمتحدة وبريطانيا على شن العدوان لم تعترض فرنسا ولا المانيا، بل سارعتا الى التأييد. إن دلالة الفرضية التي اطرحها، إن صدقت، هي ان الدول المستهدفة التالية يجب ألا تركن الى ما يمكن أن تتصوره دعماً اوروبياً، وان الحديث عن انشقاق اوروبي - اميركي، او وجود تحالف فرنسي - الماني مستقل عن الولاياتالمتحدة او معادٍ لها هو امر سابق لأوانه، وعلى المستهدفين في المراحل التالية ان يستوعبوا هذا الدرس. * أستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة.