تشبه "الحال" العراقية بجوّها العسكري والمأسوي بعض الشبه "الحال" الألمانية غداة صعود النازية وعشية سقوطها. فالأدباء والشعراء الألمان عاشوا فترة الحرب إما في المنفى هرباً من الطاغية هتلر أو في ملجأ الصمت القسري. ولم يكن على البعض منهم إلا أن يلتحقوا في صفوف الجيش رغماً عنهم. هنا تحقيق عن أحوال الأدباء الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. عندما خرست مدافع الحرب الثقيلة كان بعض الجنود لا يزالون يتمسكون ببنادقهم ويبدون مقاومة يائسة تجاه الأعداء الغزاة. هؤلاء الغزاة استقبلهم آخرون بالورود والأهازيج باعتبارهم "محررين". الدمار والخراب في كل مكان، والنهب والسلب يجرد المباني التي أصابتها القنابل أو التي هجرها أصحابها من محتوياتها. لا وجود للدولة وسلطاتها. الحياة العامة مصابة بالشلل التام. القتلى ملقون على قارعة الطريق، والجرحى تكتظ بهم المعسكرات الطبية التي نُصبت على عجل بعدما ضاقت المستشفيات بالمصابين والمشوهين. بعد الصدمة تأتي التساؤلات: ألم يكن الطاغية وحده هو المسؤول عن كل هذه الجرائم؟ أم هل يمكن التحدث عن مسؤولية جماعية عما حدث، عن ذنب يتشارك فيه الجميع؟ وما مسؤولية المثقفين والأدباء عن وقوع الكارثة؟ مَن ساند النظام؟ هل مِن مسؤولية تُلقى على من هرب إلى المنافي؟ وما مسؤولية مَن قبع في الداخل والخوف يخرس قلمه؟ وما فرصة نشوء أدب جديد وسط هذه الأنقاض؟ أدب يستخدم لغة أخرى بسيطة وصادقة، بعيداً من عنتريات لغة وزير الإعلام؟ ليست هذه السطور وصفاً لما حدث في بغداد غداة سقوطها أمام يد قوات المارينز الأميركية يوم التاسع من نسيان أبريل عام 2003، بل هي تصوير لما حدث في ألمانيا النازية في الثامن من آيار مايو عام 1945. الطاغية المذكور أعلاه ليس حاكم بغداد، وإنما مستشار برلين، أما وزير الإعلام المقصود فهو جوزف غوبلز الحائز درجة الدكتوراه في الأدب الألماني، والذي - كما هو مشهور عنه - كان يتحسس مسدسه عندما يسمع كلمة ثقافة. ما أشبه الليلة بالبارحة. يتشابه فعلاً تاريخ الطغيان والحروب تشابهاً مروعاً. إنه يختلف في الدرجة والعنف والبشاعة، لا شك، لكنه يشترك في سمات رئيسة كثيرة، منها العلاقة الإشكالية التي تربط بين المثقف والسلطة أو تفصل بينهما. عندما تولى هتلر الحكم في برلين في الثلاثين من كانون الأول ديسمبر عام 1933 تعرض المثقفون الألمان لامتحان عسير رسبوا فيه بامتياز. اتجاهات هتلر اليمينية المقلقة لم تكن خافية عن أعين الأدباء والمفكرين، وعلى رأسهم الكاتب هاينريش مان، الشقيق الأكبر للروائي توماس مان. بعد أسابيع من تعيين هتلر مستشاراً دعا هاينريش مان في أكاديمية الفنون في برلين إلى تشكيل جبهة يسارية مناهضة للحكومة اليمينية القومية. وعندما علم موظفو وزارة الثقافة بالأمر طالبوا رئيس الأكاديمية بإقالة الكاتب الكبير والمتضامنين معه، وهو ما حصل بالفعل. الشاعر المشهور غوتفريد بن انضم