Michel Schneider. Big Mother: Psychopathologie de la vie Politique. الأم الكبيرة: علم النفس المَرَضي للحياة السياسية. Odile Jacob, Paris. 2002. 336 pages. هذا كتاب في التحليل النفسي للدولة. ليس اية دولة كانت، بل الدولة الديموقراطية الحديثة، وتحديداً الدولة الفرنسية. فقبل الديمواقراطية كان التصور الذائع عن الدولة هو التصور الأبوي. ففي عهد لملكية المطلقة كان الملك يسمى ابا الشعب. وفي روسيا القيصرية كان نيقولا الاول يقول: "لا تطرحوا عليّ اسئلة. فأنا أبوكم، وهذا جواب كاف عن اسئلتكم كافة". والثورة البلشفية نفسها لم تغير شيئاً في هذا التصور: فقد سمى ستالين نفسه ابا الشعوب، وتسمى باقي رؤساء الدول الدائرة في الفلك السوفياتي ب"الآباء الصغار". بل حتى في فرنسا الديموقراطية بقي الحكم السياسي ذا طابع ابوي نظراً الى ان النساء لم يمنحن حق التصويت الا عام 1952. وعندما توفي ديغول صرح خليفته بومبيدو: "اليوم قد ترمّلت فرنسا". ووجد بين الاعلاميين من ينعيه بالقول: "لقد تيتّم الفرنسيون". فالى حينه على الاقل كانت فرنسا كأمة تعتبر في اللاشعور الجمعي أماً، بينما كان رئيس للدولة بمثل قامة ديغول يُعتبر أباً، او على أقل تقدير زوجاً للام. الاطروحة المركزية التي ينطلق منها مؤلف "الأم الكبيرة" هي ان سلالة السياسيين الآباء قد انقرضت. ففرنسا، مثلها مثل اكثر الديموقراطيات الغربية تحولت، كما يقول عنوان كتاب شهير صادر في مطلع الستينات، الى "مجتمع بلا آباء". وكأكثر الديموقراطيات الغربية ايضاً عرفت مع احداث 1968، ثورة أبناء فاشلة. ومنذ ذلك الحين، ومع قيام عهد دولة الرفاه Welfare State دخلت الدولة في مرحلة "تأميم" علماً بأن الاشتقاق يحيل هنا الى "الأم" لا الى "الأمة". والتأميم هو غير التأنيث. فالطاقم الحاكم في فرنسا، رغم صعود اسماء سياسية نسوية بارزة في العهد الاشتراكي، مثل مارتين أوبري وسيغولين رويال، ما زال في غالبيته مذكراً. لكن رجال الدولة، لا سيما منهم من هم في قمة الهرم السياسي، باتوا حريصين في علاقتهم مع "ابناء" الشعب، على ان يتبدوا وكأنهم أم طيبة اكثر منهم أباً صارماً. وقد يكون التحول الكبير في الاعلام السياسي من الصحافة المقروءة الى الشاسة الصغيرة المرئية المسموعة قد لعب دوراً مهماً من هذا المنظور. فالزعماء السياسيون باتوا حريصين على تلميع صورتهم اكثر منهم على رسم برنامجهم. واكثر ما تتطلبه الصورة هو ان تكون محببة. والحال ان الحب هو مملكة الأم بلا منازع. وقد تضامن تسابق كل من الرئيس الحالي شيراك ومنافسه ورئيس وزرائه الاشتراكي السابق ليونيل جوسبان ليحول فرنسا في السنوات العشر الاخيرة الى دولة أموية حاضنة، حريصة على كسب حب المواطنين الابناء من خلال تقديم كافة التسهيلات الحياتية لهم، باعفائهم - على سبيل المثال - من الخدمة العسكرية، وبتخفيض ساعات العمل الى 35 ساعة في الاسبوع وبتعميم الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي للجميع بلا استثناء وبإجراء راتب ادنى ولكن دائماً لجميع العاطلين عن العمل. ويتجلى هذا التحول في الاسماء والاهداف المعلنة للوزارات التي استُحدثت في السنوات الاخيرة: وزارة لنوعية الحياة، ووزارة للتضامن الاقتصادي والسعادة واوقات الفراغ، ووزارة للاسرة وللاطفال وللامهات. وانه لمما له من دلالته من هذا المنظور ان تكون وزارة ابوية وذكورية خالصة، هي وزارة الدفاع، قد اسندت في حكومة رافاران الشيراكية الحالية الى امرأة. وقد كان ميتران نفسه الذي دشنت فرنسا في عهده دخولها في مرحلة الدولة الحاضنة، قد تقصّد ان يعيّن امرأة - هي اديث كريسون - رئيسة للحكومة في مبادرة رمزية هي الاولى من نوعها ايضاً في تاريخ فرنسا. ولا يماري مؤلف "الأم الكبيرة" في ان الدولة الأموية، هي والدولة الأبوية سواء من حيث النتيجة التي تتأدى اليها، ألا هي تطفيل المواطنين. لكن الدولة الاموية اكثر نكوصية بعد من الدولة الابوية من هذا المنظور. فمواطنو الدولة الابوية هم في الغالب اطفال مراهقون مطالبون بضبط دوافعهم الغريزية تحت طائلة قانون الأب. اما مواطنو الدولة الاموية فهم في الغالب اطفال رضّع لم يُفطموا بعد. وللأم عليهم سلطة الحياة والموت. فهم اطفال