الأردن تدين حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    البرلمان العربي يدين حرق كيان الاحتلال لمستشفى بقطاع غزة    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    رينارد: مباراة العراق حاسمة ومهمة للتقدم في البطولة    وزير المالية اليمني ل«عكاظ» الدعم السعودي يعزز الاستقرار المالي لبلادنا    التركي فاتح تريم يصل إلى الدوحة لبدء مهامه مع الشباب    "جلوب سوكر" .. رونالدو يحصد جائزة "الهداف التاريخي"    البيت الأبيض: المؤشرات تؤكد أن الطائرة الأذربيجانية سقطت بصاروخ روسي    القبض على أطراف مشاجرة جماعية في تبوك    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    «سلمان للإغاثة» يوزع 526 حقيبة إيوائية في أفغانستان    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مدرب اليمن يستهدف فوز أول على البحرين    الذهب يستقر وسط التوترات الجيوسياسية ويتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية    دار الملاحظة الأجتماعية بجازان تشارك في مبادرة "التنشئة التربويه بين الواقع والمأمول "    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لحظات مستعادة من شريط سقوط مدن الشمال العراقي . البنيان البعثي الصدامي شمل النفوس في كركوك ... فأعقب انهيار النظام انهيار المدينة كلها
نشر في الحياة يوم 22 - 04 - 2003

السؤال الذي اقلق عراقيين كثراً والمتعلق بتفسير تلك الحال التي كانوا يقعون فيها حال انسحاب الجيش العراقي من مدنهم ودخول الأميركيين او الأكراد، قد تحمل لنا الأيام المقبلة محاولات كثيرة للاجابة عنه، بعدما عصيت التغطية اليومية للأحداث عن ذلك. ولكن ماذا يعني انهيار النظام العراقي في مدينة ما وانسحاب الجيش؟ انه بكل بساطة انهيار كل شيء. فالنظام مبثوث في كل الحياة اليومية وفي المشهد العام وفي نفوس المواطنين وعلى الجدران، ومطروح على السلع، وتخرج روائحه من خزانات وقود السيارات. النظام في العراق يدرسه الأطفال في كتبهم وصور القائد تتقدم دروس الرياضيات قبل التاريخ والاجتماعيات. النظام هو الحقيقة الوحيدة والوهم الوحيد. ومثّل انسحاب الجيش بالنسبة الى اهل المدينة العراقية انهياراً مفاجئاً لكل هذا العالم.
لقد اتيحت لنا معاينة هذه اللحظة في اكثر من مدينة عراقية ولكننا لم نتمكن في اثنائها من التوقف عند اكثر من المشهد ومن محاولة رد الحوادث الى اللحظات التي سبقتها.
ان تتقدم الجموع في مدينة كركوك لتأتي على رموز النظام المنهار، فمن المفترض الا تستثني شيئاً، لا بل ربما من المفترض ان يستهدف الغاضبون الفصاميون انفسهم، فالبنيان الصدامي شمل النفوس، والغاضبون اقتربوا من فعل ذلك. لطالما عاينا في كركوك اناساً على شفير ارتكاب شيء في حق انفسهم. معمل ال"بيبسي كولا" في منطقة رحيماوة عند مدخل المدينة قطاع اهلي ولا يمت الى الدولة والنظام بصلة دفترية، ولكن هذا الاستثمار حتى ينجز ويتحقق في جمهورية صدام حسين لا بد له من ان يرتبط بالنظام، ولا بد من ان تكون للمستثرين صلات بالنظام. الناهبون المخربون حين توجهوا الى المعمل لاحراقه استهدفوا بين ما استهدفوه هذه الحقيقة. كانوا يحرقون ارادة النظام في السماح لمعمل ال"بيبسي كولا" بأن يفتح في كركوك. المنشآت النفطية الهائلة التي خربها السكان وأحرقوها فخسروا بذلك بلايين الدولارات كان يصعب اقناعهم بعدم الاتيان عليها، فهذه الأنابيب هي التي كانت تغذي النظام المنهار بأسباب قوته، وحمل الهجوم عليها معاني رمزية مضاعفة. ولم يفعل ذلك فقط الساخطون على النظام، فسكان المدن العراقية لا يعرفون معنى السخط. النظام بحسبهم هو الحقيقة التي لا تتزحزح، هو مادة وجودهم، وهل يسخط المرء على قدر لا يعرف غيره.
