خلال الثمانين عاماً الماضية مر العالم بأربع حقب قانونية دولية، جاءت كل حقبة معلَّمة بنهاية حرب طاحنة. وميَّز بدايةَ كلِّ معلم من هذه المعالم الأربعة وصفٌ تكرر في كل حين. هذا الوصف هو أننا نمر ب"نظام عالمي جديد". فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى -التي أفنت حياة أربعة ملايين نسمة - أصرّت الولاياتالمتحدة ومعها أوروبا على ضرورة إيجاد نظام عالمي جديد يسود فيه القانون الدولي على قانون الغاب، لتفادي تكرار مأساة الحرب العالمية الأولى. وتمخضت تلك الجهود عن إنشاء عصبة الأمم نتيجة حرص الرئيس الأميركي ودرو ولسون الذي أمضى لأجل ذلك أربعة شهور في أوروبا بعيداً عن شعبه وأمته، في وقت يفتقر إلى تقنية الاتصالات الإلكترونية والمواصلات الحديثة. لكن الرئيس الأميركي الذي كان وراء إيجاد هذه المنظمة الدولية الكبيرة لم يستطع إقناع الكونغرس الأميركي - الذي آثر العزلة حينئذ - بالانضمام إلى تلك المؤسسة الدولية التي ما لبثت أن انهارت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. لكن، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي حصدت حياة عشرين مليون إنسان، رأت الدول المنتصرة ضرورة إيجاد نظام عالمي آخر جديد يوضع فيه حد للتجاوزات التي حصلت في نظام "العصبة"، التي كانت السبب في انهيار تلك المنظمة الدولية. وتمخضت الجهود الدولية عن إيجاد منظمة الأممالمتحدة. جاء هذا النظام العالمي الجديد، الثاني من نوعه، ليؤكد مرة أخرى وجوب سيادة القانون الدولي في الشؤون السياسية الدولية لتفادي ويلات الحروب بعدما ذاقت الإنسانية حقيقة مراراتها في حربين طاحنتين. لأجل هذا كانت المنظمة الدولية الجديدة أوفر حظاً في الاستمرار من سالفتها، على رغم التجاوزات العديدة للقانون الدولي التي ارتكبتها الدول الأعضاء، وعلى رغم سيطرة الحرب الباردة على العلاقات الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي حتى كادت أن تفضي إلى المصير المشؤوم نفسه الذي انتهت إليه عصبة الأمم لولا رحمة الله بالإنسانية. الحقبة الثالثة جاءت بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي في العام 1991، حين أعلن الرئيس الأميركي آنذاك أن نظاماً عالمياً جديداً قد ولد، وأنه من خلال هذا النظام لا يجوز أن يكون الاحتكام إلا للقانون الدولي والشرعية الدولية في كل ما يعترض الشؤون السياسية الدولية. وبالتالي فإن هذا النظام العالمي الثالث لم يؤسس نظاماً عالمياً جديداً بحد ذاته، ولكنه تجلى في التركيز على إبراز دور الأممالمتحدة وإعطائها مكانها المطلوب في تولي حل الخلافات الدولية. وقد شجع هذا النهج انتهاء الحرب الباردة ووجود إدارة أميركية مكترثة بالقانون الدولي في البيت الأبيض. هذان العاملان مجتمعان فتحا باباً واسعاً للتفاؤل بأن الالتزام بالقانون الدولي والأعراف الدولية سيكون ركيزة أساساً للنظام العالمي الجديد الثالث الذي لم يدم طويلا. إذ تزامنت نهاية الحقبة الثالثة مع نهاية عهد الرئيس الأميركي بوش الأب الذي كان أعلن مراراً أن سيادة القانون الدولي والالتزام بقرارات مجلس الأمن وتوفير غطاء شرعي دولي في جميع ما يتعلق بالشؤون السياسية الدولية هي السبيل الأوحد لحل النزاعات الدولية. وبدأت الحقبة الرابعة مع إعلان الولاياتالمتحدة اليوم بأن نظاماً عالمياً جديداً - رابعاً - قد بدأ، لكنه يبدو مختلفاً إلى حدٍ بعيد عن