الى المزايدين، وكتب بياناً يعرب فيه عن ولائه ودعمه للحكومة الجديدة، لأن الوطن يمر بظروف صعبة ولا بد من مساندة النظام الحاكم، أي لا صوت يعلو فوق مصلحة الوطن حتى لو كُممت أفواه المعارضين. سوء تقدير كارثي، ندم عليه الشاعر في ما بعد طوال حياته. لم تمر على هذه الحادثة بضعة أسابيع إلا وكانت اللجان الإقليمية للحزب النازي تعد "قوائم سوداء" للأدباء الممنوعين، قوائم ضمت قمم الفكر الألماني مثل ألفريد دوبلين وبرتولد بريخت وكورت توخولسكي وشتيفان تسفايغ وتوماس مان، وبالطبع هاينريش مان. وبعد شهور، وفي العاشر من آيار عام 1933، أضحت الجامعات الألمانية الكبرى مسرحاً لحرق ثمار الفكر الإنساني، بل لقد حدث هذا وسط تهليل طلبة العلم والعلماء! وهكذا استطاع طاغية برلين في غضون شهور عدة، وبمساعدة قطاع عريض من الألمان الذين كانوا يتوقون إلى يد حديد تنتشل البلاد من محنتها السياسية والاقتصادية التي نجمت عن الشروط المجحفة التي فرضتها معاهدة فرساي على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، استطاع أن يقلب موازين القوى في البلاد لمصلحته، وأن يصدر القوانين الاستثنائية ويغلق الصحف التي تجرؤ على معارضة سياسته، محولاً بذلك الجمهورية الفتية - جمهورية فايمار- إلى ديكتاتورية مطلقة. هل هي حال ألمانية استثنائية؟ الحريق ماذا فعل المثقفون؟ مع حريق الكتب في العاشر من آيار 1933 قبل سبعين عاماً بالضبط، بدأت الحرب الفعلية في ألمانيا، وبعد ست سنوات امتدت نيرانها إلى العالم كله، لتستمر حتى وصول قوات الحلفاء إلى برلين وانتحار هتلر وعصابته في آيار 1945. طوال هذه الفترة لم يكن أمام الكتّاب إلا الهجرة والحياة في المنافي، أو التقوقع في ما سُمي بالمهجر الداخلي، أي البقاء في ألمانيا على رغم منعهم من الكتابة والنشر، أو الارتزاق من الكتابة في خدمة النظام. ومن أبرز ممثلي المجموعة الأولى الشاعر برتولد بريخت 1898-1956 الذي طاف بلدان منافي أوروبا كلها تقريباً حتى استقر في الولاياتالمتحدة حيث أقام أيضاً الروائي توماس مان مع عائلته. كلا الأديبين واصل الكتابة في المنفى: بريخت كتب عدداً كبيراً من القصائد والمسرحيات منها: "الأم شجاعة وأبناؤها" و"السيد بونتيلا وتابعه ماتي" و"دائرة الطباشير القوقازية". الكتابة كانت فعل مقاومة بالنسبة إلى بريخت، وكما يقول في قصيدته "الأزمنة السوداء": "ينبغي ألا يُقال: الأزمنة كانت سوداء/ بل أن يُقال: لماذا سكت الشعراء والأدباء الذين عاشوا فيها؟". توماس مان 1875-1955 لم يصمت في المنفى أيضاً، فقد كان يوجه من هناك أحاديثه الشهيرة "إلى الشعب الألماني" عبر إذاعة ال"بي بي سي"، مطالباً إياهم بأن ينتفضوا ضد استبداد هتلر، وبأن يساعدوا قوات الحلفاء على دحر النازية. بالتأكيد اتُهم توماس مان أثناء الحرب بالخيانة والعمالة، إلا أن أحاديثه - وهو السلطة الأدبية الكبيرة الحائزة على التقدير العالمي وجائزة