قلبت الأيام الأولى للحرب على العراق كل التوقعات وكل الخطط. كانت التوقعات تشير الى أنها ستكون حرباً قصيرة، بخسائر قليلة. كما كانت تعتقد أن الشعب - وحتى الجيش العراقي - لن يقاوم، بل توقع البعض استقبال العراقيين للقوات الأميركية بالزغاريد والورود والنظر لها كقوات تحرير، وليس قوات غازية. وكانت التوقعات تقول ان القوات الأميركية ستقوم في الأيام الأولى بتدمير كل وسائل الاتصال الجماهيرية والعسكرية، بحيث يتم عزل أجزاء العراق بعضها عن بعض، وعزل القيادات المختلفة، مما يمهد لسقوط البلد بسهولة تامة وبسرعة غير مسبوقة... وأضافت التوقعات القول إن القيادة العراقية بما في ذلك الرئيس صدام حسين سيتم القضاء عليها خلال أيام قليلة بضرب أماكن تواجدها وتدميرها. وكانت التحاليل تشير الى ان لدى الولاياتالمتحدة تفوقاً تكنولوجياً بحيث تتم اصابة الهدف بدقة متناهية لا تقبل الخطأ ولو بنسبة ضئيلة جداً. لقد ثبت، وخلال أيام قليلة جداً، الخطأ الفاحش والكبير لتلك التوقعات والتكهنات... فدقة الأسلحة الأميركية ثبت عدم صحتها، وبدرجة أن الصواريخ الأميركية المراد بها قصف أهداف محددة جداً داخل العراق سقطت في دول مجاورة السعودية، تركيا، ايران، الكويت وسورية. أي ان المسافة بين الهدف وأماكن سقوط الصواريخ وصلت أحياناً الى مئات الكيلومترات. والصواريخ الأميركية المعقدة والمضادة للطائرات والصواريخ المعادية، لم تسقط إلا طائرة بريطانية... وغير ذلك من الأخطاء المتعددة والشنيعة التي أدت الى سقوط عشرات القتلى والجرحى من القوات الأميركية والبريطانية بأيدي بعضها بعضاً وهو ما أصبح يعرف ب "النار الصديقة". أما القضاء بسهولة على القيادات العراقية، سواء العليا أو المتوسطة أو الاقليمية والفرعية، فأثبت الواقع انه ليس سهلاً، اذ استمرت هذه القيادات تعمل بشكل سليم، وكأن البلد لا يتعرض لغزو أجنبي كبير، ووسائل الاتصال بكل أنواعها ومستوياتها تعمل بشكل مقبول على رغم الضرب المكثف على العديد من المنشآت الحيوية، بما في ذلك المنشآت الإعلامية. إلا أن الأهم من هذا وذاك، هو أن الشعب العراقي لم يستقبل القوات الغازية بالترحيب كما كان البعض يتوقع، ولم يستسلم جندي عراقي واحد طوعاً... وحتى أولئك الذين استسلموا بقوة السلاح فإن عددهم ليس كبيراً حوالى خمسة آلاف، ولم تستطع القوات الغازية دخول أي مدينة أو قرية عراقية سلماً، مع محاولاتها المستميتة نحو ذلك، وعلى رغم القوة الهائلة والمخيفة للجيشين الأميركي والبريطاني، وحقيقة ان هناك العديد من العراقيين يكرهون قيادة صدام. إذاً فالشعب العراقي ينظر الى القوات الأميركية والبريطانية كقوات غازية، غير مرغوب فيها، وليست كقوات تسعى الى تحرير العراق من صدام حسين، كما كان يتمنى الأميركيون وكما سموها "عملية تحرير العراق". وهذا الأمر له أهمية كبيرة لمستقبل الوضع في العراق وفي المنطقة وذلك بعد انتهاء الحرب. والحرب لا شك منتهية. وفي الغالب فإن الأمر سينتهي وربما بعد عدة أسابيع أو أشهر باحتلال الولاياتالمتحدة للعراق، وسيكون الثمن باهظاً، على العراق، وربما أميركا وبريطانيا. كما ان الدول العربية المجاورة بما في ذلك مصر، ستتأثر سلباً بهزيمة العراق واحتلاله، والوضع الناتج بعد ذلك. وأمام الحكومة الأميركية، في حال احتلالها للعراق أربعة خيارات: - أولاً: السماح للمعارضة العراقية الحالية بتكوين حكومة انتقالية، وبترتيبات تتفق عليها المعارضة نفسها، وبالتنسيق في الغالب مع الحكومة