الأنظمة السالفة الذكر. ففي الوقت الذي دعت الأنظمة الثلاثة السابقة إلى سيادة القانون الدولي والتزام تطبيقه، جاء النظام العالمي الجديد الرابع داعياً إلى نبذ فكرة أن يكون القانون الدولي أساساً لتعايش الأمم، وإلى التسليم لزعامة الولاياتالمتحدة غير المحدودة في الشؤون الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية. وعلى رغم أن معالم هذا النظام الجديد الرابع لم تحدد بعد، إلا أن أبرز معالمه تتجلى في شن حروب لا حدود لها ضد أعداء الولاياتالمتحدة. فعدوها الجديد هو "الإرهاب العالمي" أينما وحيثما حل، قد تحدد دوله أحياناً في مصطلح معين كمصطلح "محور الشر"، وقد تبقى عائمة من غير لون ولا طعم ولا رائحة. وحتى إذا ما عُرِّفَت "دول الإرهاب"، فإن تأويلها يبقى حكراً على الولاياتالمتحدة وحدها. كما أن معالم هذا النظام العالمي الجديد تتجلى في رفض مبدأ الحياد الذي عرفه القانون الدولي على مدى تاريخه. فالدول حسب هذا النظام الجديد عليها أن تحدد موقفها من الحروب الأميريكية "إما معنا أو ضدنا"، من دون أن يكون لها خيار الحياد المسموح به في القانون الدولي سابقاً. ولعل أبرز معالم هذا النظام العالمي الجديد هو استبدال الشرعية الدولية بتطبيق القانون الأميركي على بقية دول العالم وفرض الهيمنة الأميركية بسيادة "قانون القوة الدولية" بدلاً من سيادة "قوة القانون الدولي" التي دعت إليها الأنظمة العالمية السابقة. فبموجب هذا النظام العالمي فإن مسؤولية حفظ الأمن والسلم في العالم الجديد لم تعد موكلة إلى مجلس الأمن أو الأممالمتحدة، إلا إذا أرادت الولاياتالمتحدة لها أن تكون كذلك. إذ إن الولاياتالمتحدة ستقوم هي بمهمة حفظ السلم والأمن في العالم ووقايته من الأخطار المحيطة به خصوصاً في ما يتعلق بمحاربة الأنظمة التي يعتقد أنها حصلت أو تحاول الحصول على أسلحة الدمار الشامل. ولقد بدا هذا الجانب واضحاً حين قامت الولاياتالمتحدة بشق عصا الأممالمتحدة اعتراضاً على شرعيتها وربما إيذاناً ببداية نهايتها، في قرارها المشؤوم والذي انتهى بغزو العراق، مخالفة بذلك الطرق السلمية المنصوص عليها في المادة 23 من ميثاق الأممالمتحدة، والتي تنص على "أن تحل جميع الدول الأعضاء خلافاتها بالطرق السلمية"، ومنتهكةً بذلك المادة 24 من الميثاق التي تحرم على الدول "استخدام القوة أو التهديد باستخدامها" في العلاقات الدولية. وتزعم الولاياتالمتحدة، حسب هذا النظام العالمي الجديد، أن مسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين أصبحت واجباً عليها - بصفتها حامية الحريات في العالم - نيابةً عن الأممالمتحدة التي عجزت عن فرضه لما يزيد عن نصف قرن. وحيث لم يلق هذا الادعاء قبولاً من المجتمع الدولي، وجدت الولاياتالمتحدة نفسها في نوع من التناقض السياسي. فالولاياتالمتحدة تعلم أن أي استخدام للقوة العسكرية - لكي يكون مبرراً - يجب أن يكون إما دفاعياً ضد هجوم مسلح وقع على أحد أعضاء الأممالمتحدة كما نصت على ذلك المادة 51، أو أن يكون استخدام القوة مخولاً من مجلس الأمن تخويلاً واضحاً لا جدل فيه حسب ما تقتضيه المادة 42. وحيث أن الحرب الأميركية على العراق لم تكن دفاعاً عن النفس المادة 51، وليست مخولة من مجلس الأمن المادة 42، فهي إذاً حرب عدوانية غير مبررة متعارضة وميثاق الأممالمتحدة. بيد أن الولاياتالمتحدة حاولت استخدام قرار مجلس الأمن الرقم 1441 