نوبل - أعطت المعارضين والمقاومين في الداخل دعماً معنوياً كبيراً. في المنفى أيضاً نشر مان رباعيته المشهورة "يوسف وأخوته"، وكتب كذلك أحد أهم أعماله على الإطلاق، وهي رواية "دكتور فاوستوس" التي نشرت عام 1947. مدرسة المستبدين البقاء في ألمانيا أو التعرض لكل أنواع العنت يمكن اعتباره أيضاً شكلاً من أشكال المقاومة الصامتة. الشاعر والروائي والصحافي اللامع إيريش كستنر 1899 - 1974 مُنع من الكتابة، وأُلقي القبض عليه مرتين، ومع ذلك رفض مغادرة ألمانيا حتى عندما اندلعت الحرب. كان كستنر يقول لأصدقائه إنه بقي من أجل والدته المسنة، ولكي يكون شاهداً على جرائم النازية. التف كستنر على قرار منعه من النشر بالاتجاه إلى كتابة سيناريو الأفلام وروايات الأطفال التي غدت من أشهر أعماله حتى اليوم. أما الرواية الكبيرة التي خطط لها عن جرائم النازية فلم تصدر أبداً. بدلاً من ذلك كتب كستنر مسرحية سماها "مدرسة المستبدين" 1956، عالج فيها فكرة الطغيان في شكل تراجيدي هزلي. لقد عايش كستنر كيف تحولت الغالبية من الألمان إلى أداة طيعة وماكينات في خدمة النظام النازي، وكيف حاول الناس تكييف أمورهم مع النظام في أي شكل وفي كل ثمن، فهم يعلمون - كما يقول كستنر في المسرحية - أن "العصيان مرض عاقبته في بلادنا الموت". من هنا نبتت فكرة المسرحية التي يسخر فيها من المستبدين، وطرق حكمهم، وزيفهم، وخوائهم أيضا، ويسخر كذلك من المنتفعين المتسلقين. عن عمد يجعل كستنر من أبطاله دُمى متحركة، يرمز بها إلى الإنسان المنحط فكرياً وأخلاقياً: الإنسان الذي تخلى عن إنسانيته. كستنر يعيد في هذه المسرحية صوغ التاريخ لينطبق على واقع كثير من البلدان. وعلى رغم أن المسرحية كُتبت منذ حوالى نصف قرن، إلا أنها تبلغ درجة عالية من المعاصرة وكأنها تصف طاغية بعينه. يقول كستنر في تقديمه المسرحية: "هذا الكتاب مسرحية، تعود فكرة كتابتها عشرين عاماً إلى الوراء. آنذاك سُلبت من كثيرين ومنهم المؤلف آمالهم، إلا أنهم اغتنوا بخبرة جديدة. لقد تعلموا من خلال النموذج الألماني أن الإنسان - مع احتفاظه بكامل الشبه الفوتوغرافي مع أخيه الإنسان - يمكن أن يُشوَّه لئلا تستطيع التعرف على أي ملمح منه. إن رؤية الكلاب المدربة - التي تقفز على قدميها الخلفيتين لابسةً ملابس الدمُى لَهوَ أمر يثير الاشمئزاز" أما رؤية الإنسان المدرب على التخلي عن كرامته وضميره، الإنسان الممسوخ المرتدي قناع إنسان، فهي من أبشع المناظر. وعلى رغم أن هذا الإنسان يستهزئ بكل وصف، فقد حاولت هنا أن أصفه.... هذا الكتاب مسرحية، تتطلع إلى أمنية. الفكرة عمرها عشرون عاماً، والأمنية أقدم من ذلك، والموضوع - للأسف الشديد - لم يتقادم بعد". أصوات جديدة بعد الهزيمة كان الألمان يتوقون إلى جيل جديد من الأدباء "الأنقياء" الذين لم تلوثهم النازية، أدباء يعبرون عن "ضمير الأمة" التي كانت يوماً "بلاد الشعراء والمفكرين" وأضحت "بلاد القضاة والجلادين". التف الناس آنذاك من ناحية حول السلطة الدينية التي تمنح العفو والغفران، ومن ناحية أخرى حول الأدب الجديد الجريء المعبر عما يعتمل في نفوسهم. معظم هذا الأدب كتبه جنود سابقون خدموا في جيش الطاغية، وبدأوا تجاربهم الأدبية وسط هدير المدافع وأزيز الطائرات ودمار القصف الجوي. كيف تعاملوا مع تجربة الطغيان؟ وكيف استطاعوا الخدمة في جيش الطاغية؟ وما أثر تلك التجربة في أدبهم؟ من هؤلاء الكتاب يبرز اسم ألفريد أندِرش 1914-1980 واحداً من الذين تركوا بصمات واضحة على الساحة الثقافية والفكرية بعد الحرب. بسبب انتمائه الى الحزب الشيوعي أُلقي القبض على ألفريد أندِرش في السنوات الأولى من حكم هتلر، وقضى ثلاثة شهور في معسكر الاعتقال في داخاو. خلال هذه الفترة شعر بالغضب العميق والإحباط من رفاقه في الحزب. كان ينتظر منهم أن يقاوموا بكل قوتهم وصول النازيين إلى السلطة، حتى لو أسفر الأمر عن اندلاع حرب أهلية. ولكن نيران الحرب العالمية هي التي اندلعت، ووجد أندرش نفسه مجبراً على الاشتراك فيها جندياً في جيش ديكتاتور برلين. الفرار إلى جيوش الحلفاء والاستسلام كان فعل المقاومة الوحيد المتبقي أمامه: إذا لم يكن في مقدوره إسقاط النظام قبل الحرب، فعلى الأقل لن يدافع عن هذا النظام التوسعي المجنون الذي أتى على الأخضر واليابس في أوروبا، وأودى بحياة ثلاثين مليون إنسان. بعد انتهاء الحرب وعودته إلى الشطر الغربي من ألمانيا أضحى أندِرش شخصية محورية في الحياة الثقافية لمدة زادت عن عشر سنوات. بدأ نشاطه مساعداً لإيريش كستنر في تحرير القسم الأدبي لجريدة "نويه تسايتونغ" في ميونخ" ثم اشترك مع الناقد هانز فيرنر ريشتر في إصدار مجلة "النداء"، إحدى أهم المجلات الأدبية بعد الحرب والتي شهدت نقاشاً حامياً وجدلاً استمر سنوات عدة حول المسؤولية التي يتحملها الألمان - كأفراد وكشعب - تجاه جرائم النازية لا تبدو مثل هذه الأسئلة عن مسؤولية العراقيين والعرب عن الاستبداد في بلادهم مطروحة على الساحة الثقافية العربية، وما زال يحلو للبعض أن ينسب كل ما حدث إلى شخص بعينه، بن لادن أو صدام حسين، أو... أو.... اشترك أندِرش بعد ذلك مع زميله الناقد ريشتر في تأسيس جماعة أدبية أصبحت أهم ملتقى للأصوات الأدبية الشابة في ألمانيا بعد الحرب" تلك هي "جماعة 1947" الأدبية التي استمدت اسمها من العام الذي التقت فيه للمرة الأولى. من أروقة الاجتماعات السنوية للجماعة اكتشف أندِرش وريشتر عدداً من الأصوات الواعدة التي سرعان ما فرضت نفسها على ساحة الكلمة، مثل هاينريش بُل وغونتر غراس وإنغبورغ باخمان. ولعل فكرة "الهرب" هي الموضوع الرئيس في أعمال أندِرش، وكما يتجلى في أولى رواياته "كرز الحرية" التي أصدرها أوائل الخمسينات، ويروي فيها قصة هروبه من الجيش النازي عام 1944. الحرية التي يتحدث عنها العنوان ما هي إلا لحظات في حياة البطل تفصل بين أسر وآخر. خلاص