في خطاب الى مجلس الشيوخ الأميركي في 19 من الشهر الماضي، يوم اطلاق الحرب على العراق، تساءل السناتور الديموقراطي روبرت بيرد، وهو من بين أبلغ خطباء الكونغرس: "ما الذي يحصل لهذا البلد؟ متى أصبحنا أمة تتجاهل اصدقاءها وتهينهم؟ متى قررنا المخاطرة بالنظام الدولي عن طريق اتخاذ موقف راديكالي متعصب باستعمال قوتنا العسكرية المهولة؟ كيف يمكننا التخلي عن الديبلوماسية في الوقت الذي يتطلب العالم هذه الديبلوماسية بالحاح؟". ولم يهتم أحد بالأجابة. لكن الأسئلة تطرح نفسها بقوة اليوم، مع بوادر تهيؤ الآلة العسكرية الأميركية الجبارة التي زرعت في العراق للاستدارة الى أهداف اخرى - وذلك باسم الشعب الأميركي وحبه للحرية وقيمه العميقة - وما يشير اليه ذلك من الفشل أو الفساد الذي تعاني منه ديموقراطيتنا. لنتفحص أولاً نتائج السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط منذ تولي جورج بوش السلطة قبل نحو ثلاث سنوات - وذلك من خلال قرار من المحكمة العليا وليس التصويت.: الخطوة الأولى من الفريق الرئاسي، قبل 11 / 9 كانت اطلاق يد أرييل شارون وحكومته لاستيطان الضفة الغربية وغزة، وممارسة كل ما يحلو لهم من أعمال القتل والسجن والطرد، ونسف المساكن ومصادرة الأراضي واحتجاز السكان بمنع التجول والمئات من الحواجز العسكرية، وتحويل حياة الفلسطينيين عموما الى جحيم لا يطاق. وبعد 11 / 9 سارع شارون الى ربط نفسه ب"الحرب على الارهاب"، وضاعف من انتهاكاته ضد سكان مدنيين لا حامي لهم يرزحون تحت الاحتلال منذ 36 سنة على رغم العشرات من قرارات من مجلس الأمن التي تطالب اسرائيل بالانسحاب ووقف جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الانسان. وفي حزيران يونيو الماضي وصف بوش شارون بأنه "رجل السلام"، وواصل دفع المساعدات التي تبلغ خمسة بلايين دولار دون أدنى تلميح بان الانتهاكات الاسرائيلية المتفاقمة قد تعرض تلك المساعدات الى الخطر. وفي تشرين الأول اكتوبر 2001 أطلق بوش الحملة على أفغانستان، بدءاً بقصف جوى من ارتفاعات عالية ذلك التكتيك العسكري ضد "الارهاب"، الذي يشابه الى حد كبير ذلك الارهاب نفسه. وتمكن بوش بحلول كانون الأول ديسمبر من أن ينصب على ذلك البلد المدمر نظاما عميلا لا سلطة فعلية له خارج بضعة شوارع في كابول. ولم تشهد أفغانستان من وقتها اي محاولة جادة لاعادة الاعمار، وهناك كل ما يدل على انها عادت الى سابق وضعها البائس، من ضمن ذلك عودة بعض عناصر "طالبان"، وازدهار اقتصاد المخدرات. وشنت ادارة بوش منذ صيف السنة الماضية حملة على كل الجبهات ضد النظام الديكتاتوري في بغداد. وبعد أن فشلت في اخضاع مجلس الأمن لرغباتها بادرت بمشاركة بريطانيا الى شن الحرب على العراق. ويمكن القول ان وسائل الاعلام الرئيسية بدأت تخلو من أي صوت معارض منذ تشرين الثاني نوفمبر الماضي، فيما واصلت بث ذلك السيل من التصريحات والتعليقات من الجنرالات السابقين ومسؤولي الاستخبارات السابقين وغيرهم من الخبراء في الارهاب من مؤسسات الابحاث اليمينية في واشنطن. وكان مصير كل من حاول الاعتراض ونجح في الوصول، مهما عابراً، الى شاشات