في مقال "المثقف العربي بين إهمال سعد الدين إبراهيم والاحتشاد من أجل صدام حسين" المنشور يوم الأربعاء الماضي وقع الكاتب المبدع رؤوف مسعد في مجموعة من المغالطات والتناقضات، كما فاته بعض الحقائق. بنى مسعد فكرته على المقارنة بين إهمال معظم المثقفين العرب قضية سعد الدين إبراهيم باعتبارها نموذجاً للانتهاكات اليومية ضد حقوق الإنسان "في مقابل رفع شعار أولويات المعركة الآنية التي هي التصدي للتدخل الخارجي". والحقيقة هي أن قطاعاً لا يستهان به من المثقفين المصريين ومنظمات حقوق الإنسان دافعوا بكل قوتهم عن سعد الدين ابراهيم واحتفوا بالافراج عنه، وأقامت أكثر من جهة ندوات ومؤتمرات احتفالاً بتبرئته، وليس أدل الى هذا الموقف الشريف من أن حيثيات حكم البراءة الذي اصدرته محكمة النقض برئاسة المستشار فتحي خليفة 18 آذار / مارس 2003، استشهدت بكتابات عدد من هؤلاء المثقفين منهم سلامة أحمد سلامة وميلاد حنا والدكتور ابراهيم دسوقي أباظة والدكتور محمد السيد سعيد والدكتور سعيد النجار وفريدة النقاش، وكانوا نشروها في كل مراحل القضية، على رغم أجواء التحريض والاتهامات الكاذبة التي وجهتها إليه الدوائر الحكومية، وساندها فيها مثقفون لم يكونوا غالبية وإن علت أصواتهم بصورة غوغائية. وهو يلوم المثقفين العرب الذين اكتووا بنار غياب الديموقراطية، كما يعلم هو - وهو نفسه واحد من ضحايا بعشرات الآلاف لهذا الغياب - يلومهم لترددهم في اتخاذ موقف في خندق الديموقراطية حتى تلك التي تأتي بها الجيوش، وهو نص تعبيره مفزع. فهو يريدنا إذاً أن نهلل لجيوش الغزاة الذين جاؤوا بديموقراطية محمولة على أجنحة الصواريخ كروز وتوماهوك وطائرات "بي 52"، ولكي يرسخوا هذه الديموقراطية يعملون قتلاً في المدنيين العراقيين ربما ليطهروا نفوسهم من آثار الاستبداد ويجعلوهم ديموقراطيين في الآخرة. والغريب أن رؤوف مسعد يصدق بهذه البساطة دعوى الأميركيين أنهم قادمون بالديموقراطية والتحرير، وهي الدعوى التي لم يصدقها أحد في العالم حتى نسبة كبيرة من الأميركيين أنفسهم وفي مقدمهم بعض كبار المثقفين. وانخرط العراقيون في المقاومة ضد المحتل الغازي، ليس لأنهم يعانون من حال مازوكية أساسها تعذيب الذات والدفاع عن الجلاد الذي يحكمهم والذي قاوموه بكل السبل. ولكن، ببساطة شديدة، لأنهم يدافعون عن الوطن، وهم لم يظهروا حماسة من قبل لحرب غزو الكويت لأنها كانت عملية احتلال لوطن آخرين. فعلى رغم كل إدعاءات العولمة وما بعد الحداثة، وعلى رغم الروح العدمية التي روجت لها الثقافة التجارية الاستهلاكية للرأسمالية التوحشية التي يستحيل أن تكون قوة تحرير، فإن معنى الوطن لا يزال نابضاً بالحياة فواراً وملهماً، وهو المعنى الذي يتضافر بصدق وأصالة مع هذه الروح الأممية العالية التي تتجلى في النضال الشعبي في الغالبية العظمى من بلدان العالم تضامناً مع شعب العراق وقضيته التي هي حماية بلاده من الغزو الأجنبي ومقاومة هذا الغزو. ولا ترفع تظاهرات هؤلاء صور صدام حسين ولا تهتف باسمه وإنما ترفع أعلام العراق وفلسطين. وأقول أيضاً إنني شاركت في عدد كبير من التظاهرات التي اندلعت في مصر قبل الحرب على العراق وبعدها ولم يرفع أحد صور "صدام حسين" أو يهتف باسمه - إلا في ما ندر - بل كان الهتاف الرائج ولا يزال "بالروح بالدم نفديك يا بغداد"، تعبيراً عن حس شعبي بسيط وأصيل، يعرف أن المستهدف هو الوطن العراقي وليس النظام الذي نكّل بشعبه وارتكب من الحماقات السياسية والجرائم ما لا يحصى. أما المقارنة مع الحملة الاستعمارية الفرنسية على مصر والتي كانت المطبعة واحدة من ثمارها التنويرية، فإن لذلك حديثاً آخر طويلاً عن الأوضاع في مصر قبل الحملة ومدى نضج هذه الأوضاع للتغيير الذي قطعت الحملة الاستعمارية عليه الطريق، كما يرى كثير من الباحثين والمؤرخين، ولكن المهم في هذه المقارنة وما تجاهله رؤوف مسعد تحديداً هو أن الشعب المصري احتشد ضد هذه الحملة وحاربها حتى هزمها وخرج الغزاة مدحورين، في زمن كان فيه الوطن لا يزال وعياً جنينياً مرتبطاً بالدين، وكانت الأمة في وعي الشعب هي الإسلام، وهو ما قد يفسر اختيار علماء الأزهر وزعماء المقاومة لمحمد علي لكي يحكم البلاد باسم الخليفة، ولم يكن ذلك لأن نوعاً من "الخنوع" متأصل في المثقفين جينياً، كما يريد مسعد أن يوحي في تحليله للواقعة ليقول إن مساندتهم للاستبداد عريقة. إن سجل أميركا في سحق الثورات الديموقراطية طويل، من أندونيسيا لشيلي ومن فنزويلا لفلسطين للعراق نفسه حين ساندت صدام حسين ضد الانتفاضة الشعبية العارمة التي اندلعت بعد حرب الخليج الثانية في جنوبالعراق، وامتدت لعدد كبير من محافظاته، لكن، لأن الاميركيين كانوا يريدون الاحتفاظ بصدام لتخويف نظم الخليج حتى تأسيس القواعد العسكرية وترسيخها فيه تركوا الانتفاضة نهباً لوحشيته. إنه النفط ورسم خريطة جديدة للشرق الأوسط لفرض الهيمنة الشاملة على العالم وحماية إسرائيل، وليست الديموقراطية هي الهدف يا رؤوف مسعد. * كاتبة مصرية. رئيس تحرير مجلة "أدب ونقد" القاهرية.