الأميركية، وهذا الاحتمال ضعيف جداً. فالولاياتالمتحدة لا تثق في قوى المعارضة العراقية الحالية، ومعظم قوى المعارضة العراقية وبالذات القوى الشيعية لا تثق من جانبها بالحكومة الأميركية. اضافة الى ذلك فإن هناك اختلافات كبيرة داخل الإدارة الأميركية نفسها حول التعامل مع مختلف القوى في المعارضة العراقية. فوزارة الدفاع الأميركية تؤيد "المؤتمر الوطني العراقي" الذي يقوده أحمد الجلبي، المتحالف مع المحافظين الجدد، وحيث أبدى بعض مسؤوليه الاستعداد بالاعتراف والتعامل مع اسرائيل. وفي المقابل فإن وزارة الخارجية تعتقد بخطأ الاعتماد - أو حتى التعامل - مع أحمد الجلبي لكونه شخصاً غير مرغوب فيه لدى غالب العراقيين، وفي المنطقة بشكل عام ما عدا اسرائيل. ومن هنا، فإن احتمال أن تتولى المعارضة العراقية الحكم في العراق في حال سقوط بغداد يعتبر احتمالاً ضعيفاً جداً. - ثانياً: انشاء حكومة عراقية من داخل العراق نفسه، وليس من قوى المعارضة الخارجية... وهذا الاحتمال كانت له الأولوية قبل بداية الحرب، حيث ان الاعتقاد السائد هو استسلام معظم القوات العراقية، بحيث يمكن تكوين حكومة عراقية جديدة برئاسة أحد كبار الضباط العراقيين مثل نزار الخزرجي، ومساندة من مختلف القوى المحلية المستسلمة عسكرية وغيرها بدلاً من الاعتماد على قوى المعارضة الخارجية. ويبدو أن هذا الخيار غير وارد في الوقت الحاضر، حيث أن القوى العراقية الداخلية عسكرية ومدنية لم تستسلم، ومن غير المتوقع أن تقبل بسهولة التعامل مع قوى عراقية عسكرية ترى انها مأجورة من قبل الولاياتالمتحدة. - ثالثاً: قيام الأممالمتحدة بتحمل مسؤولية حكم العراق على أساس انتقالي. وهذا الاحتمال، هو ما تفضله القوى الأوروبية بما في ذلك بريطانيا، الحليف الوحيد لأميركا، إلا أنه يبدو ليس لها دور أو في ما يخص تقرير مستقبل العراق... كما ان هذا الخيار تفضله الكثير من الدول العربية والمجاورة وكذلك العديد من قوى المعارضة العراقية الخارجية إلا أن وزير الخارجية الأميركي، قال ان الولاياتالمتحدة لن تقبل أن تسلم العراق بعد احتلاله للأمم المتحدة، أي انها تفضل الاحتفاظ به. إلا أن هناك احتمالاً لتطبيق هذا الخيار، وذلك في حال فشل الولاياتالمتحدة في إخضاع العراق بسرعة أو في حال وجود مقاومة عسكرية شعبية عراقية لقيام الولاياتالمتحدة بحكم العراق عسكرياً وبشكل مباشر. - رابعاً: ترك العراق يقرر مصيره ذاتياً من دون أي تدخل خارجي وهذا الاحتمال وارد في حال تكبد الولاياتالمتحدة خسائر بشرية كبيرة مع تدهور الوضع الاقتصادي الأميركي، وظهور حركة شعبية قوية داخل أميركا تطالب بترك العراق، وبالذات خلال سنة الانتخابات العام المقبل، وذلك كما حدث عندما انسحبت أميركا من لبنان في عام 1983، ومن الصومال في أوائل التسعينات. هذا الوضع سيؤدي في الغالب الى نشوب حرب أهلية داخل العراق بين مختلف التجمعات العراقية مذهبياً، وعرقياً، ودينياً، ومناطقياً، وقبلياً، وحزبياً وغير ذلك. وسيؤجج هذا التدخلات الخارجية المختلفة، والمؤيدة لهذا الفريق أو ذلك، ولا شك أن هذا الوضع سيؤدي الى إضعاف العراق وسيؤثر سلباً على الدول المجاورة التي ستجد نفسها جزءاً ومحركاً للعبة الصراعات داخل العراق. - خامساً: قيام الولاياتالمتحدة بحكم العراق عسكرياً وبشكل مباشر، وذلك عن طريق تعيين حاكم عسكري أميركي، وتقسيم العراق إلى مناطق عدة يتولى إدارتها مسؤولون أميركيون عسكريون ومدنيون… ويبدو أن هذا الاحتمال هو الأكثر حظاً في الوقت