نهمون لا يعرفون للشبع معنى، ويطالبون ودوماً بالمزيد. وهذا ما يفسر ان الحياة السياسية في فرنسا قد تقلصت الى محض حياة مطلبية، واليمين واليسار لا شأن لهما الا ان يتنافسا على التلبية، والشعار المطلبي لهؤلاء "الابناء المدللين" واحد لا يتغير: عمل أقل دوماً وأجر اكثر دوماً. وقد يبلغ من دلال هؤلاء الابناء ان يتخذوا من باقي المواطنين رهائن وان يشلوا حياة الأمة واقتصادها، كما حدث في الاضراب المطلبي الكبير لسائقي سيارات الشحن عام 1998، وكما حدث ويحدث باستمرار في الاضرابات المطلبية المتكررة لعمال وسائقي المواصلات العامة من مترويات وقطارات ومطارات، لا سيما منها اضرابات عام 1995 التي شلت الحياة العامة في فرنسا شللاً تاماً لمدة اشهر. وفي مواجهة مطالب هؤلاء الاطفال ذوي النزوات فإن "الأم الكبيرة" لا تملك من خيار آخر سوى ان تلبيها، ولو حمّلت المجتمع - وهو من يدفع الفاتورة في محصلة الحساب - ما فوق طاقته. وعلى هذا النحو فان الدولة الفرنسية هي اليوم الدولة الأعلى تكلفة في العالم: فمستوى الاقتطاع الضريبي فيها يصل الى 47 في المئة من اجمالي الدخل القومي، كما ان العجز الذي تبيحه لنفسها في موزانتها لا يزال يرتفع باستمرار على رغم كل الوعود بتقليصه: فمن 40 في المئة عام 1962 وصل اليوم الى 5،60 في المئة. وتراكم هذه المديونية على رغم معدلات الاقتطاع الضريبي انما يدل على ان الدولة الفرنسية أم كريمة اكثر منها بصيرة. وككل ام يتجاوز كرمها قدرتها الفعلية على الانفاق، فانها تغدو كالأم "المعبوطة" التي لا تدري كيف تلبي جميع المطالب التي عودت اطفالها المدللين على مطالبتها بها. وهكذا اضطرت الدولة في عهد جيسكار ديستان 1974-1981 الى ان تفرض ضريبة القيمة المضافة TVA كتدبير موقت لسد العجز الموقت في الموازنة. لكن هذه الضريبة الموقتة ما لبثت ان صارت دائمة، بل رفعت في السنوات التالية من 6،18 الى 6،20 في المئة على جميع السلع والخدمات التي يستهلكها المواطن الفرنسي، خلا الغذائية منها التي بقيت محددة ب8،5 في المئة. ولم يف شيراك بوعده بتخفيضها في ولايته الثانية بنقطة واحدة يتيمة الا بقدر ما اضطرت حكومته الى فتح ملف انفجاري جديد هو ملف الرواتب التقاعدية. ذلك انه اذا ما ظل الفرنسيون اليوم يعملون اقل مما يعمل باقي زملائهم في الديموقراطيات الغربية ويخرجون الى التقاعد قبل ثلاث سنوات من خروج باقي زملائهم الاوروبيين، فان صناديق التقاعد التي ستكون في انتظارهم خلال السنوات العشرين او الثلاثين القادمة ستكون فارغة. فككل الاطفال المدللين فان الفرنسيين اليوم لا يعرفون كيف يخبئون قرشهم الابيض ليومهم الاسود. فالام الكبرى الحاضنة لهم علمتهم الا يطرحوا على أنفسهم سوال المستقبل. وبمفردات التحصيل النفسي الفرويدي فان الفرنسيين يعيشون اليوم في ظل مبدأ اللذة الأموي، من دون ان يحسبوا كبير حساب لمبدأ الواقع الأبوي. وما دمنا بصدد التحليل النفسي، فقد يكون من حقنا ان نطرح على مؤلف "الأم الكبيرة سؤالاً ختامياً: فاستعارته عن الدولة الحاضنة هي بلا ادنى شك استعارة مبتكرة، ومطابقة الى حد كبير لواقع المجتمع الفرنسي الذي يبدو انه في أشد الحاجة اليوم، وهو الغارق في نعيم دولة الرفاه، الى ان يعاود اكتشاف اهمية دولة العمل. لكن هل "تأممت" الدولة فعلاً في فرنسا ام نحن امام امومة كاذبة ناجمة عن النزاع العقيم بين اليمين واليسار الفرنسيين اللذين ما فتئا يتنافسان على استمالة قلوب الفرنسيين بإجزال الوعود لهم في كل معركة انتخابية مستجدة، من دون اعتبار لقدرة الواقع الاقتصادي الفرنسي على تلبية هذه الوعود؟ أنحن إذاً امام رواية عائلية عصابية ام امام انتهازية سياسية متأصلة في الحياة الحزبية الفرنسية؟ وبالاضافة الى هذا السؤال العام، قد يكون من حقنا، من وجهة نظر التحليل النفسي دوماً، ان نطرح سؤالاً اكثر خصوصية: الا تخفي هذه الكراهية للدولة من حيث هي "ام كبيرة" كراهية شخصية لدى مؤلفنا "للأم الصغيرة"؟ وعندما يقول: ان فرنسا مريضة بدولتها مثلما بعض الاطفال مرضى بأمهاتهم، افلا نجد انفسنا امام نوع من "عودة المكبوت" من خلال قراءة اسقاطية محكومة بالتجربة النفسية الذاتية، للحياة السياسية العامة في فرنسا المعاصرة؟