الجموع المندفعة لتخريب كل شيء كانت مندفعة نحو نفسها ودواخلها، والانهيار الذي وقع اصاب الناس كلهم، الجلادين والضحايا والعرب والأكراد وحزب البعث والعشائر.
هذه المدن المنتفخة بشعارات النظام ونصبه ومبانيه، وهؤلاء السكان الذين لم يختبروا امراً آخر، والقادمون الى المدن من التخوم والقصبات المجاورة، هؤلاء جميعاً كانوا يلتقون على رقصة واحدة ما إن يخلي الجيش العراقي مدينة.
الواصلون الكثر من مدينة السليمانية وصلوا عاقدين على رؤوسهم عصبات خضراء شارة انتمائهم الى الاتحاد الوطني الكردستاني، التقوا مع واصلين اقل من مدينة اربيل وربط هؤلاء رؤوسهم بشارات صفراء لون علم الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يسيطر على اربيل، وشرع مؤيدو الحزبين بالتسابق على احتلال المراكز الأمنية، مع غلبة واضحة للاتحاد.
اي محاولة لرد ما جرى ويجري الى معطيات راهنة يبدو غير كاف. الأميركيون لم يدخلوا في الوقت المناسب، او ان احزاباً كردية تواطأت مع عصابات النهب، او ان النهب هو جزء من خبرات كسبها هؤلاء في ظل عيشهم حروباً كثيرة واستباحتهم الكويت وقبلها مدناً ايرانية وبعدها بلدات كردية، كل هذا قد يحمل بعض الحقيقة، ولكنه يبقى ناقصاً اذا لم يسند بما سبق عرضه لجهة ان الانهيار اصاب بنياناً نفسياً جماعياً وحوّل الناس الى كتل غير واعية وهذيانية. وهذا حصل في لحظة واحدة ومن دون ان يسبقه تمهيد او توقع.
المشاركون في رقصة الانهيار كانوا جميع السكان من دون استثناء، مع تفاوت في نوع المشاركة. الأزقة الداخلية لمدينة كركوك كانت في ذلك اليوم عينة، فقد دخلناها بعد ساعات من انسحاب الجيش العراقي. المنازل لسكان اكراد ولا مؤسسات عامة لكي تتوجه الجموع اليها. امران كانا يحدثان، فقد وصلت الى ايدي اطفال هذه الأزقة قاذفات "آر بي جي" سوداء وخالية من قذائفها فشرع الأطفال بعبث هادئ فيها، فيما امهاتهم خرجن من الأزقة وعدن اليها محملات بأنقاض النظام من كراس مخلّعة وخرضوات لا يعرف احد وجهة استعمالها. والناس خلال زحفهم في اتجاه المنشآت لتحطيمها يتدرجون في الاختيار، فالرموز والدلالات تفقد رهبتها تبعاً لما كانت تمثله في السابق كثافة الدلالة ووهنها.
معمل ال"بيبسي كولا" في كركوك استُهدف اولاً نظراً الى ضعف رهبته وانعدام وظائفه الترهيبية، ثم تأتي بعده المؤسسات المدنية المرتبطة بالنظام من نوع البلدية والاطفائية ثم سيارات شرطة السير. نصب صدام حسين وتماثيله لا تخضع لهذا التدرج، فهذه التماثيل هي الممثل الفظ للنظام، ولهذا فإن اول من يتقدم في اتجاهها غالباً ما يكونون من القادمين من خارج المدينة، من البيشمركة مثلاً او من الجنود الأميركيين، وبعد اقدام هؤلاء على ذلك يصل ابناء المدينة في اتجاه التمثال، وقبل اسقاطه يخوضون معه معارك فعلية، فيقوم صبية بخلع احذيتهم وينهالون عليه بها ويشتمونه ويصرخون في وجهه وكأن من يقف في وجههم صدام نفسه وليس نصبه. وطقس شتم النصب وإهانته يستتبع طقوساً، انه ذروة الشعائر، ففي كركوك واثناء تقدمنا على شارعها العام كانت حلقات الناهبين والمخربين تتسع تدريجاً ليفضي اتساعها الى ساحة البلدة حيث تمثال صدام حسين الضخم، وهناك كانت ذروة الحشد والذهول. كان الفتية والشباب يأتون على فعلة في تعرضهم للنصب، لم يسبق لهم ان خبروها بأجسامهم فظهرت تصرفاتهم حيال هذه الأحجام الجامدة قليلة الانسجام والتناسق.
