يبدو ظهور عمل جيد وسط زحمة الدراما التلفزيونية الاجتماعية، أمراً نادر الحدوث، بخاصة ان حمى اللهاث والسرعة، لإنتاج هذه البضاعة صارت تغلب على أي جودة فكرية، وأي قيمة أخلاقية ومتعوية، يأخذها في الاعتبار صنّاع العمل الدرامي التلفزيوني، ومناسبة الحديث هي العثور على مسلسل يجعلنا نتفاءل قليلاً، بإمكان البوح عبر المرئي الذي تحول إلى ببغاء لشركات تجارية، وفنية وأشياء أخرى لسنا في صدد تناولها. فقد عرضت الفضائية السورية، عن نص للثنائي المتميز حسن سامي يوسف ونجيب نصير، وإخراج فهد ميري، الدراما التلفزيونية الاجتماعية "قبل الغروب" وهي الجزء الثالث من مسلسل "نساء صغيرات"، الذي كان أخرج الجزء الثاني منه باسل الخطيب. يحكي العمل عن هموم إنسانية واقعية وصغيرة، لكنها عميقة المحتوى، وحزينة البوح، بما تكتنفه من دلالات شفافة عما يغلف عالمنا الآخذ بالتصحر، عن الحب أولاً وأخيراً، وعن فكرة الحب الرومانسي، وبهتانه أمام الشبكة العنكبونية التي تلف حياتنا وتحيكها رغماً عنّا، وكأن الفرد يبدو هنا، كائناً معزولاً عن حقه في ممارسة إنسانيته وحيويته، ومبرر وجوده الوحيد هو كونه عضو اتصال لهذه الشبكة. مشكلات منفصلة المسلسل يتحدث عن ثلاث فتيات يموت والدهن ويتركهن مع أمهن، وكل شخصية من هذه الشخصيات تعالج مشكلة منفصلة، لكنها تجتمع مع بعضها لتعبر عن مشكلة مجتمع عامة، وذلك عبر حوار مكثف وعميق ينتمي الى بيئة الواقع. وهو إن جنح في بعض جوانبه إلى الإيحائية والشعرية، فإن هذه الشعرية أضفت على العمل طابعاً شفافاً، ولم تغرقه في التهويم والابتعاد من الحقيقة. فعندما يعالج النص مشكلة ايناس أمل عرفة يبدو للوهلة الأولى انه يتحدث عن مشكلة عالجتها الدراما التلفزيونية مراراً، وهي العلاقة بين رجل كبير في السن وفتاة في بدء العمر. لكن الأمر هنا يبدو مختلفاً، إذ تعالج المشكلة من جوانب عدة أخلاقية وفلسفية، العلاقة بين فكرة البدايات والحياة، وفكرة النهايات والموت، وكمال كل منهما بالآخر، وإشكالية الضمير أمام نوازع القلب. وفي النهاية هناك توق مبهم في كلتا الشخصيتين فؤاد عبدالهادي صباغ وايناس، الى القيم المثالية العليا، وهو ما يسمى رغبة الإنسان في بلوغ الكمال وسط عالم منقوص وزائل بالضرورة. وربما هذا هو السبب الذي يجعل كلاً من الشخصيتين تتقمصان فكرة الشهادة والتضحية بالنفس من اجل إعلاء قيم المجتمع نفسه المرفوضة لهما، والسبب الوحيد الذي يجعل منهما نبيين التخلي عن الذات لمصلحة المجموع هو، الإنسانية العالية والصدق. الصورة المرسومة لفؤاد مسعود، قد تكون مخيبة بالنتيجة، إلا أن هذه الشخصية أعطت مثالاً نادراً في مفهوم الإنسان والحب، حرضت على انسنة صفات المثقف، والدفاع عنه كمعني حقيقي بهموم المجتمع والشأن العام، في الوقت الذي تلاشت صورته في مجتمعاتنا العربية وصارت تبتذل هذه الكلمة وتحارب من غالبية أفراد المجتمع، وأولهم الساسة، أعداء المثقف الحقيقي. أما الأخت الصغرى فاتن، التي تعبر عن معضلة واقعية لدى الجيل الجديد، فقد كانت مباشرة وواضحة إلى درجة الألم منها، والألم عليها، وهي تطالب بحياة أكثر رفاهية، ضمن مجتمع لا يعطي الفرد الحد الأدنى من حقوقه وإنسانيته، لكنها لا تجد الوسيلة إلا من خلال لغة المجتمع نفسه، وهذه اللغة تلفظها خارجاً، لأنها ببساطة لا تنتمي إلى منظومتها. فالمجتمع القوي بمفهومه الشائع يريد أقوياء بمفهومه، مفهوم السلطة والمال، وعندما تجد فاتن نفسها خارج هذه المنظومة، وتشعر بالذنب لوفاة الأم، ترتد بعنف على شخصيتها، وتتحول إلى الدين مستبدلة عالمها المادي والإنساني، بعالم غيبي أقل وحشة، وقسوة من العالم الحقيقي، وهو نفسه العالم السلبي الذي يجنح اليه معظم الشباب الذين يعانون اغتراباً عن حيواتهم، ليدخلوا في ما بعد ولأسباب أخرى موازية، ما يسمى بالتطرف الديني. أطياف الاغتراب يبدو المغاير في "قبل الغروب" انه لا يمر على معالجة الفكرة مرور الكرام، بل يعيدها، ويقلبها بجرأة من جهة، ومن جهة أخرى فهو يطرح صورة أو وجهة نظر تجاه العالم، وإن كانت هذه الصورة تصفع المشاهد بالحزن، لكنها تقربه من يومياته وتفاصيله التي يعيشها في البيت وفي الشارع، حيث يلمح أطياف الاغتراب وهي تصول وتجول بينه وبين الآخرين، ما يجعل منه عملاً استثنائياً يحقق في الوقت ذاته مقولة الفن في خدمة الواقع ومحاكاته، ونظرية الفن للفن والمتعة، وفي النهاية لذة الخيال الناتجة من شخصية تشبهك وتشبهني، وتتحرك ضمن شاشة لا تتجاوز محيط الجدران.