الوضع السياسي في العراق الآن وهو تحت الإحتلال مفتوح على كل الإحتمالات في ما يتعلق بشكل الحكم الممكن. هناك ما يشبه الإجماع على أن الوجود الأميركي في العراق يمثل إحتلالاً لا لبس فيه. وهذا يعني أن المعارضة العراقية لهذا الوجود من القوة بحيث أنها قد لا تسمح بنجاح الأميركيين في إقامة نظام بديل ومقبول لنظام صدام حسين. لكن من ناحية أخرى، لا يزال الإحساس بأن كابوساً قد أزيل عن كاهل العراق هو المسيطر. من هنا يبدو أن تفاهماً أميركياً - عراقياً على صيغة الحكم البديل لا يزال قائماً. الإختلاف يتمحور حول الصيغة التي يجب أن يتخذها هذا التعاون. هناك إشارات تنطلق من أطراف عدة، من داخل العراق وخارجه، على ضرورة التعاون مع الأميركيين، لا لشيء إلا للإسراع بتشكيل حكومة وطنية عراقية مقبولة للجميع، ولتسريع رحيل الأميركيين. هذه الإشارات تأتي من الإيرانيين، ومن العرب، خصوصاً جيران العراق، بل من أطراف عراقية شيعية وسنية وكردية، مدنية ودينية. في المقابل لا تزال المعارضة منقسمة ولا تملك برنامجاً سياسياً واضحاً يحظى بإجماع كل التيارات. القيادات الدينية تكاد تكون الوحيدة التي تعطي إشارات متسقة لما ينبغي أن تكون عليه طبيعة الحكم المقبل في العراق. قيادات المجتمع السياسي غير الدينية منقسمة بين مرتبط بالوجود الأميركي، وبين من يحاول الإحتفاظ لنفسه بمساحة كافيه من الإستقلال. الدور العربي، خصوصاً دور دول الجوار، غائب أو هكذا يبدو، عن محاولات رسم مستقبل العراق. في هذا المشهد تبقى الولاياتالمتحدة الطرف الأقوى حتى الآن. وهي حديثة على المشهد العراقي. لكنها الطرف الذي أزاح النظام السابق بقوة السلاح. وكانت الطرف الوحيد القادر على ذلك. من هنا فرضت نفسها على المعادلة السياسية في العراق وفي المنطقة. وهي صاحبة الوجود العسكري الضارب في الأرض. وفوق ذلك، هي القوة الأعظم في العالم. ولا يمكن الإحتماء من سطوتها بأي دولة كبرى غيرها. هذا أعطى الولاياتالمتحدة مصدراً للثقل داخل المجتمع العراقي وخارجه. لكن على رغم السطوة الأميركية، وما يبدو من إنفراد أميركي بالمشهد العراقي، إلا أن الوضع في العراق بما هو عليه في أعقاب سقوط النظام السياسي، يوفر فرصة لم يكن من الممكن توفرها من قبل. المجتمع العراقي يعيد طرح سؤال الحكم من جديد، ومن دون وجود قوى سياسية محلية متحكمة. هناك حرية سياسية غير مسبوقة. هناك إنقسام سياسي، وأجواء عدم ثقة بين كل الفرقاء بمن فيهم الأميركيون. لكن هذا لا يشكل بالضرورة نقطة ضعف، بل قد يكون مصدر قوة وإنفتاح على خيارات عدة. الأميركيون قوة ضاربة. هذا صحيح. لكن وجودهم يفتقد إلى الشرعية. والأطراف المرتبطة بالوجود الأميركي، مثل أحمد الجلبي، لا تحظى بأية شرعية عراقية أو عربية. بناء على ذلك، يبدو أن الوضع في العراق قابل أن يسير إلى نوع من التوافق على شيء جديد بين فرقاء المشهد السياسي، بمن فيهم الأميركيون. ما يعزز ذلك أن من أهم ما أفرزته الحرب الأميركية على العراق، وتحديداً سقوط النظام البعثي، هو الإنفتاح العراقي على فكرة علمانية الدولة، وإكتسابها لشرعية كانت تقتصر سابقاً على الأطر الفكرية لبعض الأحزاب السياسية مثل حزب البعث. الإشارات التي تصدر تباعاً هذه الأيام عن بعض المراجع الدينية العراقية في هذا الإتجاه تقول أن شيئاً مهما تغير في الفكر السياسي العراقي. هناك إجماع