ضروري أن نقر جميعاً بأن العراق قادر، لديه ثروات بشرية ومقدرات اقتصادية هائلة ما يؤهله أن لا يقع تحت الانتداب ثانية. ويبدو أن الخسائر الاقتصادية التي لحقت بالعراق هائلة، فقد قدرت الخسائر الاقتصادية العربية المحتملة نتيجة للحرب على العراق حتى نهاية العام 2003 بنحو 110 بليون دولار، نصيب العراق منها نحو 20 بليوناً، ونصيب دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية قرابة 67 بليون دولار.. أي أن قرابة 80 في المئة من الخسائر الاقتصادية المتوقعة ستكون من نصيب دول الخليج العربية المنتجة للنفط، وهي خسائر تقارب من حيث القيمة المالية دولار مقابل دولار ما طلبه الرئيس الأميركي من الكونغرس لتمويل الحرب. "أمركة" العراق من دون تجاوز الخسائر الإنسانية ومخاطر تكرار استقرار الأجنبي محتلاً للعراق بعد نحو نصف قرن من تسليم بريطانيا لفلسطين، فالخسائر الاقتصادية للحرب في المدى القصير ستنتج عن تباطؤ عجلة الأعمال نتيجة للترقب وما ينتج عنه من تأجيل لقرارات الاستثمار والشراء انعكاس ذلك على الطلب وتأثيره على إنتاجية منشآت الأعمال ونشاط الاستيراد واحتياجات التمويل والتسهيلات المصرفية. أما بالنسبة الى بقية دول الجوار العراقي وخصوصاً الأردن ولدرجة أقل سورية ولبنان، فالخسائر تنتج ليس فقط عن "تسمم" مناخ الاستثمار و"اعتلال" دورة الأعمال بل كذلك عن تقلص صادرات تلك الدول للعراق وعدم وضوح الرؤية بعد أن تضع الحرب أوزارها. وإذا كان تحمل خسائر اقتصادية ناتجة عن التعطيل والتباطؤ أمر لا سبيل للتفلت منه أثناء الحروب، غير أن المحذور الأشد خطراً هو تحويل المشهد الاقتصادي ليخدم استراتيجياً الأطراف الغازية للعراق عقب انتهاء الحرب. ومع الأخذ في الاعتبار وجهة النظر القائلة بأن أكبر الخاسرين من بقاء نظام صدام حسين قد يصبحون أكبر الرابحين بعد انتهاء حكمه، وما قد يعني هذا من تعجل البعض للانقضاض على مكاسب هامشية غير واعين أو عابئين بمغزى ما يقومون به. ومع الأخذ في الاعتبار بأن جيران العراق لم يملكوا فعل الكثير سوى القبول والتعامل مع حقيقة جواره، كذلك فإن العراق بعد الحرب لن يملك سوى التعامل مع حلقة الجيران المحيطين بما في ذلك إيران التي دخل معها نظام صدام حسين في حرب عبثية منهكة، والكويت التي احتلها، وسورية التي كان التناقض حاكماً في علاقته بها، أو الأردن الذي كان رئة العراق في سنوات الحصار. وعليه، فليس بوسع الإدارة الأميركية أن تضع العراق في سياق جيو - سياسي آخر... بوسعها أن تحاول، إلا أن التربة المحلية والبيئة المحيطة تجعل فرص "أمركة" العراق معدومة. الآن، يبدو أن جمهرة تفرك أيديها حماساً لبدء أعمال "إعادة البناء" وفقاً للمواصفات الأميركية، في برنامج يتوقع أن يكلف نحو 50 بليون دولار، أي ما يقارب الناتج المحلي للعراق. والسؤال: كيف على رجال الأعمال التعامل مع برنامج الإعمار؟ في المنطقة العربية العواطف متأججة، فالوعي العربي إجمالاً تجمد محدقاً في الضحايا والدمار. وهذا ما عكسته التظاهرات في الشوارع، والجمود في المجالس، والدموع في المآقي. ويبدو أن هذا الألم المتراكم في كثير من القلوب العربية قد استنزف الوعي فثبت الخطاب عند رفض الحرب والمطالبة بوقفها، والحرب استعرت واستمرت على الأرض. أما الطرف الغازي فيحدث خطابه بوضع الجديد على المائدة بما يساند مسيرة حربه. فمثلاً، بادر وزير الخارجية الأمريكي كولن باول للقاء الأوروبيين للحديث عن مرحلة ما بعد الحرب.. كما أن الإدارة الأميركية كررت الحديث عن آلية حكم العراق، ولم تتوقف عن طرح إعادة الإعمار ومن يجب أن يشارك فيه. إذاً فخطاب القوة الغازية يتطور ليجاري الوضع على الأرض أو ليوحي بأن الواقع على الأرض يسير بما يتفق مع أهدافه، في حين أن خطاب الطرف الرافض للحرب متوقف. وخطورة هذا السلوك يكمن في تفرد الإدارة الأميركية بملف مستقبل العراق لتصبح بنود الأجندة أميركية الطابع والمحتوى، ليقول البند الأول منها تعين حاكم عسكري، والثاني إعادة الإعمار. ونحن نردد منذ شهور: لا للحرب! نعم الحرب مرفوضة لا شك، لكن لماذا لا نقول مثلاً لا للحكم العسكري الأميركي؟ ولا للاحتلال؟ ولا لتوزيع العقود والمنح؟ ولا لنقل النفط عبر حيفا؟ ونصر على جعل هذه النقاط وتنفيذها بنوداً على أجندة مستقبل العراق الذي تريد له الولاياتالمتحدة أن يصبح مرتبطاً بها. وتحقيق أمر من هذا النوع يتطلب جهداً عربياً دولياً منسقاً بين من رفض الحرب أي ما يقارب 140 دولة، بل والسعي الى استقطاب الدول التي ساندت الحرب بطريقة أو بأخرى. ولعل القاعدة الذهبية التي يجب الارتكاز إليها هي: أن يبقى العراق لأهله. فما الخطة لإبقاء العراق وثرواته لأهله؟ إلتهام الكعكة العراقية الأمر الذي قد يعزز مواقف الأطراف العربية والأوروبية، على رغم ضعفها، هو أن سعي الإدارة الأميركية الى التهام الكعكة العراقية أو حتى مجرد التلويح بذلك سيعني خسائر سياسية واضحة، إذ أن ذلك يبرهن عملياً أن الولاياتالمتحدة دخلت الحرب ليس لتخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل بل لأخذ ما تحت يد النظام من ثروات لتحتفظ بها! أما إذا استدرك الأميركيون تسرعهم بشن الحرب وسارعوا الى تسليم العراق للعراقيين، واختاروا حكومة حرة يرتضونها لتقوم هي نيابة عنهم بتصور برنامج الإصلاح الشامل وإطلاقه، بما في ذلك برنامج الإعمار وإعادة تأهيل البنية التحتية. اذا أقدمت الولاياتالمتحدة على خطوة كهذه تكون قد بدأت تقلص مخاوف الكثيرين من أن أميركا أتت لتستعمر العراق. فالأهداف الثمانية التي عددها السيد رامسفيلد لم تتمحور حول مصلحة العراق، وانما هي أهداف لا تدعو للاطمئنان الى النيات الأميركية في أي حال. إذاً، الاتهام القائم حالياً هو أن القوات الغازية أتت لتحتل العراق وتستفيد من خيراته على مراحل لتكون المصالح الأميركية حاضرة في أي قرار عراقي، فهي الأولى بالرعاية دائماً، ابتداء بعقود الإعمار وإعادة تأهيل قطاع النفط ليعاود العراق الإنتاج كما كان في السابق في حدود 6 ملايين برميل يومياً ولتكثيف جهود الاستكشاف والتنقيب فيصبح العراق وثرواته أداة في الجعبة الأميركية. إعادة الإعمار يمكن الجدل بأن التورط بالتزامات إعادة الإعمار قبل أن تتوقف آلة الغزو الأميركي أمر غير مبرر حقاً، ذلك أن تحقيق مكاسب مالية يجب أن يرتكز دائماً إلى أساس أخلاقي: فهل ستوظف القوات الغازية قضية الإعمار لإضاعة دم احتلال العراق بين قبائل المستفيدين والمنتفعين، فيأتون ويذهبون ببضائعهم وخدماتهم في ما يبقى المحتل جاثماً ينتهك حرمة ضحيته كل يوم؟ عند التمعن في البعد الأخلاقي المتمثل في ترك العراق لأهله، نجد أن المشاركة الاقتصادية يجب أن تأتي فقط عند ترك الدول الغازية العراق يمارس سيادته على موارده بما في ذلك اقتصاده. أما تنفيذ عقود التزويد للعراق بأموال عراقية وبتصاريح وقرار أميركية فيصب في خانة واحدة وهي مساندة السيطرة على العراق لمصلحة المحتل الأجنبي. إن من يسعى حالياً الى الاتجار والتعاون الاقتصادي مع القوة الغازية عليه إدراك أنه أقر بشرعية الغزو. ولا يفيد تعليق ذلك على مشجب الرغبة في إسقاط النظام السياسي القائم، فأي نشاط يتعلق بترتيب مستقبل العراق تحت الرعاية الغازية هو إغراء للغازي ليصبح محتلاً. فهل منا من يريد أن يصوت ويصفق لمنح الأميركيين صك انتداب على العراق؟ فإذا كان هناك من يدعي أن ليس للأميركيين أطماع في العراق ولا ينوون احتلاله، فأين الضمانات والدليل؟ يبدو أن هناك من المستفيدين المحتملين من يرغب تسطيح الأمر باعتباره مجرد بيع وشراء واستثمار، لكن الأمر ليس كذلك: هناك دائماً فرق بين الاغتصاب والتراضي، وهناك فرق بين تدخل طرف ثالث ليحرر ضحيةً من براثن جاني، وبين أن يقضي على الجاني ليستأثر الطرف الثالث بالضحية لنفسه! الأجندة الأميركية عليه، هناك وجاهة للزعم أن التعرف على حقيقة الأجندة الأميركية أمر ضروري، إذ لا يمكن استبعاد أن الإدارة الأميركية قد تسعى الى الاحتفاظ بالمكاسب السياسية والاقتصادية لنفسها، وأن تمنح بعض عقود الترضية لشراء الشرعية الدولية بأثر رجعي بعد أن افتقدتها بدايةً. إن بقاء القوات الأميركية في العراق سيعني أنها أتت لتلتهم الثمرة. وهذا الهاجس يستحق أن يشغل الساحة العربية والعالمية لتجنب وقوعه، عوضاً عن التجاذب لإعادة الإعمار. ولعل من المناسب، قبل أن يطلق بعض العرب وسواهم المحافظ الاستثمارية ويوقعوا العقود، أن يكشفوا ما تخفيه الجعبة الأميركية لمستقبل العراق ويسعوا حثيثاً بالتعاون مع كل قادر وراغب لجعلها تعمل في مصلحة العراق وأهله أولاً وأخيراً، وهذه دعوة الى التجرد والاحتماء بالشرعية. وعد ملزم إذا كان الجميع يلح، بمن فيهم السيدان بوش وبلير، بأن العراق يجب أن يبقى لأهله.. فعلى مريدي العراق جعل ذلك الإلحاح وعداً ملزماً للغازي عاجلاً وليس آجلاً. وعوضاً عن ثبات خطابنا على مجرد المهاجمة الشفوية وكيل اللكمات لبعضنا البعض، فالأجدى السعي لأخذ ضمانات من الغازي بأنه سيخرج تاركاً العراق لأهله. وعليه، يمكن الجدل أن من المصلحة اتجاه الخطاب الرسمي والشعبي للضغط بهذا الاتجاه ولا شيء سواه، فما يحدث حالياً يبدد الضغوط نظراً لتعارض التوجهات العربية وعدم كفايتها لتوليد جهد دولي منسق مؤثر. فالمشهد العربي ممزق يعوزه الكثير: هناك من يلهث خلف عقود التزويد الأمريكية، وهناك من يستعد لانطلاق صافرة إعادة الإعمار بغض النظر عمن يطلقها، وهناك من يجوب الشوارع والفضائيات والصحف رافضاً للحرب، فيما يكابد العراقيون آلام الحرب وخرابها. لعل من المناسب القول أن تطور الحرب على العراق يوجب تحركاً عربياً ودولياً منسقاً يستبق التطورات على جبهات القتال، لفرض بديهة: لا يجوز أن تدخل القوات الأميركية - البريطانية العراق لتحتله أو تسيطر عليه. هذا يستوجب تحدياً أصلب مما شهده مجلس الأمن قبل الذهاب للحرب. لكن الأمر برمته يتطلب التزاماً من طرف آخر هو أصحاب المصالح المحتملين، ولعل الترجمة العملية تكمن في تأسيس مؤسسة عالمية يتعاضد أعضاؤها عالمياً للحفاظ على ثروات العراق تحت السيادة العراقية ومنع الإنتهازين من تحقيق مكاسب غير أخلاقية، بأن تسعى مؤسسة النفع العام تلك لمنع استغلال ثروات العراق من قبل الغازي، فحقب الاستعمار والانتداب وشركة الهندالشرقية قد ولّت ولا يجب السماح لها أن تعود. أصحاب الحكمة على العقلاء عموماً العمل لخروج الغازي وبقاء العراق للعراقيين. وعلى العقلاء من رجال المال والأعمال والاقتصاد في دول الغازية الدعوة لمنافسة عادلة تحكمها مصلحة العراق كما يراها ويقررها العراقيون وليس محتلوه. فقمة الانتهازية أن يستخدم الغزاة العراق ونفطه وشعبه كجزرة يكافئون بها من ساند غزوتهم وتداعياتها ويحرمون منها من عارضهم ويعارضهم، فهذا يعادل سجن "اقتصادي" لمعاقبة أصحاب الرأي! أما موقف كل من يعتقد أنه عراقي الميول والانتماء فهو الامتناع عن الجلوس إلى مائدة الغازي. فالمشاركة في اقتسام غنائم الحرب تعني الإقرار بشرعيتها. وعدم اتحاد العرب في موقفهم من الغزو الأميركي - البريطاني، لا يعني اختلافهم في العمل حثيثاً لخروج الغازي سريعاً، والعمل بجد لمنع خلع الأميركيين العطايا والمنح والعقود العراقية. ومهما يكن من أمر فلا فكاك عن التحلق سريعاً حول الجامعة العربية للم الصف والتمعن بعمق في كارثة الغزو والتفكر في مخاطر خضوع العرب للانتداب من جديد. * سعودي متخصص في المعلوماتية والإنتاج.