ابراهيم الحيدري. النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب. دار الساقي. 2003. 432 صفحة. تفيد الأبحاث التاريخية والانثروبولوجية في دراسة اساطير العالم القديم ورموزه وآثاره ان المرأة تبوأت مكانة عالية في العائلة والمجتمع والسلطة في مراحل حضارية مبكرة من تطور المجتمعات الانسانية. من هذه النقطة الغابرة في القدم يبدأ الباحث ابراهيم الحيدري سفره الذي يجمع بين السرد والوصف والتحليل والاستقراء مسلطاً الضوء على اشكالية النظام الأبوي البطريركي والجنس في العائلة والمجتمع والسلطة من منظور سوسيو ثقافي. فقد ظهر احترام المرأة وتقديرها وسيطرتها على المجتمع مع اكتشاف الزراعة واستقرار الانسان على الارض وظهور الدين "لأن مبدأ الخصوبة في الأرض هو نفسه مبدأ الخصوبة عند المرأة"، كما يذهب مؤرخ علم الأديان المقارن يعقوب باخوفن، في منتصف القرن التاسع عشر. وبذلك تطورت سلطة المرأة التي يعتبرها باخوفن "حقاً طبيعياً لها". وفي زمن أقدم اشار هيرودوت الى النساء الامزونيات بوصفهن نساء محاربات وصيادات ماهرات. وفي الياذة هوميروس وصفٌ لبسالة الامزونيات في القتال الى جانب دورهن الكبير في الأدب والفن. وينسب ديدور الذي جاء بعد هيرودوت بفترة قصيرة أصل الامزونيات الى قوم انحدورا من ليبيا وسيطروا على اقاليم شاسعة امتدت حتى الحدود الغربية للعالم القديم. ويؤيد افلاطون ما روي عن الامزونيات مؤكداً علمه بوجود نساء "يتدربن لا أكثر ولا أقل من الرجال" على امتطاء الخيول والرمي بالنشاب. في افريقيا اطلق علماء الانثروبولوجيا تسمية "حزام خط الأم" على مجتمعات زراعية ينتسب افرادها الى امهاتهم بحكم نظام الانتاج ومساهمة المرأة بالقسط الأكبر في العمل الزراعي في الحقول. وفي آسيا اظهرت المكتشفات الأثرية ان "عشتار السوداء" هي الأم الهندية الكبرى التي من اسمائها "ذات الجبروت" و"المرعبة" و"الخلاقة" و"الزوجة الطيبة" و"المتألقة". ويكفي لتأكيد موقع المرأة في نصف الكرة الغربي ان ينقل الباحث هرسكوفيتز عن أب قال في وصف ولده "انه ليس ابني بل ابن زوجتي وأنا صنعته". ويتسم تاريخ اوروبا القديم بكونه لم يعرف الآلهة الذكور بل كانت الإلهة الأم وحدها التي لا تموت ولا تتغير ولها قوة عظيمة وقدسية. ويستطرد الحيدري في عرض الابحاث التي تتناول مكانة المرأة واحترامها اللذين يعودان، كما يقول العالم روبرت غرايفز، الى "التقديس الذي تحظى به الأمومة ودورها في حفظ النظام وكذلك ارتباطها بالخصوبة وانتاج الحياة". ويزخر تاريخ مصر القديمة بالمعلومات الاثنوغرافية التي تصور مدى اهمية المرأة وسلطتها في المجتمع، حيث تتبدى سيطرتها بحقها في اختيار زوجها، بل في اختيار زوج يطيع اوامرها ايضاً. وفي اسطورة إيزيس واوزوريس تظهر ارض مصر التي يغمرها النيل بفيضانه كل عام مثل جسد امرأة فيما يظهر النيل في صورة رجل مخصب. ولئن قالت إيزيس في مصر "أنا أم الاشياء جميعاً" فان عشتار في بابل قالت "أنا الأول، وأنا الآخر". وعشتار في حضارة وادي الرافدين هي المرأة الأم والاخت والحبيبة والزوجة، وهي ربة الحياة وخصب الطبيعة، في الليل عاشقة، وفي النهار مقاتلة. لقد لاحت بوادر انحسار مكانة المرأة هذه وتطور مكانة الرجل عندما