التلفزيون الاتهام بالعداء لأميركا، وذلك من قبل أكاديميين فاشلين نظموا موقعاً على الانترنت لتسجيل أسماء الأكاديميين الذين يرفضون الانصياع. فيما انهالت على البريد الالكتروني للشخصيات العامة القليلة التي حاولت التعبير عن موقفها رسائل الشتم والتهديد بالقتل، وقوبلت آراؤهم بموجة من التسخيف والاستهزاء يطاقها مقدمو البرامج الاخبارية، الذين اعتبروا أنفسهم مراسلين "مزروعين" في جيش الاعلام الاميركي! وظهرت في كل مكان مقالات وتعليقات - الفج منها والراقي - لا تطابق بين ديكتاتورية صدام حسين والشر فحسب، بل تربطها بكل ما أمكن من الجرائم. واذا كان ذلك صحيح جزئياً فالذي يجري اغفاله دوما هو دور الولاياتالمتحدة وأوروبا في رعاية صعود صدام حسين وتغذية حروبه الدامرة وادامة سلطته. وكان السيء الصيت دونالد رامسفيلد نفسه من بين أهم الشخصيات التي زارت صدام حسين أوائل الثمانينات للتأكيد على دعم الولاياتالمتحدة لحربه الكارثية على ايران. أما الشركات الأميركية التي جهزت العراق بالمواد النووية والكيماوية والبيولوجية اللازمة التي يفترض اننا حاربنا من أجل التخلص منها فقد تم محوها بكل بساطة من السجل العام. الا ان الحكومة الأميركية ووسائل الاعلام، في سعيها الى اختلاق ذريعة لالحاق المزيد من التدمير بالعراق، تقصدت أن تطمس كل هذا. وقد وصل تهويل الخطر الذي يمثله العراق وزعيمه المتبختر حداً من المطلقية غطى على حقيقة واضحة، وهي أن قواته المسلحة المهلهلة والمنهارة معنويا لا تشكل تهديداً لأحد. لكنه أيضا غطى على ما هو جوهري فعلاً في العراق، أي ثقافته الغنية ومجتمعه المعقد وشعبه الطويل المعاناة، وذلك من أجل تسهيل تدمير ذلك البلد الذي يبدو من هذا المنظور وكأنه لا يضم سوى اللصوص والقتلة. لقد اتهم صدام حسين، دون برهان أحيانا وبأدلة مزورة أحيانا اخرى، بامتلاك أسلحة للدمار الشامل تهدد الولاياتالمتحدة على بعد سبعة الاف ميل من العراق. وتمت المطابقة بين صدام حسين والعراق، ذلك البلد الصحراوي "في مكان ما" هناك غالبية الأميركيين حتى اليوم لا تعرف اين يقع العراق وما تاريخه وماذا فيه غير صدام حسين، الذي لا مصير له سوى الخضوع لسطوة أميركا التي اطلقت حربها اللا شرعية عليه لتخويف العالم بأسره، ضمن حملة مهووسة لاعادة تشكيل الواقع وفرض الديموقراطية على الكل. وفي الداخل الأميركي أصدر الكونغرس قوانين "الوطنية" و"الارهاب" التي توفر للسلطات قبضة خانقة على الحياة المدنية. وتتقبل غالبية السكان بخنوع مؤسف تلك الترهات التي تصور على أنها حقائق عن هجمات ارهابية وشيكة، وما أدى له ذلك من الاحتجازات الوقائية والتنصت اللا شرعي والأجواء الأمنية الثقيلة في كل مكان - حتى الجامعات - التي تجعل أميركا مكاناً صعباً لكل من يحاول التمسك بحرية الفكر والتعبير. وبدأت النتائج المريعة للتدخل الاميركي والبريطاني في العراق تتكشف للتو فقط. فهناك اولاً الدمار الذي خُطّط له بحساب بارد ولحق ببنيته التحتية الحديثة، ثم نهب وحرق واحدة من أغنى حضارات العالم، واخيراً سعي اميركا باستهتار اخلاقي تام لاشراك زمرة من "المنفيين" المتنافرين زائداً