يعتبر الحصار الذريعة السياسية المثلى لتبرير كل ما يحدث في العراق، فكل الأحداث والأقوال خاضعة للتبرير بذريعة الحصار: جرائم السلطة، الاعتقالات، الإعدامات، إطلاق تهم التآمر والخيانة العظمى، السرقات، الانهيارات الأخلاقية، المضي قدماً في وضع المزيد والمزيد من برامج التقشف، منع وصول الأغذية والأدوية الى الجوعى والمرضى، إهمال المرافق الحياتية والإنسانية الضرورية، تحول المستشفيات الى مقابر وانهيار الجامعات. وكل هذا لا يتم من قبل المحفل الإمبريالي والصهيوني كما يدعي الخطاب الإعلامي والسياسي العراقي ويردده الذين هتفوا أثناء الغزو العراقي للكويت "بالروح بالدم نفديك يا صدام" جاعلين من الديكتاتور وثناً قومياً استمروا في عبادته حتى بعد أن وجه "زعيم الأمة والبطل القومي" كل قواه العدائية ليس الى حرق نصف إسرائيل، كما هدد قبيل نشوب الحرب، بل الى تدمير العراق وشن حملات إبادة منظمة للأكراد والشيعية في سياق عملية انتقامية مرعبة أدت الى مقتل عشرات الألوف في كردستان العراق والمناطق الجنوبية. حتى أن "مثقفاً كمحمد عابد الجابري صرح لإذاعة العراق الرسمية "إذاعة صوت الجماهير" في 3/3/1991 في أوج العمليات الوحشية لقوات الحرس الجمهوري لقمع الانتفاضة بأن ما يحدث في العراق الآن هو مؤامرة استعمارية صهيونية كبرى على المشروع القومي العربي النهضوي الذي يقوده صدام حسين، هكذا كان كثيرون يبررون سفك الدم العراقي بذريعة الحصار. والتساؤلات الأكثر ألماً التي يطرحها الفرد العراقي على ذاته وهو يواجه هذه الأصوات المؤيدة لصدام حسين بذريعة الحصار هو أين كانت هذه الأصوات لحظة اقتراف النظام العراقي الجرائم والفظاعات بحق قطاعات واسعة من الشعب العراقي حيث وصل العدد التقريبي للضحايا العراقيين الى حوالى نصف المليون. والواقع أن كل هذا الإهمال والبؤس للواقع العراقي الآن انهيار الخدمات الصحية والمرافق الإنسانية الحيوية يتمان من السلطة العراقية ذاتها وباسم الحصار، وذلك لترسيخ الوهم بأن كل ما حدث وسيحدث على أرض العراق سببه الوحيد الحصار الاقتصادي الظالم فقط. ولذلك باتت مفردات مثل المجاعة وتفشي الأمراض والموت الجماعي والكارثة الإنسانية عناوين بارزة تهيمن على الخطاب الإعلامي والسياسي العراقي ترافقها صورياً مسيرة التوابيت الجماعية المحمولة على السيارات وهي تخترق الشوارع وسط بغداد في مواكب جنائزية تتكرر بين فترة وأخرى، وذلك في إشارة إدانة واضحة للحصار المفروض على البلاد منذ بدايات العقد الماضي. ويأتي هذا الخطاب الحسي المثير للشفقة والمستوحى من علامات المشهد التراجيدي المتقن الذي أعد له بدقة وعناية لازمتين لإثارة عواطف الآخر - العربي والإسلامي والعالمي - ودغدغة مشاعره الإنسانية ومحاولة استجداء تضامنه وصوته، وكل هذا لأجل صياغة هدف سري غير معلن هو إعادة النظام العراقي الى الحظيرة الدولية. وبالتالي تبرئة نظام صدام حسين من كل ما حدث، ولكن يجب الإشارة هنا الى أن كل ما سبق لا يعني مطلقاً عملية تبرئة للاستراتيجية الغربية إزاء سياسة العراق أو للحصار وتأثيراته ونتائجه على صعيد الواقع العراقي، بقد ما أود التركيز هنا على عملية الاستغلال السلطوي للحصار إعلامياً وسياسياً، وجعله أداة تبريرية سهلة، وبالتالي إخضاع كل ما يحدث للمنطق التبريري القاتل الذي يُحلل كل شيء باسم الحصار من جهة، كما يحاول تبرئة القيادة العراقية من مسؤولية جريمة العراق من جهة أخرى. * كاتب كردي عراقي.