بعد مرور عشرة أيام على اللقاء الثلاثي في أرخبيل اثوريس البرتغالي، اضطر رئيس وزراء بريطانيا توني بلير للسفر الى كامب ديفيد في مهمة وصفت بأنها "عاجلة" لكونها تتعلق بنتائج المرحلة الأولى من الحرب. ومع ان الصحافة ركزت على إظهار أمرين بارزين في محادثات بوش - بلير، إلا أن موضوع التنسيق بين القوات الأميركية والبريطانية كان الحديث الطاغي بسبب الاضرار التي نجمت عما وصف بمصطلح "الرصاص الحبي أو الودي". وكان من نتيجة "الحب الذي قتل" سقوط عشرين جندياً بريطانياً بينهم ثمانية عشر أصيبوا بنيران أسلحة شركائهم الأميركيين. اضافة الى تزايد الخسائر في المروحيات والآليات، فإن ضحايا الصواريخ الضالة في بغداد والبصرة، بدأت تشكل برهاناً على استخدام العنف الأعمى من أجل ارهاب جماعة صدام حسين. ولكي لا تتكرر هذه الأخطاء المسيئة، قرر توني بلير اجراء مراجعة كاملة لنتائج الإرباك الذي أفقد القوات المهاجمة توازنها واندفاعها. ويبدو أن الإدارة الأميركية حاولت تجنب هذا اللقاء بدليل أنها تأخرت يومين في تحديد موعد لبلير ووزير خارجيته، مدعية ان برنامج الرئيس لا يسمح له بالاستقبال المفاجئ. ثم تبين ان بوش كان منشغلاً بتوديع ثلاثين ألف جندي من فرقة المشاة في فلوريدا قبل نقلهم جواً الى جبهة القتال. ويرجح المعلقون أن تكون واشنطن قد علمت مسبقاً بدوافع إلحاح بلير، الأمر الذي قابله الرئيس بوش بإرسال فرقة دعم ربما ترضي الحكومة البريطانية الغاضبة. اضافة الى قوة من المظليين هبطت في شمال العراق. التغيير المفاجئ الذي قضى بزيادة أعداد القوات الأميركية على جبهة القتال، كشف عن بعض جوانب الاختلاف في وجهات النظر بين وزير الخارجية كولن باول ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد. ذلك ان وزير الخارجية الذي أشرف على وضع خطة حرب الخليج الثانية يوم شغل وظيفة رئيس هيئة الأركان، اقترح عدم المباشرة في القتال قبل الاستعدادات الكاملة لخوض حرب قد تستغرق أكثر من ستة أشهر، وحجته ان اختبارات حرب فيتنام أثبتت فشل استراتيجية المعارك المتقطعة التي قضت على خمسين ألف جندي بسبب جهل القيادة لطبيعة الأرض الوعرة وأساليب حرب الاستنزاف البطيء. وحرصاً على تجنب تكرار تلك الأخطاء المميتة، أصرّ باول في حرب تحرير الكويت سنة 1991، على تجميع نصف مليون جندي قبل المباشرة في شن الهجوم. ولقد حاول اقناع الوزير رامسفيلد وجنرالات القيادة بضرورة اعتماد خطة مشابهة خوفاً من حدوث مفاجآت غير متوقعة. والثابت ان القادة البريطانيين أيدوا استخدام هذا المخطط ولو أدى ذلك الى تأجيل موعد الهجوم الى منتصف شهر نيسان ابريل. للرد على مخاوف باول والقادة البريطانيين قام رامسفيلد بعرض فيلم التقطت أحداثه في صحراء نيفادا يمثل مستقبل النظام الالكتروني في خوض الحروب الحديثة. ويظهر الفيلم نشاط مجموعة مقاتلة لا يتجاوز عدد أفرادها 95 جندياً، عُهد اليهم بحماية منطقة شاسعة تبلغ مساحتها خمسة آلاف كلم مربع. وانتشر هؤلاء الجنود في مواقع متباعدة يحمل كل فرد منهم كومبيوتراً من طراز "ابيل نيوتن" وجهازاً صالحاً لتحديد مكانه على الخريطة العسكرية، وهاتفاً جوالاً خاصاً يربطه ببارجة حربية وبطائرة مراقبة تحوم فوق رأسه. هذا العدد الضئيل من الجنود تعرض لقوة اجتياح مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل. وبدأت المعركة باتصال مع طاقم طائرة الرصد، ومع جهاز