في الوقت الذي يحبس العالم أنفاسه قبل بدء الغزو الأميركي المرتقب للعراق، هناك أسئلة شتى في أذهان المراقبين عما يدور في الساحة الدولية من تهديدات للعراق وحقيقة الخطر الأميركي على المنطقة. ولعل أبرز هذه التساؤلات المثيرة يتعلق بمحورين اثنين: الأول هو أهداف الحملة الأميركية على العراق. والمحور الآخر هو موقف القانون الدولي من التهديد الأميركي الحالي للعراق. وقبل أن نعرض لهذين المحورين الرئيسين ربما كان من المناسب معرفة حقيقة الخطر العراقي المزعوم. هل يشكل العراق خطراً على الأمن القومي للولايات المتحدة؟ من الطبيعي لأي إدارة أميركية تشغل البيت الأبيض أن تحدد أهدافها الطويلة المدى والقصيرة المدى على حد سواء عند رسم خطط ذات أهمية دولية وصبغة قانونية. ولئن كانت المصالح الأميركية في المنطقة تعرضت للخطر المباشر من جانب العراق أثناء الغزو العراقي للكويت قبل عقد من الزمان - الأمر الذي تطلب التدخل العسكري المباشر في المنطقة وبموافقة دول المنطقة ذاتها - إلا أن الخطر العراقي المزعوم اليوم أقل وضوحاً. بل إن الولاياتالمتحدة تكاد تجد حرجاً شديداً في شرح أهداف تدخلها العسكري الوشيك لدول المنطقة. ولعل من الأيسر قبل الشروع في تفاصيل أهداف الحملة الأميركية الحالية على العراق أن نبين ما ليس من أهداف هذه الحملة. فتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل ليس من الأهداف الرئيسة للحملة الأميركية على العراق، فالولاياتالمتحدة تدرك جيداً أن أسلحة الدمار العراقية - إن وجدت - لم تعد تشكل خطراً على المنطقة ولا تهدد الأمن القومي الاميركي ذاته. ولو كان العراق يشكل أدنى خطر على أمن المنطقة وسلامتها لأوكلت الولاياتالمتحدة هذه المهمة الى إسرائيل كما فعلت هذه الأخيرة في العام 1981 حين ضربت المفاعل النووي العراقي. ومما لا يدخل ضمن أهداف الولاياتالمتحدة أيضاً في حملتها على العراق هو إزاحة النظام الاستبدادي في العراق واستبداله بآخر "ديموقراطي". ففي هذا الزعم بريق يغري البعض للإيمان به والانتماء إليه، إلا أن الولاياتالمتحدة تعلم أن مصلحتها الدائمة لا تتماشى مع المصالح الدائمة للشعوب في المنطقة. ولو أن مصالح شعوب المنطقة تعارضت مع مصالح الولاياتالمتحدة في وقت ما، فإن الأخيرة ستلوي ديموقراطية تلك الشعوب وتكسرها. لذلك فإن القول بأن الولاياتالمتحدة تريد أن ترسخ عرى الديموقراطية في المنطقة وتغرس روح المشاركة السياسية لشعوبها ليس سوى "كلمة حق أريد بها باطل". ونأتي الى الأهداف الأميركية من غزو العراق: لعل السؤال المنطقي الآن هو: إذا لم تكن تلك الأهداف المعلنة هي غايات الولاياتالمتحدة في حربها ضد العراق، فما هي إذاً أهدافها الحقيقية؟ وربما يبدو الجواب جلياً إذا ما علمنا أن للولايات المتحدة أهدافاً لا تقف عند مجرد إزاحة نظام بعينه أو تدمير أسلحة معينة. فالوضع الحالي ينذر بخطر شديد يبدو معه أن الولاياتالمتحدة عازمة على تغيير خارطة الشرق الأوسط، بيد أن المراحل التي يتطلبها ذلك التغيير قد تستغرق وقتاً طويلاً. من أجل هذا فإن مرحلة غزو العراق لا تبدو سوى خطوة واحدة ضمن خطوات عدة تريد الولاياتالمتحدة خطوها. ويبدو أن للولايات المتحدة في حربها المرتقبة ضد العراق ثلاثة أهداف: أولها وأقربها زمنياً إعداد ورقة ناجحة للانتخابات الرئاسية المقبلة، فالرئيس الأميركي سيواجه أمة مضطربة بعد شهور معدودة في داخل بيته الأميركي ولا يريد أن يواجه المصير المشؤوم نفسه ذا الفترة الواحدة الذي انتهى اليه والده. ولهذا فإنه يعدّ عدّته لتقديم ضحية كبرى لشعبه تصدّ عنه الأسئلة المحرجة الباحثة عن نتائج ما أسمته إدارته ب "الحرب على الإرهاب". إذ أن فشلَ مهمة أفغانستان - التي تجلت في عدم اصطياد ابن لادن والملا عمر اللذين لا تزال قوتهما تتحدى القوات الأميركية الموجودة في المنطقة - وهشاشةَ الوضع الداخلي في العراق - التي جاءت نتيجة تدهور الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وباتت تلوح بأن شعب العراق قد ضاق ذرعاً برئيسه ويبدو مستعداً لإطاحته - هذان العاملان مجتمعان قد يشكلان إغراءً جذاباً لصناع القرار في الإدارة الأميركية في اختيار العراق هدف المرحلة الراهنة كبديل جيد يمكن أن يقدم للشعب الأميركي قبل بدء معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة، فربما يساعد ذلك في رفع شعبية الرئيس. الهدف الثاني الذي قد تحققه الحملة الأميركية قد يأتي ثمرة مباشرة للهدف الأول. فالحملة على العراق إذا ما انتهت بالقبض على رئيسه ووضعه في الزنزانة فإن ذلك رسالة إلى كل من يرفض التعاون المباشر مع حكومة الولاياتالمتحدة التي لن تتردد في اصطياد أعدائها بالطريقة التي تراها مناسبة. أما الهدف الثالث للولايات المتحدة في حملتها على العراق فهو الأبرز والأكثر أهمية. وهو السيطرة على منابع النفط العراقية ذات الأهمية البالغة. إذ أن الولاياتالمتحدة غير مطمئنة اليوم إلى أصدقائها التقليديين في سد حاجاتها وحاجات حلفائها الأوروبيين النفطية كما كان عليه الوضع في الماضي. والنفط العراقي وحده إذا ما استنفذ طاقته الإنتاجية كاملة كفيل بأن يؤمن حاجة العالم الغربي كبديل للنفط الخليجي موقتاً استعداداً للمرحلة المقبلة إذا ما عزمت الولاياتالمتحدة على شن حربٍ مع دول خليجية أخرى. أين القانون الدولي من كل هذا؟ من الواضح أن الولاياتالمتحدة إذا ما قررت اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية ضد العراق، فإنها لن تكون بمعزل عن الواقع السياسي والقانوني الدولي. بل إن الولاياتالمتحدة أعدت عدتها منذ وقت مبكر جداً لأخذ الاحتياطات اللازمة لسد الثغرات القانونية الدولية. فقرار مجلس الأمن 1441 الأخير فيه عبارات توهم بأن لأي دولة الحق في تنفيذ قرارا مجلس الأمن الرقم 687 1990 الذي أذن للدول الأعضاء باستخدام كل الوسائل اللازمة للتقيد بقراره الرقم 660 1990 وكل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، خصوصاً قراراته 661 1990 و686 1991 و687 1991 و688 1991 و715 1991 و986 1995 و1248 1999، والتي تنص على وجوب إرغام العراق على التزام الشرعية الدولية وتنفيذ قرارات مجلس الأمن السابقة الذكر التي تؤكد على وجوب خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل خلواً كاملاً. ولأن الولاياتالمتحدة تتهم العراق بإخفاء أسلحته - بلا أي دليل يدعم هذا الزعم - فإنها تريد استخدام ذريعة إخفاء العراق أسلحة الدمار الشامل لتبرير القيام بعمل عسكري ضدها. فالقرار 1441 أعد بطريقة يمكن أن يفهم منها - ولو من بعيد - أن القرار يسمح للدول الأعضاء باتخاذ ما تراه مناسباً لتطبيق قرارات مجلس الأمن السابقة الذكر إذا لم يستجب العراق لمطالب القرار. فعلى سبيل المثال نص القرار 1441 على أن العراق كان ولا يزال في حال "خرق جوهري" لالتزاماته المنصوص عليها في قرارات المجلس السابقة، وأن المجلس حذر العراق مراراً بأنه سيواجه "عواقب وخيمة" نتيجة انتهاكاته المستمرة لالتزاماته، كما أن القرار سمح بأن يُعطى العراق "فرصة أخيرة" لنزع أسلحة الدمار الشامل. من أجل هذا يأتي التأويل الأميركي البريطاني للقرار على أنه يسمح للدول الأعضاء "باستخدام ما تراه مناسباً" لنزع أسلحة العراق إذا لم يستجب العراق لمطالب القرار. ولكن القراءة القانونية المتأنية للقرار 1441 تشير إلى أن القرار لم يمنح الدول الأعضاء حق استخدام القوة ضد العراق. فالمادة 42 من