الدخول الى كركوك في ذلك النهار اتاح معاينة انهيار كل شيء في لحظة واحدة. الجدران التي ملأها النظام بكلام الرئيس ومواعظه فقدت فجأة سطوتها، وصارت العبارات التي كانت قبل يوم واحد موضع رعب وتقدير، مدعاة سخرية وانتقام. الرجال العاقلون في المدينة والذين شرعوا في اطلاق انظارهم نحو العابثين كانوا يدركون صعوبة مقاومة ما يجري. الرجل صاحب المكتبة الصغيرة في منطقة رحيماوة والذي بدا لوهلة انه يتهيأ للامتعاض من اعمال السرقة قال انه لا ينتظر خلاف ذلك من هؤلاء الفتية. كانت الأسلحة في السيارات مرصوفة تماماً كما الخرضوات الأخرى. كثير منها كان محطماً ونزعت منه مخازن الرصاص. فالسلاح، حتى السلاح فقد سطوته بعد انهيار النظام. سيارات ال"لادا" الخضراء والتي يبدو انها كانت معتمدة من احد الأجهزة الأمنية يقودها في هذه اللحظات عناصر البيشمركة ويركنونها قرب منازل اقاربهم ريثما يعودون اليها بعد انتهائهم من غزواتهم. امر واحد رحنا نتساءل عن اسباب عدم الاقتراب منه وعدم تحطيمه في كركوك وهو تمثال خال صدام حسين خيرالله طلفاح، هذا التمثال الذي زرنا المدينة مرة اخرى بعد يومين على انسحاب الجيش العراقي منها ولم يكن قد تحطم بعد. شاب كردي كنا التقيناه في مدينة السليمانية ثم عدنا وصادفناه بين المتجمعين حول تمثال صدام في كركوك تحول الى شخص آخر، ففقد الكثير من وداعته وتلقائيته وراح يردد امامنا ما إن التقينا: "انه حلم، انه حلم" ثم تركنا وصار يدور حول النصب من دون ان يدرك ماذا يفعل.
القصور الرئاسية لم تكن ايضاً هدف الغوغاء الأول، فقد انتظر هؤلاء لتسقط الرهبة المضاعفة لهذه المنشآت التي تمثل معابد السلطة. فصدام حسين في نشره قصوره في المدن لم يكن يهدف فقط الى امتلاك مكان فيها بقدر ما كان يريد اشعار السكان بأن له موطئ قدم في مدينتهم. هذا الأمر كان يكفي لبث الرهبة، فوجود منزل للرئيس في المدينة كان يعني ان صدام موجود فيها وان سلطته لا تمتد من العاصمة لتنتهي ضعيفة في الأطراف وانما هي موجودة وبالقوة نفسها في كل مكان. عشرات القصور التي لم يسبق له ان زارها ولكنه اصر على وجودها، في كركوك واحد منها كما لمساعديه قصور في المدينة. قصر لعلي حسن المجيد الكيماوي عند مدخل المنطقة المخصصة لاقامة العاملين في شركة نفط الشمال. القصر دمرت اجزاء منه غارات اميركية، ولكن القصر وفي اليوم الأول للانهيار بقي في منأى عن السرقة، بوابته البعيدة عن الشارع والمنشآت العسكرية المحيطة به تُشعر انه ما زال يحتفظ ببعض الرهبة، والسائق الذي اشار اليه لم يتجرأ على مد يده كاملة وإنما ابقاها في السيارة.
القصور كما التماثيل تعابير فظة للنظام. للتماثيل بعد رمزي ولهذا احتاج تحطيمها الى مبادرة لتكمل الجموع المهمة، اما القصور فهي المركز الفعلي للسلطة، ذلك المكان الذي يجهل السكان ما يحوي والذي اراد النظام من وراء وجودها تكثيف سلطته واعطاءها بعداً مكانياً وتثبيتها، هذه القصور لم تكن هدفاً بديهياً للسارقين وحتى لعناصر البيشمركة، وهي احتفظت بوظيفتها كمركز لبث الرعب لساعات بعد انهيار السلطة.
المتجول في مدينة كركوك سيشعر بمدى صعوبة استئصال النظام من المشهد العام، فكل شيء صمم بناء على مخيلة الرئيس القائد. الأسواق اسمها اسواق التأميم والمستشفيات كذلك، والبعث موجود في الجدران وفي اسماء المحال التجارية والمواطنون لا يملكون سوى القاموس الرسمي للتحدث به، وحتى عندما يريدون شتم صدام يسمونه بالسيد الرئيس.