التصوير في الأقمار الاصطناعية بحيث تم تحديد القوة المهاجمة وأماكن انتشارها. وخلال ثوان معدودة تولت اجهزة الكومبيوتر في البارجة عملية استكشاف تحركات المجموعة المهاجمة، قبل أن تمطرها بصواريخ كانت كافية لإبادة بعضها ومنع البعض الآخر من التقدم. فور انتهاء عرض الفيلم وقف الوزير رامسفيلد ليشرح نظريته في موضوع حروب المستقبل التي تعتمد على تخفيض عدد الجنود وتوسيع استخدام الصواريخ الموجهة بواسطة الأقمار الاصطناعية. وقال للحاضرين ان بلاده حققت ثورة تكنولوجية في هذا المجال، وأن وزارة الدفاع طورت هذا السلاح الفتاك منذ سنة 1995 بحيث أصبحت قادرة على تدمير أهداف بعيدة بدقة متناهية. وواضح من العمليات التي نفذت خلال الايام الثلاثة الأولى من الحرب، ان منطقه تغلب على منطق الوزير باول المطالب بمضاعفة عدد القوات البرية الى أربعمئة ألف جندي، شرط ان تفتح جبهة الشمال بهدف إجبار القيادة العراقية على سحب فرقها المجمعة على الجبهة الجنوبية. وعارض رامسفيلد هذه الخطة لأسباب عدة أهمها ان الصواريخ الموجهة ستدمر كل البنية التحتية التابعة للنظام وأن نتائج الضربة الأولى ستحمل القوات الحزبية على الاستسلام، وتهيئ الفرص لإحداث تمرد شعبي واسع ضد صدام حسين والحرس الجمهوري. ولكي تكتمل صورة الخطة العسكرية أوصى وزير الدفاع بضرورة الاقتداء بنموذج المعارك الاسرائيلية في حربي 1967 و1982. أي القيام باجتياح كاسح وخاطف كما فعل موشيه دايان في سيناء، ثم تكثيف الضربات الموجعة ضد ملاجئ صدام حسين بحيث يضطر سكان العاصمة الى حمله على الاستسلام أو المغادرة مثلما فعل شارون مع ياسر عرفات في بيروت. ولكي تدلل واشنطن على احترامها لديموقراطية الاعلام بعكس نهج النظام القمعي الذي تحاربه، فقد سمحت لوسائل الاعلام الأجنبي بنقل وجهات نظر الوزراء العراقيين. ولم يسلم من الشتائم المنقولة بالصوت والصورة والمترجمة الى اللغة الانكليزية، حتى الرئيس بوش نفسه، خصوصاً بعد صدور بيانات أميركية كاذبة تتحدث عن وفاة مسؤولين عراقيين ثبت انهم أحياء يرزقون! بعد انقضاء خمسة أيام على اندلاع الحرب، طالبت القيادة البريطانية بضرورة تعديل الخطة العسكرية لأن القوة التكنولوجية لم تسد الفراغ الذي أحدثه ضمور الفرق البرية الموزعة على جبهات متباعدة. كذلك طالبت بإعادة تقويم الموقف الميداني لأنها فوجئت بتغيير استراتيجية صدام حسين الذي حوّل الوحدات النظامية الى ميليشيات فدائية تقاتل بين الناس وتتسلل خلف الخطوط الأمامية. وعليه تقرر الاعتماد على خبرة الاستخبارات البريطانية لاستكشاف نبض الشارع العراقي، ومعرفة العناصر الحزبية المتحكمة بنشر الاشاعات بهدف تضليل القوات المهاجمة، كما تقرر استبعاد العناصر التي زرعها جورج تينيت، رئيس الاستخبارات المركزية، لأنها أربكت بمعلوماتها الخاطئة العمليات العسكرية وتسببت بسقوط ضحايا. على الجبهة السياسية سعى توني بلير الى اقناع جورج بوش بأهمية تفعيل دور الأممالمتحدة ولو على مستوى النشاط الانساني. كما سعى ايضاً الى اقناعه بضرورة تحريك صيغة اتفاق السلام الفلسطيني - الاسرائيلي، علماً أن شارون يرغب في ادخال تعديلات على المسودة التي وضعها شركاء الولايات المتحدة في الرباعية الدولية. والسبب انه يريد توظيف الحرب الاميركية - البريطانية ضد العراق لإبعاد روسيا والصين وفرنسا والمانيا وكل الأوروبيين المؤيدين للفلسطينيين. وكان مستشار