البطل يكمن في الهرب من النظام الفاسد المجرم ليحقق وجوداً أكثر إنسانية، حتى لو اتهم بالخيانة العظمى. أما في روايته "الحمراء"، فإن البطلة تهرب أيضاً ولكن على صعيد شخصي: من زيجة فاشلة ولكنها مستقرة، إلى فنان فقير تجد لديه الحب الصادق. جيل ينتظر "أمام الباب" في عام تأسيس "جماعة 1947" الأدبية كان أحد أهم الأصوات الأدبية الجديدة يرقد على فراش الموت. عندما جُند فولفغانغ بورشرت 1921-1947 لم يكن تعدى عامه العشرين بعد، وخلال فترة تجنيده أُصيب بمرض عضال حار الأطباء في تشخيصه، فقرروا الاستغناء عن هذا الجندي الهزيل الذي لا يصلح للقتال. عشية الإفراج عنه يتهكم بورشرت أمام زملائه من "صحّاف" ذلك العصر، وزير الدعاية الدكتور غوبلز، ويقول مقلداً إياه: "تعرفون أن الكذب ليس له سيقان. إلا أن طبيبي تمكن من ابتكار سيقان اصطناعية أمشي عليها بصورة شبه طبيعية. على الجندي الألماني أن يحارب حتى الطلقة الأخيرة، عندئذ سيتعلم كيف يعدو بأقصى سرعة. وستسمحون لي، أيها الرفاق، أن أعدو أمامكم - فأنا معاق عن المشي". عقب هذه الكلمات يُسلم الشاعر الشاب إلى المحكمة العسكرية، ويحكم عليه بالسجن لمدة تسعة شهور. بعد انتهاء الحرب وإطلاق سراحه يسير المريض المحموم على قدميه متجهاً إلى مسقطه هامبورغ، ويصلها منهكاً أشد الإنهاك، ولكنه كان يتفجر رغبة في الحياة: "أود لو أكون منارة/ في الليل والعواصف/ للأسماك/ لكل قارب. لكنني/ سفينة/ موشكة على الغرق". انغمس بورشرت في العمل بالمسارح حتى انهار مريضاً، وبعد أسابيع عدة في المستشفى يموت الشاعر في زهرة شبابه 26 عاماً. استطاع بورشرت في أعماله القصصية والشعرية القليلة أن يعبر خير تعبير عن مأساة جيله الذى أُلقي به في حرب مجنونة لقي حتفه فيها من دون أن يقول له أحد كلمة وداع، وعندما عاد لم يجد وطناً فظل في الخارج "أمام الباب". كتب بورشرت "أمام الباب" على فراش المرض في ثمانية أيام، وقدمت على الفور كتمثيلية إذاعية، قبل أن تتسابق خشبات المسارح على تقديمها، لتصبح أشهر عمل أدبي في تلك الفترة. لماذا حدث ما حدث؟ "عندما انتهت الحرب" هو عنوان إحدى قصص هاينريش بُل 1917-1985، وفيها يروي الجندي الألماني العائد من الجبهة ما عايشه يوم سكوت المدافع. بعدما أفرجت عنه قوات الحلفاء يجد الجندي نفسه مع زملائه في قطار يعود بهم إلى مدينته. وفي كولونيا يركب شاحنة تكتظ بالجنود تنطلق بهم عبر المدينة. يرسل الجندي بصره إلى أشلاء المدينة ويستعيد ذكريات صباه فيها، ثم تمر الشاحنة أمام بيت عائلته، ويري بعيني رأسه شخصين يقلبان في محتويات المنزل الذي سقطت واجهته، ويلتقطان ما يرانه صالحاً ويعطيانه لشخص ثالث كان ينتظر في أسفل المنزل لم يمتد السلب والنهب آنذاك إلى المتاحف ولا إلى المباني الحكومية. عندما بدأت الحرب كان هاينريش بُل جندياً صغير السن، فرغ لتوِّه من دراسته الثانوية، وعندما انتهت كانت نقطة البداية للكاتب