على فكرة الهوية الوطنية لجميع الفئات والطوائف والقوميات التي يتكون منها المجتمع العراقي. وهناك إدراك متزايد بأن التركيبة الإجتماعية للمجتمع العراقي، بما في ذلك الإنقسامات الطائفية والقومية، هي العامل الأساسي وراء ما تميز به التاريخ العراقي من إحتقانات سياسية، وأنظمة حكم قمعية، وعدم إستقرار سياسي يكاد أن يكون مزمناً. وما جعل من هذه التركيبة فاعلة في هذا الإتجاه هو إرتهان غالبية العراقيين للحدود والحساسيات الطائفية والاثنية لتلك التركيبة. الأمر الذي دعم الإنقسامات ورسخ عدم الثقة بين عناصرها مع الوقت. من هنا، ووسط الفوضى والدماء التي خلفتها الحرب الأميركية - البريطانية مع ما صاحب ذلك من آلام، يبدو شيئاً جميلاً ويبعث على الأمل أن تتمسك القيادات السياسية والدينية بوحدة العراق وبهويته الوطنية. وفي الوقت نفسه الإعتراف بطبيعة التركيبة الإجتماعية لمجتمعهم، وما يفرضه ذلك من حلول وسط للمشكلة السياسية يلتقي عندها كل أطراف تلك التركيبة وتتواضع عليها مصالحهم. يبدو أن هناك قناعة سياسية يتشكل الإجماع عليها داخل العراق. وهي أن حل المشكلة السياسية في العراق يجب أن يتجاوز الأطر والقيود الطائفية والاثنية، وأن يكون معيار صلاحيته ونجاعته هو المحك الوطني العراقي الذي يلتقي، أو ينبغي أن يلتقي حوله الجميع. ولعل ما ساعد على تبلور هذا التوجه أن الذي قام بإسقاط النظام العراقي هو قوة أجنبية غير محسوبة على أي من أطراف الطيف السياسي أو الديني في العراق. أهم ركيزتين يكاد يتحقق الإجماع عليهما بين العراقيين هذه الأيام هما: فكرة الفيديرالية كصيغة لوحدة العراق، وفكرة الفصل بين الديني والسياسي كأساس تقوم عليه هذه الوحدة. الفكرة الفيديرالية معروفة كهدف معلن. لكن فكرة الفصل بين الدين والدولة لم تتبلور بعد في صيغة سياسية واضحة. واللافت أن أهم القيادات الدينية، شيعية وسنية تحذر من عدم الإنزلاق إلى مواقف وخيارات طائفية تحت ضغوط الغموض الذي يلف الموقف السياسي وما يتسم به من عدم إستقرار وفراغ في السلطة. تؤكد هذه القيادات، وبشكل يعكس توافقا تلقائياً، على ضرورة عدم الخلط في الظروف الحالية بين المنطلقات والقناعات الدينية، وبين الأهداف السياسية. حاول بعض القيادات أو التنظيمات الشيعية إستعراض قوته الشعبية والتنظيمية لفرض خياراته على المستقبل السياسي لعراق ما بعد صدام. لكن آية الله علي السيستاني، أكبر مرجع في النجف، حذر من إستغلال المناسبات الدينية لتحقيق أغراض سياسية. مشيراً إلى دعوة "المجلس الأعلى للثورة في العراق" أبناء الطائفة الشيعية لزيارة كربلاء وإحياء أربعينية الإمام الحسين في الإسبوع الماضي لإظهار نفوذه ووزنه السياسي بين الشيعة. رئيس المجلس الأعلى للثورة، آية الله محمد باقر الحكيم، سارع في ما يبدو أنه محاولة لرد هذه التهمة إلى الإعلان عن إستعداده ""للتعاون مع الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي لتحسين أوضاع العراقيين"، بل أعلن الحكيم ومن داخل إيران أنه "لا يمكن نسخ التجربة الإيرانية في العراق". ثم ذهب أبعد من ذلك عندما قال "بإمكان فصل الدين عن الدولة" في العراق. مثل هذا الإعلان، وبمثل هذا الوضوح والمباشرة ليس للإستهلاك أو المناورة، خصوصاً أنه يأتي وسط موقف يتسم بعدم الوضوح وعدم الإستقرار. ومن جانبه إتخذ الشيخ أحمد الكبيسي، وهو