كغطاء شرعي دولي في شن عدوانها ضد العراق، من دون أن يكون في القرار 1441 أي تخويل للولايات المتحدة أو لغيرها في شن حرب ضد العراق، الأمر المطلوب في المادة 42 من الميثاق. وهنا يحسن التذكير بأنه حين أقرّ مجلس الأمن قراره التاريخي الرقم 1441 2002 كانت الولاياتالمتحدة ومعها بريطانيا قد سارعتا إلى إعلان تفسيرهما بأن ذلك القرار يجيز لهما استخدام القوة العسكرية ضد العراق في حال اضطرت الدولتان إليها. لكن، وقبل أن تشن الولاياتالمتحدةوبريطانيا حربهما على العراق، عادتا إلى أروقة مجلس الأمن مرة أخرى في محاولة أخيرة لاستصدار قرار جديد يخول لهما استخدام القوة العسكرية ضد العراق لعلمهما اليقين بأن القرار 1441 لا يفي بمتطلبات مواد ميثاق الأممالمتحدة. ولكن تلك المحاولة باءت بالفشل نتيجة الموقف الفرنسي المعارض والمؤيَّد من روسيا والصين وغيرهما. ولا شك في أن الموقف المعارض لاستخدام القوة العسكرية ضد العراق كان هو الموقف المتوافق مع قرار مجلس الأمن 1441. فالعراق سمح لمفتشي الأممالمتحدة بالدخول إلى بلده حسب القرار 1441. وعلى رغم قيام هؤلاء المفتشين الدوليين بأكثر من ألف عملية تفتيش شملت حتى دخول القصور الرئاسية وبعض الجامعات وبعض المساجد، إلا أنهم لم يواجهوا أي اعتراض من الحكومة العراقية. هذا، ولم يثبت أن عثر المفتشون الدوليون على أي دليل يشير إلى أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل المنصوص عليها في القرار 1441. كما أن السيدين بليكس والبرادعي لم يتهما العراق بامتلاكه أسلحة دمار شامل في تقريريهما المقدمين إلى مجلس الأمن. بل إنه حتى بعد دخول الولاياتالمتحدة الأراضي العراقية واحتلالها، لم تتمكن الولاياتالمتحدة، أو أية دولة أخرى في هذا الخصوص، من إثبات ملكية العراق لأسلحة الدمار الشامل، وهو السبب المعلن لغزو العراق. وعلى رغم كل هذا، فالولاياتالمتحدة لا تزال تصر على أن أسلحة الدمار الشامل كانت موجودة في العراق، وأنها إما أن تكون قد أخفيت بحيث لم يجدها حتى أصحابها حين احتاجوا إليها! أو أنها أخرجت إلى سورية حيث تتوجه أنظار الإدارة الأميركية لبدء المرحلة التالية. وباختصار، فإن الولاياتالمتحدة، في هذا النظام العالمي الجديد الرابع، تريد أن تأخذ على عاتقها مسؤولية حفظ الأمن والسلام في العالم بالطريقة التي تراها مناسبة، وأنها لن تتردد في تطبيق القانون الذي تراه هي حسب ما تقتضيه مصالحها القومية. وحيث أن هذا النظام العالمي الرابع لا يحتكم إلى أسس قانونية دولية ثابتة، فإن هذا النظام العالمي الجديد جداً أقرب ما يكون إلى النظام العالمي القديم جداً، والذي يعرف ب"قانون الغاب" حيث يأكل القوي الضعيف. هذا القانون الذي تريد الولاياتالمتحدة فرضه على العالم اليوم لن يسعد الطرف الضعيف بأي حال، ولكنه يرضي الطرف الأقوى بلا جدال. وعلى هذا الأساس، فربما وجدت الولاياتالمتحدة نفسها راضيةً اليوم - نتيجة تفوقها العسكري غير المنازع - بتطبيقها قانون القوة بدلاً من احتكامها إلى قوة القانون. ولكن إذا كان "دوام الحال من المحال" - كما يقال - وإذا كانت السنة الإلهية تقضي بتداول القوة "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فهل الولاياتالمتحدة على استعداد لقبول هذا النظام العالمي الجديد الذي ترسي هي دعائمه اليوم، إذا ما تغيرت موازين القوى إلى صالح خصومها في المستقبل؟ * كاتب وحقوقي سعودي.