ليوم واحد في الأسبوع هو الجمعة يتحول مقهى "الشابندر" إلى اشهر مقهى في بغداد فيصير مركز استقطاب للصحافيين والمراسلين ومصوري وكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية العالمية، إضافة إلى دعاة السلام والشخصيات السياسية والفنية والثقافية التي تزور العاصمة العراقية، وعلى مقاعده الخشب المتقاربة التي تزدحم بوجوه من كل أنحاء الأرض تجرى المقابلات وتستطلع الآراء وتصور البرامج وتقدم المسرحيات. وتُقام في المقهى الأمسيات الشعرية والأدبية. ويسبغه المثقفون والأدباء بطابع خاص من خلال نقاشاتهم المستمرة وكتبهم ومشاريعهم. نافذة على شارع المتنبي ولكن لماذا هذا المقهى دون غيره ؟ الإجابة بسيطة وهي تتعلق بموقع المقهى الذي يطل على شارع المتنبي وهو الشارع الذي غير شكله ووظيفته منذ انتهاء حرب الخليج الثانية إذ لم يعد يقتصر على المكتبات العريقة الكبرى ودور النشر والمطابع بل انتشر على أرصفته - التي لا يزيد طولها عن كيلومتر واحد - باعة الكتب والمجلات القديمة والجديدة في طقس ثقافي أسبوعي، في حين تقاعد سوق السراي الذي يطل المقهى أيضاً على نهايته عن مهمته التي عرف بها منذ أواخر العصر العباسي كسوق للوراقين لتتحول مكتباته الشهيرة التي عاصرت أجيال الأدب العراقي إلى متاجر للقرطاسية والحقائب وتجليد الكتب. من جانب آخر يشتهر المقهى الذي تأسس في العشرينات من القرن الماضي بطرازه المعماري الذي يمثل قطعة أثرية من بغداد القديمة، ويحفل في كل جزء منه بدلائل لما تبقى من زمن مضى: سماورات قديمة موضوعة على رف فوق أحد الجدران وصور لبغداد الثلاثينات والأربعينات والخمسينات، وصور أخرى للشخصيات الشهيرة فيها ولوحات تحاكي لوحات الرسامين المستشرقين أو تحاول أن تنقل ملامح ماض. قبل أيام قدمت في المقهى مسرحية بعنوان "لوكيميا" فجذبت حضوراً نسائياً لافتاً - وهو أمر نادر في تاريخ المقاهي التقليدية في بغداد - وبعد ذلك بأيام عقدت ندوة اشترك فيها عدد من الكتاب الذين ناقشوا دور المقهى في الحياة الثقافية العراقية وعلاقته بإيقاع هذه الحياة ومشاغلها. وفي أسبوع آخر قدم أحد الفنانين الألمان عزفاً على الغيتار، ثم تم تكريم عدد من الممثلين الذين شاركوا في مسلسل تلفزيوني، كما صورت في المقهى مشاهد من مسلسل آخر عن حياة الشاعر الراحل بدر شاكر السياب، لكنه لم ير النور، وصورت أيضاً أجزاء من فيديو كليبات لعدد من المطربين الجدد الذين يبحثون عن الغريب والمثير. محطة للصحافيين الكاميرات ترصد باستمرار رواد المقهى من دون استئذان، وقد لا يدخل أديب أو فنان مهما كانت مكانته أو شهرته إلى المقهى ويخرج منه من دون أن يحظى بلقاء أو لقاءين مع كبريات الصحف العالمية أو أن يحل ضيفاً في برنامج تلفزيوني، أو أن يظهر بين الجالسين في فقرة أو مشهد سريع من برنامج آخر. وثمة برامج تلفزيونية عراقية تتخذ من المقهى استوديو دائماً لها من اشهرها برنامج ثقافي أسبوعي بعنوان "نحن في شارع المتنبي" وتطول قائمة الفاعليات التي يشهدها المقهى وتتعدد، ويشعر المثقفون أحياناً بالضيق لأن الصحافيين يتركون كل شيء في يوم عطلتهم ويأتون إلى المقهى الذي انتقلوا إليه منذ شهور لهدوئه ولابتعاده عن صخب شارع الرشيد الذي تقع فيه اقدم المقاهي الأدبية، كما يأتي إلى المقهى أعضاء فرق التفتيش الذين تشكل تحركاتهم المفاجئة والملغزة مادة صحافية دسمة. يختلف تعاطي رواد المقهى مع ظاهرة الكاميرات والأقلام التي تحاصرهم، بعضهم يبدي انزعاجاً، والبعض الآخر ألف هذا الأمر، أحدهم قال ل"الحياة": "انهم يتصورون اننا من عالم قديم يريدون تسجيل آخر بقاياه أو آخر الوثائق الحية عنه". أديب آخر أشار إلى "انهم يبحثون في المقهى عن صورة نمطية مترسخة في أذهانهم عنا، صورة مجموعة من الكسالى المتعطلين الذين يقتلون أوقاتهم في الكلام وفي شرب الشاي والتدخين والتطلع في وجوه المارة" . وقال ثالث: "أين سيجدون مثل هذا الأستوديو الحي الحافل بكل شيء والذي يوفر لهم نفقات وجهوداً كبيرة". وعلق آخر بسخرية : "انهم أيضاً ينتمون إلى فرق التفتيش ولكنهم يبحثون عن أسلحة أخرى". فرصة للسفر أو للشهرة وهناك فئة من رواد المقهى وخصوصاً بين الشباب الذين يبحثون عن فرصة للسفر والعمل خارج العراق أو لنشر أعمالهم أو لتسويق لوحاتهم أو لبيع النسخ النادرة من كتب قديمة يمتلكونها... أو لمجرد إقامة حوار مع الآخر الأجنبي الذي ظل يجهلنا ونجهله على رغم كل ما حدث ويحدث. هؤلاء الشبان يملكون قدرة استثنائية على رصد الغرباء ومعرفة مكانتهم وأهميتهم ومن ثم طرح مشاريعهم أو الإعلان عما يمتلكون من خبرات أو أعمال فنية أو مقتنيات والمساومة عليها أو الحصول على وعود قد لا تتحقق مطلقاً.