السيدة الكردية التي دخلنا منزلها في احد الأحياء الفقيرة من المدينة لم تكن بعد واثقة من الخروج النهائي للحزب فتحفظت عن الكلام على النظام وكل ما قالته ان الجيش انسحب ليل امس وقبله بأيام كان انسحب المستوطنون العرب. وحكاية هؤلاء المستوطنين يرددها الكثير من السكان، فكركوك مدينة يغلب الأكراد على سكانها الأصليون وتليهم الأقلية التركمانية، لكن النظام باشر ومنذ عقود عملية لتعريب المدينة عبر تهجير عشرات الآلاف من الأكراد وإحلال سكان عرب مكانهم استقدمهم من الجنوب والوسط العراقيين، كما اقام النظام حزاماً من القرى العربية في محيط المدينة بعدما استولى على مساحات من الأراضي التي كان يملكها السكان الأكراد. لكن هذه القرى التي يطلق عليها السكان الأكراد اسم المستوطنات العربية والتي يقولون ان النظام اغدق على سكانها الاغراءات بغية جذبهم اليها من المناطق العراقية الأخرى، هذه القرى عارية تماماً ومنازلها طينية وشديدة البؤس ولا يظهر عليها اي اثر لنعم النظام. فقط ذلك المبنى الاسمنتي الذي يتوسط كل قرية منها والذي ترتفع فوقه صورة كبيرة لصدام حسين بحيث يمكنك الاستنتاج ان هذا الاستثناء الاسمنتي في هذا الكيان الطيني هو مركز حزب البعث.
لا اثر لسكان هذه القرى، فهي خالية تماماً، وهذا الأمر يضاعف من انكشافها امام الناظر العابر على طريق كركوك العام. قرى مزروعة في مدى سهلي هائل وسكانها بدو لم يبذلوا جهداً لتثبيت اقامتهم بعلامة او شجرة. ويزيد من عراء هذه القرى تلك الثكن العسكرية التي توزعت حولها وبنيت على شكل قلاع بابلية ويقال ان صدام حسين نفسه هو من صمم هذه القلاع التي استهدفها القصف الأميركي في شكل عنيف فدمر اجزاء منها. ويؤكد السكان ان الكثير منها كانت تستعمل كسجون خلال الحرب العراقية - الايرانية.
باستثناء المراكز العسكرية والأمنية لا اثر للقصف الأميركي على المنشآت المدنية في كركوك، فالأيام التي قضيناها في اربيل منصتين الى القصف المتواصل الذي قامت به الطائرات الأميركية للمدينة تركز على المنشآت العسكرية، هذه المنشآت التي تكاثفت عند مدخل كركوك والتي يبدو ان النظام ضاعف أعدادها ليقينه ان المدينة مرشحة بسبب طبيعتها السكانية للعصيان. وبين هذه المنشآت دبابات قليلة وقفت في منتصف الطريق ويبدو ان جنودها فروا قبل ان تستهدفهم غارة، وآليات اخرى تفحمت، ومتاريس فردية صممت لحروب برية فأحرقتها تلك الصواريخ العملاقة التي حولت لون التراب على مساحة واسعة الى لون رمادي. تلك القلاع الحجرية الممتدة في السهل الواقع عند مدخل كركوك تدل بوضوح على ان النظام اقام حصونه على مدخل المدينة في مواجهة امر ما. ولكن اخلاءه السهل لها بدا واضحاً ايضاً، اذ ان قصف الطائرات عسّر من دون شك امكان التحصن فيها، والانتشار في السهول المحيطة سيوفر على الجنود موتاً محتماً تحت انقاض هذه المباني الحجرية. لكن القلاع المفرغة لتوّها تبعث على التأمل بحياة وبأساليب عيش سكانها الذين اخلوها قبل ايام. اثر عجلات الشاحنات المغادرة ما زال مرسوماً على تراب الطرق المؤدية الى هذه القلاع، وعصابات الكلاب التي تتنقل حولها لا شك في انها كانت تعتاش على البقايا القليلة لطعام الجنود. وهل ما زال في اقبية هذه القلاع بعض الأسرى؟ ليس هذا الكلام بعيداً من الواقع، فكثيرون هم الذين عبروا بالقرب من هذه الثكن وتساءلوا ولم يتجرأوا على الدخول خوفاً من مفاجآت يمكن ان تخبئها تلك الجدران.