الحاضر. فالحديث يدور حالياً بأن يتولى حكم العراق السيد فاي غارنز، وهو جنرال أميركي متقاعد معروف بعلاقته الوثيقة بالقوى اليمينية المتطرفة في أميركا والموالية لإسرائيل والمعادية للعرب والفلسطينيين، كما أنه معروف بتفضيله استخدام العنف العسكري في التعامل مع القوى السياسية المعارضة المدنية وغيرها. إضافة إلى ذلك فقد استدعت الحكومة بعض الديبلوماسيين الذي سبق لهم العمل في المنطقة للتشاور معهم مع احتمال توليهم مسؤوليات إدارية داخل العراق والذي يشمل مثلاً تقسيم العراق إلى أربعة مناطق رئيسية يتولاها أميركيون، وربما توليهم كذلك المسؤولية في بعض المدن العراقية الرئيسية. تشير بعض المصادر إلى أنه يوجد حالياً في الكويت حوالى مئتين من المسؤولين الأميركيين، وذلك من أجل تولي مسؤوليات إدارية في العراق في حال سقوطه. وقيام الولاياتالمتحدة بحكم العراق بشكل مباشر وعلى المستويات كافة، وعن طريق القوة العسكرية، كما كانت القوى الاستعمارية تفعل في السابق، وبشكل موقت وحتى يتم تشكيل إدارة مدنية عراقية موالية لأميركا، يعتبر هو أكثر الاحتمالات حدوثاً، إلا أنه أصعبها تحقيقاً على المدى البعيد. وتحتاج الولاياتالمتحدة لتحقيقه إلى مبالغ كبيرة، تواجد قوات أميركية كبيرة داخل العراق - إلا أن طريقة - استقبال الشعب العراقي للقوات الأميركية والبريطانية الغازية يدل، وبشكل لا يدعو للشك، أن الشعب العراقي يدرك أن القوات الغازية لم تأتِ إلى العراق من أجل مصالح أبنائه، بل من أجل أهداف أخرى. إضافة إلى ذلك، فإن الشعب العراقي، وكأي شعب آخر في العالم، قد يقبل بحكم مواطن ظالم، إلا أنه لا ولن يقبل بحكم أجنبي، حتى وإن كان ظاهره الطيبة. ومن هنا، فإن جزءاً كبير من الشعب العراقي، في حال سقوط بغداد، وتولي الأميركيين الحكم في العراق، سينظم حركة مقاومة قوية ضد القوى والقوات الأجنبية الموجودة داخل أرضه… وحركة المقاومة الشعبية ستؤدي إلى تكبد القوات الأميركية خسائر مستمرة بشرياً ومادياً. وهذا في النهاية، طال الزمن أو قصر، سيؤدي إلى انسحاب القوات الأجنبية. أي أن الولاياتالمتحدة، وكما يبدو الأمر الآن، قد خسرت الحرب، وستخسر السلام، ولن تحقق الأماني الكبرى التي كانت تتحدث عنها، وهذا سيحصل حتى وإن استولت على العراق وحكمته بالقوة بشكل مباشر أو غير مباشر. إن المهم في الأمر ألا يتحول العراق في ما بعد إلى وضع فوضوي، حيث تسود الخلافات والصراعات بين فئاته وأطرافه المختلفة، والتي تؤدي بدورها إلى عدم الاستقرار ليس فقط في العراق، بل في المنطقة، وبالذات الدول المجاورة، علماً أن تأجج الصراع داخل العراق ستغذيه القوى الخارجية المختلفة. ومن هنا فإنه من المهم وجود نوع من التعاون والتنسيق والتفاهم بين الدول المجاولة للعراق، وبالذات السعودية وإيران وتركيا وسورية والأردن من أجل ألا يصبح العراق ميداناً للصراعات الدولية المختلفة، كما كان لبنان وأفغانستان ويوغوسلافيا ودول أخرى غيرها. ملاحظة: لم أعطِ أي دور أو أهمية لبريطانيا، شريك أميركا في الحرب، وهذا نابع من اعتقادي أن توني بلير ليس بالنسبة للولايات المتحدة إلا رفيق درب، وهذه العبارة كان يستخدمها الماركسيون في الستينات والسبعينات، وتعني أولئك الذين يرافقون ويساعدون القوى اليسارية، إلا أنهم لا يحصلون على أي عوائد من ذلك، كما أنهم لا يدركون الأهداف والأفكار ولا طبيعة عمل من يعملون معهم… أي أنهم فقط رفقاء درب لا أقل ولا أكثر. * مستشار في وزارة النفط السعودية.