غدت الإلهة الكبرى نفسها احدى إلاهات المجتمع وليست الإلهة الاولى والوحيدة، وعندما اخذ ابنها يشاركها في السلطة. وارتبط تطور المجتمع الذكوري بظهور المدن وتشكيل التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجديدة. وعن وضعية المرأة في الغرب قديماً وحديثاً يشير المؤلف الى ان المرأة في اثينا كانت تشارك في الحياة العامة بما في ذلك التربية والتعليم قبل ان تتراجع مكانتها وتنقلب اثينا "الديموقراطية" على مساواة الرجل والمرأة. وحتى في روما التي اصبحت معقل الأبوية كانت المرأة في العصور القديمة تحتل مكانة محترمة. وانعكس تراجع موقع المرأة في نظرة الفلاسفة الاغريق اليها. فاعتبرها افلاطون دون الرجل وذهب سقراط الى ان وجودها أكبر مصدر للأزمة والانهيار الخلقي، في حين قال ارسطو انها "ليست سوى ذكر عقيم، ممسوخ". بل ان فلاسفة اخرين بينهم فيثاغورس كانت لهم آراء حتى أشد تطرفاً في المرأة. وتقلَّص دور المرأة، على ما يذهب المؤلف، مع امتداد سلطة الكنيسة المسيحية الى انحاء اوروبا وشرق المتوسط فأصبحت واحدة من حالتين، إما رمزاً للسيدة العذراء، أو رمزاً لحواء اللعوب التي تغوي الرجال وتخدعهم. وبحلول عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اطلقت فكرة التقدم والايمان بقدرة العقل البشري تيارات وحركات تدعو الى قيام مجتمع الديموقراطية والمساواة بين البشر، نساء ورجالاً. ويأخذ المؤلف على عصر التنوير انه لم يرتق الى ما وعد به، خاصة ما يتعلق بمساواة المرأة في الواقع الاجتماعي. وتبدى هذا النكوص في آراء كثير من فلاسفته ومفكريه بمن فيهم جان جاك روسو معتبراً الرجل سيد المرأة التي لا توجد إلا من أجله. ورأى هيغل ان من العدل استبعاد المرأة عن حكم الدول. وعلى رغم تحمس لوك للحرية والمساواة، افترض عدم وجود مساواة طبيعية بين الجنسين قاصراً المرأة على الانجاب وتربية الاطفال. وفاقهم نيتشه بنصيحته السيئة الصيت "أن تأخذ معك القرباج إذا ذهبتَ الى المرأة". واختزل ماركس تحرير المرأة بعدما رهنه بانعتاق البروليتاريا. ونظر فرويد اليها على انها دون الرجل بسبب الكبت وخيبة الأمل الجنسيين. لكن افكار التنوير أثمرت مناخاً مواتياً لنشوء حركات نسوية متعددة في البلدان الغربية وتفكيك نظرية فرويد على ايدي هربرت ماركوز واريك فروم. كما قامت كتابات سيمون دي بوفوار وجرمين غرير ومارغريت ميد بدورها في تعميق الوعي بمكانة المرأة وعدم مساواتها مع الرجل. وبلغت الحركات النسوية في الغرب ذروتها خلال سبعينات القرن الماضي وتحولت الى تيار اجتماعي له اهداف ومطالب محدَّدة. وعلى رغم المكاسب التي حققتها الحركة للمرأة فان الأممالمتحدة تؤكد ان الرجال ما زالوا يهيمنون على الميدان السياسي حيث تتخذ القرارات التي تؤثر في مضامير الحياة الاخرى مشيرة الى ان النساء يشكلن 13 في المئة فقط من مجموع اعضاء البرلمانات في العالم. وفي تحليله لوضع المرأة في المجتمع العربي، يشير المؤلف الى ان الجزيرة العربية عرفت في ماضيها السحيق بعضاً من مظاهر "المشاعية البدائية"، كما عرفت انواعاً من نُظُم الزواج كان أغلبها مهيناً لكرامة المرأة وقد ألغاها الاسلام وحرَّمها عن طريق القرآن والسنَّة. وعموماً فان اشكال