من أسباب دعوة الرئيس كينيدي البطريرك الماروني بولس بطرس المعوشي إلى زيارته في البيت الأبيض حرص الرّئيس الأميركيّ على تعزيز دور بكركي في السّياسة اللبنانيّة في أطرها العليا ورغبته في كسب موافقة البطريرك على استخدام ما يتمتّع به من شعبيّة ونفوذ في سبيل ترويج سياسة الاعتدال التي كانت واشنطن تسعى لإقناع الفاعليّات اللبنانيّة باعتناقها. ولم يسبق أن حصل مثل هذا اللّقاء في تاريخ السّياسة الأميركيّة، أي أن تُجرى محادثات رسميّة في البيت الأبيض بين رئيس أميركي ورئيس روحيّ. فذلك يناقض الأعراف الأميركية التي لا تحبّذ مثل هذه الزّيارات لرئيس الدّولة كونها تتعارض ومفهوم فصل الدّين عن الدّولة. وحالما تمّ تعيين موعد اللقاء بين الرئيس كينيدي والبطريرك المعوشي 29 آب -اغسطس 1962، بادر الخبراء في شؤون لبنان في البيت الأبيض ووزارة الخارجيّة الأميركيّة إلى تزويد الرئيس معلومات وتعليمات، منها: - خلال ازمة 1958 الّتي أدّت إلى التدخّل العسكري الأميركي، أيّد البطريرك المعوشي، إلى حدّ ما، موقف المسلمين اللبنانيين الموالين للرئيس المصري جمال عبدالناصر. على أنّه منذ ذلك الحين وهو يناصب الرئيس عبدالناصر العداوة، متّهماً إياه بالسعي إلى تقويض التوازن الطائفي الدقيق في لبنان والذي لولاه لا يمكن الحفاظ على أمن البلد واستقراره. - لقد أبدى البطريرك رغبة شديدة في الاختلاء بالرئيس كينيدي ليُفضي اليه بهمومه السياسيّة، وبخاصّة بشكاواه من تصرّفات كلّ من الرئيس عبدالناصر والرّئيس فؤاد شهاب، وليوحي ايضاً، كما افترضت وزارة الخارجيّة الأميركيّة، أن الرئيس كينيدي يميل إلى دعم الموقف المسيحي في الصراع الطائفي المستعر في لبنان. لذلك أصرّت الوزارة على أن يحضر السفير اللبناني في واشنطن ابراهيم الأحدب، المُسلم، لقاء البطريرك والرئيس كينيدي لعلّ حضوره يُضفي على المحادثات بينهما جوّاً من الاعتدال والموضوعيّة. - سيتاح للبطريرك المعوشي الاجتماع منفرداً إلى وكيل نائب وزير الخارجية ألكسيس جونسون، بحيث يُفسَح له إفشاء سريرة نفسه والتحدّث بمنتهى الحرّية بما يشاء وكما يشاء من دون حضور اي مسؤول رسمي لبناني. وفي ما يأتي عرض موجز لموقف كلّ من المحاورين: - البطريرك المعوشي: ان للولايات المتّحدة أصدقاء كثيرين في الشرق الأوسط. على أن فريقاً كبيراً منهم، وخصوصاً السوريّين بينهم، يرون أنه يتعيّن على واشنطن ان تُحجم عن إمداد الرئيس عبدالناصر بالمساعدات السخيّة لئلا يستغلّها لأغراضه الخاصّة، فيغدو "فيديل كاسترو" آخر. وما يدعو إلى الانتباه هنا هو أن الفارق ضئيل جداً بين الشيوعيّة، من جهة، واشتراكيّة جوزف تيتو التي ينادي بها الرئيس المصري، من جهة اخرى. فالمسألة اذاً على جانب كبير من الخطورة، ولا سيّما اذا أخذنا في الاعتبار انتشار العملاء المصريّين والصحف التي يهيمن عليها عبدالناصر في لبنان وسائر المنطقة. ثم ان الأصدقاء السوريّين يشكون من أن السياسة الأميركيّة تصعّب عليهم تشكيل حكومة ائتلافية، ما قد يضطرّهم إلى إشراك عناصر شيوعيّة متطرّفة فيها. وقد التمسوا "مني التوسّط بينهم وبين أصدقائي الأميركيين لتفادي ذلك" من خلال إعادة النظر في الموقف الأميركي ازاء الزعيم المصريّ. إن معظم اللبنانيّين، مسيحيّين