وجوه العاملين في شركة نفط الشمال التي تتخذ من كركوك مقراً لها كانت غير مصدقة ما حل بمنشآت الشركة. معظم المهندسين هم من العرب الذين استقدموا من مناطق العراق الأخرى، ولهذا عجز هؤلاء عن حماية المنشآت التي يقيمون في جوارها. حسين مهندس ملتح كان يسير صامتاً وعلى شفير البكاء. قال انه لا يريد الكلام، وتابع سيره بعد ان تحول برمه الى غضب. علامات غامضة حملتها الوجوه. فالكثير من هؤلاء لم يغادر لأنه لم يشعر بأنه منتمٍ الى النظام ولكنهم اكتشفوا فجأة ان سر تماسك كل شيء هو النظام وان هذا الأخير لم يترك اي مكان لتعبئه الجماعات بخبراتها او بصياغة مصالحها خارجه. المهندسون الذاهلون دخلوا الى المنشآت صبيحة ذلك اليوم ليجدوا حراساً مختلفين وجنوداً اميركيين يتنقلون بين الآلات الضخمة التي تكرر 50 في المئة من النفط العراقي، ووجدوا حطام معدات وأجهزة مرمية في انحاء المساحات الخضراء المحيطة بحرم الشركة. لم يتمكنوا من التفاهم مع عناصر البيشمركة، فهؤلاء الأخيرون يميلون الى ضمهم الى النظام المنهار ويعتقدون ان صدام حسين كان يعتمد على الجيش وعلى النفط، وهؤلاء الموظفون هم جزء من ذخيرة النظام. هذا على الأقل ما عايناه على حواجز البيشمركة المنتشرة في الحرم الواسع للشركة. انه ثمرة عبث النظام بكل شيء، وبتحويل المهن والاختصاصات والانتماءات الى مساحات كراهية فعلية.
كركوك التي عبث النظام بتركيبها السكاني وبقوميات اهلها، والتي ما إن انهار النظام فيها حتى انهار كل شيء، كانت ايضاً على موعد مع ما تهيئه لها الأحزاب الكردية التي زحفت اليها. صحيح ان عمليات التخريب خضعت لما سبق عرضه، ولكن للأقليات التي تقيم فيها حسابات املتها الأوضاع الناجمة عن برامج النظام لجهة التغيير الجوهري في التركيبة السكانية، فخير الكثير من الأكراد بين تركهم المدينة او تحويل قوميتهم الى العربية وكذلك التركمان، وانتزعت ملكيات زراعية منهم وسجلت باسم مستوطنين عرب.
الأحزاب الكردية الزاحفة الى كركوك وصلتها وفي نيتها خطوات لتعديل هذا الواقع، فانخرط عناصرها في رقصة الغوغاء وتوجهوا الى دائرتي الطابو والنفوس فأحرقوهما. الخطوة مثلت نموذجاً لمدى ما احدثه النظام وما زرعه من ميول استئصالية، فكركوك الآن يعوزها توزيع جديد للملكيات واثبات المواطنة تنقصه المستندات، والنزاع بين الأكراد والتركمان حول النسب السكانية لا يستند الى اي مرجع، خصوصاً ان الخلاف بين القوميتين يصل الى حدود انكار الأصول التركمانية للآلاف والعكس صحيح. الأكراد يعتمدون على الغلبة الكردية في الشمال عموماً والتركمان يعتمدون على الأتراك الذين ارسلوا مراقبين للاشراف على عدم اضطهاد اقليتهم. لكن حادثة احراق دائرتي الطابو والنفوس في غمرة الحرائق العامة ستعيد المدينة الى نقطة بداية لجهة توزيع الحقوق والاعتراف بالمواطنة او انكارها، ثم السكان العرب الذين يشكل بعضهم جيلاً ثالثاً في المدينة ماذا سيكون مستقبل وجودهم في كركوك؟ انها عودة الى لحظة اولى من الصعب توقع نتائجها، لكن الأكيد ان العراقيين عاجزون عن الخوض فيها وحدهم في ظل تعقيدات انقساماتهم والمآسي والشروخ التي خلفها النظام في بناهم السكانية والنفسية، فكل ما يمكن هذه القوى ان تفعله هو الحرائق، اما التعقيدات الناجمة عن تراكم المآسي والارتكابات فهي اصعب من ان تتصدى لها قوى نشأت وعملت بموازاة النظام وبالقرب منه وإن كانت على الطرف الآخر من الجبهة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.