الحياة الاجتماعية والاقتصادية ونُظُم الزواج والعبادات والعادات والتقاليد لم تكن على نمط واحد في جميع انحاء الجزيرة العربية. والى جانب شحة المعلومات الاثنوغرافية والأثرية والانثروبولوجية الكافية، فان هذا يشكل احد اسباب الصعوبة في تحديد أهمية المرأة ومكانتها في الجزيرة العربية قبل الاسلام. وبظهور الاسلام تحققت نقلة نوعية كبيرة في مكانة المرأة الاجتماعية. فالاسلام كدين وحركة اجتماعية متقدمة كان من اهدافه الى جانب مبدأ التوحيد، نشر العدالة والمساواة. وقد نزلت آيات قرآنية تدعم هذه المبادئ بينها سورة مخصصة للمرأة من بين 114 سورة، تحمل اسم "النساء"، تعالج وضعها وما لها وما عليها. وهذه، كما يوجز المؤلف، هي المساواة في الخَلْق والايمان والمساواة في والحقوق والواجبات، بما في ذلك إقرار الاسلام للمرأة بحق التملك والارث. لقد حصلت المرأة في الاسلام على حقوق كانت محرومة منها قبل ظهوره، خاصة ما يرتبط بأهم مؤسسة اجتماعية هي الزواج. فبعدما كان بلا حدود في الجاهلية، جاء الاسلام بتشريع وضع حداً أعلى هو اربع زوجات في خطوة اصلاحية مهمة ازاء تقاليد المجتمع الجاهلي واعرافه. كما ان الاسلام لم يبح الطلاق إلا عند الضرورة وفي حالات خاصة وبشروط عسيرة ومحدَّدة. هكذا رفع الاسلام مكانة المرأة الاجتماعية إلا ان وضعها انتكس بعدما تحولت الخلافة الى ملك عضوض، ثم استفحل التراجع في عهود لاحقة مثل "عصر الحريم" ونكوص مكانتها عنها في صدر الاسلام حين كانت اوفر حظاً ولها خيارات اكثر. ويلفت المؤلف في مبحثه المهم الى المفارقة بين الأهمية التي يوليها العرب لقضية الجنس وما واجهته الكتابة والحديث عنه من تحريم ومصادرة في التاريخ، مؤكداً ان المرأة ما زالت حتى يومنا هذا أسيرة العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والثقافية والدينية التي تتجسد في السرية والحذر الشديد من الاعتراف بالجنس والحديث عنه. فالتراث العربي مترع بالكتابات والسجالات والجدال عن الجنس والحياة الجنسية. ويعرض المؤلف لكلام العرب عن فحولة سليمان ووصف المسعودي لزواج اسماعيل وغير ذلك، ثم يطرح التساؤل الوجيه: إذا كان للجنس مثل هذه الأهمية فلماذا يتم اقصاؤه من حقل المعرفة والكتابة ووضعه ضمن القائمة السرية والمحرمة؟ على ان المؤلف يؤكد على ضرورة تغير وعي المرأة كشرط اساسي في تغيير وضعها الاجتماعي والثقافي، وكذلك تغيير قابليتها على الرفض والمقاومة. لكن وعي المرأة بمكانتها وتحررها لا يكفيان من دون تغيير وعي الرجل وتحرره من قيود أسره وابوته واستلابه. فالرجل، بسبب تنشئته الاجتماعية وثقافته وتكوينه النفسي وتربيته على قيم ذكورية، لا يتقبل حصول المرأة على حريتها وحقوقها ومساواتها حتى لو اقتنع بذلك نظرياً وادعى انه من أنصار التحرر والمساواة. ويختتم المؤلف بالتساؤل لماذا تبوأت المرأة الآسيوية مركزاً قيادياً متميزاً كما حدث بتوليها رئاسة الحكومة او الدولة في الهند وسريلانكا وباكستان وبنغلاديش والفيليبين وتركيا واندونيسيا وحتى ايران حيث تتولى امرأة منصب نائب رئيس الجمهورية في حين لم تأخذ المرأة العربية أي دور قيادي متميز لها في العصر الحديث؟ وبذلك نعود الى نقطة البداية في بحث يأتي في أوانه.