شركات كبيرة متنوعة في عملية اعادة البناء المفترضة للبلاد، وعدم الاكتفاء بالاستحواذ على نفط العراق بل ومصيره ايضاً. ورداً على مشاهد النهب والحرق المفزعة التي تتحمل مسؤوليتها في النهاية القوة المحتلة، استطاع رامسفيلد ان يضع نفسه في مرتبة تتخطى حتى هولاكو. فاعلن في احدى المرات ان "الحرية غير منظمة"، وقال معلقاً في مناسبة اخرى ان "اموراً كهذه تقع". ولم يكن هناك اطلاقاً اي مؤشر الى احساس بالندم او الأسف. ويبدو الجنرال جاي غارنر، الذي اُختير بعناية كبيرة للمهمة، اشبه بشخص جاء مباشرة من مسلسل "دالاس" التلفزيوني. ولمح المنفي المفضل لدى البنتاغون احمد الجلبي، على سبيل المثال، علناً انه ينوي التوقيع على معاهدة سلام مع اسرائيل، وهي بالتأكيد ليست فكرة عراقية. ومُنحت شركة "بكتل" بالفعل عقداً ضخماً. وجرى هذا ايضاً باسم الشعب الاميركي. ان المسألة برمتها لا تختلف كثيراً عن الغزو الاسرائيلي للبنان في 1982. انه فشل كلي تقريباً في الديموقراطية. فشل ديموقراطيتنا نحن كاميركيين، لا فشل العراق. ويُُفترض ان 70 في المئة من الاميركيين يؤيدون هذا كله، لكن ليس هناك ما هو اكثر خداعاً وتضليلاً من استطلاعات لآراء عدد عشوائي من الاميركيين الذين يُسألون ما اذا كانوا "يؤيدون رئيسنا وقواتنا اثناء الحرب". وكما قال السناتور بيرد في كلمته فان "هناك نزعة سائد للتعجل والمخاطرة وترك الكثير جداً من الاسئلة دون جواب ... لقد خيّم جو قاتم كئيب على مجلس الشيوخ. اننا نتجنب واجبنا الجدي بان نناقش الموضوع الوحيد الذي يشغل بال كل الاميركيين، حتى في الوقت الدي يؤدي فيه ابناؤنا وبناتنا واجبهم بأمانة في العراق". من الذي سيوجه الاسئلة الآن بعدما اصبح الفتى المزارع من غرب وسط اميركا، الجنرال تومي فرانكس، يجلس منتشياً مع هيئة اركانه حول احدى موائد صدام في احد قصور بغداد؟ انني مقتنع بأن هذه الحرب كانت، على كل مستوى تقريباً، حرباً جرى التلاعب بها، ولم تكن ضرورية او تحظى بشعبية. وتخلق مؤسسات "الابحاث" المغرقة في رجعيتها في واشنطن، التي انتجت ولفويتز وبيرل وابرامس وفايث وغيرهم، جواً ثقافيا واخلاقياً غير صحي. ويجري تداول اوراق نقاش لرسم السياسة من دون مراجعة عميقة، وتتبناها حكومة تحتاج الى ما يبدو تبريراً منطقياً وحتى اخلاقياً لسياسة ملتبسة، غير شرعية بالأساس، تهدف الى تحقيق الهيمنة عالمياً. ولهذا السبب جرى تبني عقيدة العمل العسكري الاستباقي، التي لم يصوّت عليها ابداً سواءً من قبل الاميركيين او ممثليهم النصف نائمين. كيف يمكن للمواطنين ان يتصدوا للاغراءات التي تقدمها للحكومة شركات مثل هاليبرتون وبوينغ ولوكهيد؟ اما بخصوص تخطيط ورسم الوجهة الاستراتيجية لمؤسسة عسكرية تنال أسخى دعم في التاريخ، وذات قدرة كلية على ان تجرّنا الى نزاعات لا تنتهي، فان هذه المهمة تترك لجماعات الضغط المؤدلجة المتنوعة مثل الزعماء المسيحيين الاصوليين، على شاكلة فرانكلين غراهام، الذين اُطلق لهم العنان مع كتبهم المقدسة لينقضوا على العراقيين المعدمين، اضافة الى المؤسسات الخاصة الثرية، وجماعات ضغط مثل لجنة العلاقات العامة الاميركية