الأمن القومي الاسرائيلي افرايم هليفي قد اطلق تصريحات وردية عن المستقبل الذي تتوقعه بلاده بعد انتهاء حرب العراق. قال ان الخصوم الآخرين لاسرائيل في المنطقة مثل ياسر عرفات وحسن نصرالله وبشار الأسد وآيات الله في ايران سيضعفون أيضاً، ومعهم يضعف ويختفي الارهاب وأسلحة الدمار الشامل. ولكن توني بلير لا يتطلع الى الشرق الأوسط من خلال المنظور الاسرائيلي، بل من خلال منظور مصالح أوروبا والغرب، واحتمالات ظهور كتلة سياسية مناوئة قوامها: فرنساوروسيا والصين والمانيا زائد بعض الدول الاسلامية والعربية، ولكي يحول دون ظهور مثل هذا التكتل، عرض على الرئيس بوش امكان اخراج فرنسا والمانيا من الجبهة المعادية للحرب. وتحدث عن لقائه المنفرد مع الرئيس جاك شيراك في بروكسيل، مؤكداً أهمية استمالته عن طريق تحريك أزمة الشرق الأوسط المجمدة. ويبدو أن شيراك قد استساغ هذا الترتيب بدليل أنه سمح لوزير خارجيته بأن يعلن في لندن يوم الخميس الماضي، عن تقليص الخلافات مع واشنطن. وفي رأي بلير ان تعيين أبو مازن في رئاسة الوزراء قد أزاح من أمام شارون عقبة كبرى ممثلة بوجود رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. لذلك توقع ان تحظى مبادرته بالموافقة الاميركية الآن، لعلها توازن الحملة العسكرية ضد العراق. المعلومات الأولية تشير الى صعوبة تنفيذ هذه الخطوة التي يرفضها شارون من جهة، ويعارضها ديك تشيني ودونالد رامسفيلد والمستشار ريتشارد بيرل من جهة أخرى. ويتفق هؤلاء على قاسم مشترك خلاصته انه لا يجوز إحلال السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين عن طريق إرضاء العرب، والسلام حسب تصورهم يجب أن يفرض بالقوة... والقوة وحدها. وهم يعارضون توني بلير وينتقدون مخاوفه لأسباب عدة أهمها: أولاً، ان منصات اطلاق الصواريخ التي استخدمت سنة 1991 ضد اسرائيل لم تعد موجودة. ثانياً، ان دوافع الهجوم على اسرائيل سنة 1991 لم تعد قائمة. ففي ذلك الحين سعى صدام حسين الى خلق مواجهة عسكرية مباشرة مع الدولة العبرية كي يشجع انسحاب الدول العربية من التحالف. ثالثاً، اذا حدث واستخدم العراق صواريخ "سكود" كما فعل من قبل، فإن ذلك يعطي المبرر الشرعي للاجراءات العسكرية القائمة، ويمهد الطريق لتراجع الموقف الفرنسي - الألماني - الروسي. في ضوء هذه الخلفية يمكن الافتراض ان الاقتراحات التي قدّمها توني بلير في "كامب ديفيد" يصعب تحقيق الشق السياسي منها، في حين يظهر الشق العسكري وكأنه قد تم تنفيذه. وهذا ما يدفع الى الاعتقاد بأن الخطة الحربية قد تعرضت للتعديل، وان القيادة ستصبح مشتركة بعدما فشلت الولايات المتحدة في ربح المعركة الأولى. ومن المتوقع ان تكون معركة حصار بغداد ضارية جداً لأن إطالة الوقت ستسمح للدول المعارضة بتمرير الأسلحة وإرسال متطوعين على غرار ما حدث في افغانستان. ولم يكن التحذير الذي أطلقه وزير خارجية روسيا ايغور ايفانوف سوى بداية مرحلة التدويل للحرب العراقية، كأنه بذلك يعرض على صدام حسين حلاً ينقذه من ورطة الحصار والاستفراد. وربما تكون هذه النبرة غير المألوفة في ديبلوماسية روسيا البوتينية مجرد محاولة لإشراكها في حل أزمة الشرق الأوسط، مقابل السكوت عن الحرب الأميركية - البريطانية ضد العراق. أو هي على الأقل مجرد لهجة حادة قد تنبه فرنسا الى استعداد روسيا للذهاب في هذه المعارضة الى أبعد حد ممكن! * كاتب وصحافي لبناني.