ميثاق الأممالمتحدة تنص على أن استخدام القوة العسكرية لا يكون إلا عن طريق المجلس ذاته. أي أن الدول الأعضاء لا يحق لها أن تؤول قرارات المجلس أو أن تتصرف في ما تظن أنه يتماشى ومصلحة المجلس. بل إن المادة 42 ذاتها والتي وردت في الفصل السابع من الميثاق وهو الفصل المتعلق باستخدام القوة العسكرية بين الدول أكدت أن يكون قرار أي عمل عسكري في يد مجلس الأمن وحده ولم تترك أي مجال للدول الأعضاء في إعطائهم فرصة واحدة لغير هذا. ثم إن القرار 1441 نص على أنه لا بد للمجلس أن يخطر بعد انتهاء عمليات التفتيش وأن يعقد المجلس اجتماعاً للنظر في الوضع. وإذا كان المجلس سينظر في القضية مرةً أخرى فإن من المنطقي أن يكون قرار السماح باستخدام القوة العسكرية ضد العراق - إذا تطلب الأمر ذلك - في جلسة ما بعد انتهاء عمليات التفتيش وليس قبلها. وتؤيد هذا الرأي غالبية أعضاء المجلس ودول العالم عموماً، وهو ايضاً رأي الأمين العام للأمم. ولكن يبدو أن إدارة الرئيس بوش تريد أن تحقق أهدافها المذكورة على أي حساب. فإذا أصرت على اتخاذ إجراء عسكري ضد العراق من دون قرار جديد لمجلس الأمن فإنها تتجاوز حدودها القانونية الدولية للمرة الثانية منذ أحداث 11 أيلول المرة الأولى ضد أفغانستان وتكون بهذا قامت بخرق واضح وفاضح للقانون الدولي والأعراف الدولية، مخالفةً بذلك طريقة إدارة بوش الأب. بيد أن المقارنة بين إدارتي الرئيسين بوش الأب وبوش الابن مفترقة جداً. فإذا كانت إدارة بوش الأب لم تتعجل في استخدام الحل العسكري في خلافها مع العراق عام 1990، إلا أن إدارة بوش الابن خالفت هذا المنهج المتعقل حين لم تتريث في جعل الحل العسكري أول خياراتها المسلم به. بل ان إدارة الرئيس بوش الأب تصرفت على المستوى المطلوب من دولة عظمى حين رأت أن لا تقوم بعمل عسكري ضد العراق إلا بعد اقناع العالم أولاً بضرورة ذلك العمل رغم اقتناع العالم بجريمة العراق يومئذ. أما إدارة بوش الابن - البعيدة عن حكمة الشيوخ- فإنها اليوم تهدد بالانفراد باتخاذ قرارات دولية - ذات خطر غير محدود - لمجرد أنها مقتنعة بضرورتها. ولا غرو إذا ارتضت إدارة بوش الأب لنفسها الطريق الديبلوماسي الحذر فقد كان بوش الأب ذا باعٍ طويل في السياسة الخارجية مهّده له عمله كسفير لبلاده في الصين وفي الأممالمتحدة وكرئيس للاستخبارات الأميركية وكنائب للرئيس لفترتين كاملتين. كما أن فريق إدارة بوش الأب - الذي سمته "نيوزويك" وقتها "فريق الامتياز" - كان يعجّ بالمتعقلين من أمثال بيكر وزير الخارجية، وسكوكروفت مستشار الأمن القومي، وحتى تشيني وزير الدفاع، وكانت خلفية هؤلاء بعيدة عن العمل العسكري، إذ لم يكن بينهم واحد ينتمي إلى عقلية تقديم الحل العسكري. أما إدارة الرئيس بوش الابن فإنها بالإضافة إلى كون رئيسها حديث العهد بالسياسة الخارجية وغير متمرس فيها، فإن إدارته تغص بالمستشارين العسكريين ذوي الخبرة العنيفة من أمثال رامسفيلد وزير الدفاع ونائبه، ولا غرو إذاً أن تقدّم إدارة بوش الابن الحل العسكري في الأزمات السياسية سواءً في أفغانستان أو في العراق أو في أي معضلة تعترضها إذا ما علمنا مدى تغلغل الرأي العسكري في هذه الإدارة. وإذا كانت حكمة إدارة الرئيس بوش الأب قد ترددت كثيراً في محاولة بلع لقمة العراق قبل أكثر من عقد من الزمن خشية ألا تمر تلك اللقمة من الحلق الأميركي، فإن أنياب الرئيس بوش الابن تبدو عازمة على ضرس لقمة العراق ضرساً كاملاً. ولكن السؤال المطروح الآن هو: هل يكون ضرس هذه اللقمة على حساب أنياب هذه الإدارة الحالية؟ وإذا ما استطاعت هذه الإدارة بلع اللقمة العراقية فهل يكون هضمها سائغاً؟ * أستاذ القانون الدولي المساعد في جامعة الملك فيصل.