سني، موقفاً مماثلاً عندما أكد في حديث مع صحيفة "الحياة" على أن مطلب حركته بالنسبة الى "مستقبل النظام السياسي في العراق" لا يتمثل في إقامة "نظام إسلامي في هذا البلد". مشدداً على أنه "ليس من المصلحة أن تكون هناك دولة إسلامية في العراق في الوقت الحالي. إنما المصلحة هي في قيام دولة عراقية صرفة، لا علمانية بحتة ولا إسلامية بحتة". مواقف هؤلاء الشيوخ المعلنة بمثل هذا الوضوح والمباشرة تعكس جرأة في الطرح. وتمثل إتجاها جديداً داخل الفكر السياسي الإسلامي في العراق. ربما قيل أن هذه المواقف لا تتمتع بتأييد شعبي واسع. ومن ثم قد تكون علامة على فجوة قائمة بين القيادات الدينية وبين قاعدتها الشعبية. وإذا صح هذا الإحتمال فإنه يؤكد جرأة هؤلاء المشايخ في تولي زمام القيادة بدل الرضوخ لظاهرة الإنصياع الأعمى والمصلحي لما يسمى أحيانا ب"سلطة العوام". وهي ظاهرة منتشرة بشكل إنتهازي بين الكثيرين من قيادات ما يعرف ب"الإسلام السياسي". بل يؤكد إدراك هذه القيادات لخطورة المرحلة، وما تتطلبه من تغيير في الرؤية، وإعادة لترتيب الأولويات. وربما قيل أن هذه المواقف لا تعكس إجماعا بين السنة والشيعة في العراق. لكن المؤشرات الأولى تقول بعكس ذلك. ليس واضحا إن كان هناك شيء من التنسيق بين هؤلاء المشايخ حول ما ينبغي إتخاذه من مواقف معلنة تجاه مسألة حساسة ومزمنة، هي مسألة الحكم في العراق. إن كان هناك مثل هذا التنسيق فهو يعكس درجة متقدمة من الوعي بين من هم، أو من كانوا لزمن طويل خصوماً على أساس طائفي، ولا يؤمل في إتفاقهم. وإذا لم يكن هناك مثل هذا التنسيق فإنه يعكس إلتقاءً عفوياً فرضته حساسية الموقف وما ينطوي عليه من مخاطر جسيمه. يبدو أن هناك قناعة تتنامى داخل المجتمع العراقي، خصوصاً داخل قيادات التنظيمات الدينية، بضرورة إدراك الفرق بين القناعات الدينية من ناحية، والأهداف السياسية من ناحية أخرى. وإدراك خطورة الآثار والمترتبات السياسية للخلط بينهما. فالقناعات الدينية بطبيعتها قناعات خاصة وحصرية سواء على مستوى الفر, أو على مستوى الطائفة. وبالتالي تتسم بخاصية الإنغلاق والإقصاء في مواجهة الآخر الديني أو الطائفي. وعلى هذا الأساس تتميز القناعات الدينية بخصوصيتها وقدرتها اللانهائية على التفرقة والإنقسام. في المقابل تتميز الأهداف السياسية وتحديداً عندما تكون بمنأى عن الإلتزامات الدينية، بقابليتها لأن تكون أهدافاً عامة تلتقي عندها كل الأطراف، وبالتالي يتحقق في إطارها الإجتماع والوحدة الوطنية. الأكثر من ذلك، يبدو أن هناك إدراكاً واسعاً بأن عدم الإصرار على الهوية الطائفية للدولة في العراق يحقق لهذه الدولة الإستقلال عن أن تكون مرتهنة لهذه الطائفة أو تلك على حساب غيرها من الطوائف. وهو إستقلال إفتقدته، مثل غيرها من الدول العربية، طوال تاريخها. وليس بعيداً أن التجربة السياسية للعراق خلال نصف قرن, وما إنتهت إليه هي التي قادت إلى هذه النتيجة. الجميع يريد الوحدة الوطنية بإعتبارها صمام الأمان. لكن لا يمكن تحقيق هذه الوحدة إلا باستقلال الدولة، ليس فقط من القوى الخارجية. بل عن القوى المحلية أياً كانت هويتها السياسية أو الايديولوجية. والعلمانية هي صمام هذا الإستقلال الضروري للدولة. هل هذا ما توصل إليه العراقيون؟ المعطيات الأولية تشير إلى ذلك. والباقي متروك للوقت والتجربة. * كاتب سعودي.