الاسرائيلية ايباك، الى جانب مراكز الابحاث والدراسات المرتبطة بها. ويبدو اجرامياً على نحو مهول ان كلمات جيدة ونافعة مثل "الديموقراطية" و"الحرية" خُطفت، واُستغلّت كقناع للنهب والسلب ولاقتحام اراضٍ عنوة وتصفية حسابات. ولا يختلف برنامج اميركا للعالم العربي عن برنامج اسرائيل. فالى جانب سورية، يمثل العراق الحطر العسكري البعيد المدى الوحيد بالنسبة الى اسرائيل، وتعيّن بالتالي تعطيله على مدى عقود. ماذا يعني ان تُحرّر بلداً وتقيم فيه ديموقراطية عندما لم يطلب احد منك ان تفعل ذلك، وعندما تقوم في سياق ذلك باحتلاله عسكرياً وتفشل في الوقت نفسه بشكل مزري في حفظ الامن والنظام؟ ان مزيج السخط والارتياح لاختفاء صدام على نحو جبان، الذي يشعر به معظم العراقيين، لم يلق اي تفهم او رأفة سواء من قبل الولاياتالمتحدة او من الدول العربية الاخرى التي وقفت متفرجة تتنازع بشأن نقاط اجرائية ثانوية بينما كانت بغداد تحترق. ويا لها من مسخرة للتخطيط الاستراتيجي عندما تفترض ان "اهل البلد" سيرحبون بوجودك بعدما قصفتهم وفرضت عليهم الحجر طيلة ثلاثة عشر عاماً. وسادت طريقة التعامل الخرقاء حقاً التي تظهر اميركا كجهة محسنة، مع نزعة بيوريتانية متعالية بشأن ما هو صحيح وباطل، في ادق مستويات التغطية الاعلامية. وفي تقرير حول ارملة بغدادية يبلغ عمرها 70 عاماً كانت تدير مركزاً ثقافياً من منزلها - هُدم في الغارات الجوية الاميركية - وكانت تحتدم غيظاً، لجأ دكستر فيلكينز مراسل "نيويورك تايمز" الى معاقبتها ضمناً لكونها عاشت "حياة مريحة في ظل صدام حسين"، ورفض بعدئذ بشكل مرائي كلامها العنيف ضد الاميركيين: "وهذا من احدى خريجات جامعة لندن". وبالاضافة الى التضليل بشأن الاسلحة التي لم تكن موجودة، ومعارك ستالينغراد التي لم تقع، ودفاعات المدفعية المرعبة التي تلاشت، لن يثير استغرابي ان يكون صدام اختفى فجأة لان صفقة اُبرمت في موسكو تسمح له بان يخرج مع عائلته وامواله مقابل تسليم البلد. فالحرب سارت على نحو سيء بالنسبة الى الولاياتالمتحدة في الجنوب، ولم يكن بوش يريد ان يجازف بالمزيد من ذلك في بغداد. في 6 نيسان ابريل، غادرت قافلة روسية بغداد. وظهرت كوندوليسا رايس مستشارة الامن القومي الاميركي في روسيا في 7 نيسان ابريل. بعد ذلك بيومين، سقطت بغداد في 9 نيسان ابريل، ويمكن للقاريء ان يستخلص استنتاجاته، لكن اليس من المحتمل ان صدام تمكن نتيجة لمداولات مع الحرس الجمهوري، كما اشار الى ذلك رامسفيلد، من ابرام صفقة تضمن خروجه مقابل التخلي عن البلد كله للاميركيين وحلفائهم البريطانيين ليعلنوا عندئذ نصراً رائعاً. لقد خُدع الاميركيون، وعانى العراقيون وضعاً لا يُطاق، ويبدو بوش مثل المكافيء الاخلاقي لعمدة بلدة من رعاة البقر قاد لتوه اتباعه الصالحين الى مواجهة حاسمة ظافرة ضد عدو شرير. وعلى صعيد امور بالغة الخطورة بالنسبة الى ملايين المواطنين، اُنتهكت مبادىء الدستور وكُذب على الناخبين بشكل لا اخلاقي. نحن الذين يجب ان نستعيد ديموقراطيتنا. كفانا تضليلاً وخداعاً وكلاماً معسولاً. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.