هاينريش بُل الذي أثرت فيه خبرتان رئيستان: الخبرة الأولى هي الأزمة الاقتصادية العالمية في عشرينات القرن الماضي، والتي شهدت فيها ألمانيا تضخماً رهيباً راح ضحيته الكثير من أصحاب الأعمال والحرفيين، ومنهم أبوه الذي كان يعمل نجاراً. الخبرة الثانية التي حفرت عميقاً في نفس الصبي تمثلت في فترة حكم هتلر، وعنها يقول: "بعد الخبرة التي عايشتها في الأزمة الاقتصادية - خبرة العجز الاقتصادي - جاءت خبرة العجز السياسي، التي ربما كانت أسوأ" ففي الأولى كان باستطاعة الإنسان أن يرتب أموره وأن يساعد نفسه على نحو ما، أما في الثانية فلم يكن ثمة ما يمكن فعله". هذا الشعور بالعجز وقلة الحيلة أمام بشاعة الطغيان ثم الحرب هو ما يصوره بل في أولى قصصه بعد عودته من الجبهة" مثلاً في قصته "موت إلزه باسكولايت" حيث يصف حال البقال الذاهل الذي توقف الزمن لديه عند إحدى الغارات الجوية التي فقد أثناءها ابنته الشابة. وإن كان بُل جرب قلمه قبل الجندية، فإن تجربة الحرب هي التي وضعت الكلمات على فمه. وقد جاء اختياره للقصة القصيرة - التي برع فيها - نتيجة ظروف الحرب أيضاً: فبكل بساطة لم يكن هناك ورق أو إمكانات للطباعة، وكان المتاح هو نشر قصة قصيرة هنا أو هناك. في سنوات الخمسينات والستينات انتقل بُل إلى تصوير المجتمع الألماني ونقده في ظلال ما سُمي ب"المعجزة الاقتصادية"، عندما تحولت ألمانيا في غضون عشر سنوات - وبمساعدة مشروع مارشال الأميركي الى إعادة إعمار دول أوروبا الغربية - من دولة متسولة إلى واحدة من أقوى الأمم الصناعية في العالم الغربي. انتشر الرخاء المادي والرفاهية في البلد الذي عانى طويلاً الجوع والعوز والفاقة. لكن بُل رأى خلف هذه الواجهة البراقة أمراض المجتمع الجديد الذي اتخذ من المال قيمة تعلو فوق كل قيمة" مجتمع قام بعملية إزاحة وكبت جماعي لخبرة الحرب متناسياً مسؤوليته في نشوب تلك الحرب. هذه المواضيع، إضافة إلى توجيهه النقد اللاذع الى الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا كمؤسسة وسلطة تماشي النظام السياسي، هي التي تناولها بُل في قصصه القصيرة ورواياته: "ولم ينطق بكلمة واحدة" 1953، "آراء مهرج" 1963، و"صورة جماعية مع سيدة" 1971. ومن المواضيع الملحاحة في قصص بُل ورواياته موضوع رفض الاندماج في المجتمع، واختيار الحياة على الهامش بكامل الوعي، أي رفض أن يصبح الفرد ترساً في آلة المجتمع الصناعي المنتج. هذا الرفض ينبع أيضاً من تجربته أثناء الحرب، عندما كان يحاول بكل جهده تزييف الشهادات المرضية أو تصاريح بالغياب عن جبهة القتل والتدمير. وفي عام 1972 يُمنح هاينريش بُل جائزة نوبل في الآداب، ليكون أول أديب ألماني يلقى هذا التكريم بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن لحق به عام 1999 زميله غونتر غراس. ولعله حاز نوبل لمحاولته الدؤوبة والمخلصة الإجابة عن السؤال الذي شغل جيله كله: لماذا حدث ما حدث؟