ومسلمين، أذكياء وعقلانيّون ويريدون لبنان ملاذاً لأبناء جميع الطوائف والأديان، غير أنهم يُعانون تطرّف البقيّة منهم. فبين هذه البقيّة أقلّية إسلاميّة توّاقة إلى استعادة الماضي المجيد ومآثره. وما لا شك فيه أنّ تصرّف مثل هؤلاء اللبنانيّين يعرّض المصلحة الوطنيّة لأسوأ الأخطار. - ألكسيس جونسون: على السوريّين ان يدركوا أن الولايات المتّحدة تودّ لو يتعاونون من أجل إقامة دولة متماسكة، صامدة، قادرة على تأمين استقرار البلد وازدهاره. فاستمرار الشقاق بينهم يحول دون اتّفاقهم على برنامج مساعدات يمكن الحكومة الأميركية أن تتبنّاه. أما في شأن المساعدات الأميركية لمصر، فالواقع أنها في الأغلب، بل ثلاثة أرباعها، موادّ غذائيّة لولاها لتعرّض الملايين من المصريين للموت جوعاً. ومهما تكن المزاعم حول هذه المساعدات، فالحقيقة هي أنها تهدف إلى التخفيف من الضائقة التي يعيشها الشعب المصريّ كي يتسنى لحكومته تخصيص المزيد من طاقاتها للعناية بشؤون جوهريّة أخرى. أما في ما يتعلق بلبنان، فإن ما يساور البطريرك من قلق ويُشغل باله إنما يدلّ على عظم حبّه وولائه لوطنه، وهذا يدعو إلى الارتياح والإعجاب، وعلى اللبنانيّين جميعاً أن يكونوا على يقين بأن الولايات المتّحدة تتوسّم في لبنان الخير والاستقرار، حتّى في ظروف الاضطراب الراهنة. وليس من المُستغرَب ان تحدث خلافات بين أبنائه، من وقت إلى آخر بسبب تركيبه الديموغرافي وتعدد الانتماء المذهبي فيه. لذلك يعتقد القيّمون على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أن الأكثريّة الساحقة من مسيحيي لبنان ومسلميه وأبناء سائر الطوائف الأخرى يؤيّدون مبدأ المحافظة على وحدته وسيادة الدولة الكاملة على كل أراضيه وهو المبدأ الذي يؤمن به الرئيس فؤاد شهاب ويعمل على تأمينه بمنتهى الجد والإخلاص، ولا شك في أن البطريرك سيستخدم نفوذه الواسع لدى المسيحيّين وسائر المواطنين اللبنانيين الآخرين لتحقيق التآلف والتعاضد. ثم في 29 آب 1962، اي بعد يومين، تم اللقاء بين البطريرك المعوشي والرئيس جون كينيدي في البيت الأبيض بحضوري وحضور المطران انطونيوس خريش البطريرك لاحقاً، والخوري خليل ابي نادر رئيس اساقفة بيروت لاحقاً، والسفير في واشنطن ابراهيم الأحدب. ولدى انتهاء المحادثات أوحى الرئيس كينيدي بناءً على ملاحظة خطية كنت كلّفت سكرتيرته تسليمه اياها وفحواها أن البطريرك يرغب في أن يختلي به بضع دقائق أنه يريد أن يُطلع البطريرك على البقعة في حديقة البيت الأبيض التي ستغرس فيها ارزة لبنان التي اهداها اليه. وخلال الخلوة التي استغرقت نحو عشر دقائق تمكّن البطريرك الماروني من أن يُقنع الرئيس الأميركي بالأمور الآتية: 1- ان علاقات لبنان الخاصّة مع فرنسا اصبحت من الماضي، وعلى لبنان الآن ان يصوغ علاقة خاصّة مع الولايات المتّحدة. 2- المسيحيّون في الشّرق الأدنى يواجهون خطر الانقراض، وعلى الولايات المتّحدة ان تحميهم بدعم المسيحيّين في لبنان. 3- على واشنطن أن تدعم الديموقراطيّة في لبنان فتقف ضدّ التّجديد للرّئيس فؤاد شهاب. 4- اللاجئون الفلسطينيّون في لبنان يهدّدون استقلاله. لذلك يجب ان تُحلّ قضيتهم. وهكذا استطاع أوّل رئيس روحيّ أن يدخل البيت الأبيض ويخرج منه بنتائج سياسيّة.