يصدر قريباً عن "دار النهار" كتاب "كمال جنبلاط، الرجل والأسطورة" للكاتب الروسي ايغور تيموفييف. وعمل تيموفييف سنوات عدة على جمع سيرة جنبلاط ونضاله السياسي لبنانياً وعربياً ودولياً. وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع "النهار". وأهمية كتاب تيموفييف انه يجمع بين السيرة الشخصية والحوادث السياسية ودور كمال جنبلاط فيها مستنداً الى ارشيف معلومات ومذكرات ووثائق رسمية وغيرها من مقالات ومقابلات تلقي الضوء على زوايا غير واضحة في شخصيته ومواقفه. فالكاتب يلتقط لحظة صعود كمال جنبلاط وتزعمه الطائفة الدرزية بعد رحيل والدته الست نظيره. ففي الفصل السابع يأتي الكتاب على ذكر انتخابات 1951 وخلافات جنبلاط مع رئيس الجمهورية بشاره الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح ونجاح المعارضة التي قادها في الفوز بالانتخابات. وينتقل الى بداية تأسيس جبهة المعارضة وتطور المواجهة مع رئيس النظام اثر اغتيال رياض الصلح في الاردن. ويؤرخ الكاتب بدايات صلة جنبلاط بالهند واكتشافه لها منذ العام 1951 من خلال صداقته للحزب الاشتراكي الهندي واتصاله بنهرو واعجابه بأفكار غاندي ونضاله. ويتحدث الكاتب عن بناء الجبهة الاشتراكية وثورة تموز يوليو في مصر وبدء تأسيس حلف غربي لمواجهة الخطر السوفياتي وصولاً الى استقالة الخوري اثر رفض قائد الجيش فؤاد شهاب استخدام العنف لقمع المعارضة. بعدها ينتقل الى انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية ودعم جنبلاط له ثم خلافه معه على السياستين العربية واللبنانية نتيجة تبدل مواقف شمعون وميله الدائم لتأييد الغرب بريطانياوالولاياتالمتحدة مقابل نزوع زعيم المختارة الى التفاهم مع جمال عبدالناصر. كان ولع كميل شمعون بكل ما هو إنكليزي وبريطاني معروفاً للجميع. إلا أن ذلك الولع لم يحل دون ذيوع صيته نصيراً للعروبة ومدافعاً عن حقوق الفلسطينيين. فأيّد المسلمون بالإجماع تقريباً ترشّحه لمنصب رئاسة الجمهورية، لما جعل المعارضة تأمل أن انتخابه سيعزّز الوفاق الوطني ويوفّر الظروف الملائمة لتطبيق برنامج الاصلاحات من دون عائق. أما كمال جنبلاط فقد ظلّ متردّداً حتى اللحظة الأخيرة، ولم يقدم على خيار نهائي لمصلحة شمعون إلا بعدما وقّع بخطّ يده الوثيقة التي تنصّ فقرتها الأولى على تعهّد رئيس الجمهورية المنتخب حماية استقلال لبنان ووحدة اراضيه ودعم العلاقات الودية مع جميع الدول الكبرى من دون تفضيل إحداها على الأخرى. وكانت هذه السياسة تتجاوب تماماً مع مبادئ الميثاق الوطني عام 1943 التي قام عليها توازن القوى والمصالح الهشّ في لبنان. وفي طبيعة الأشياء أن يكون في مقدّم اهتمامات رئيس الجمهورية المنتخب الحفاظ على الوضع القائم طبقاً لتلك السياسة. إلا أن أواسط الخمسينات شهدت في سياسة لبنان الخارجية ميلاً شديداً صوب الغرب. وأثارت محاولة الرئيس شمعون ضمّ لبنان إلى حلف بغداد الذي وقّعه العراق وتركيا في 24 شباط فبراير 1955، مقاومة عنيفة من جانب السواد الأعظم من اللبنانيين. ولم يتخلّ كميل شمعون عن مخطّطاته تلك إلا بعدما تيقّن من خطر انقسام المجتمع وإمكان حدوث صدامات طائفية فعلاً. جاء ردّ فعل جنبلاط على توقيع حلف بغداد شديداً لا هوادة فيه. وبمبادرة منه اجتمع في مقرّ الحزب التقدّمي الاشتراكي في 10 آذار مارس ممثّلو كبرى المنظّمات والحركات المعارضة واستنكروا الحلف العسكري العراقي - التركي بمنتهى الحزم، واعلنوا تأييدهم لمبادئ الميثاق الوطني التي لا تجيز مشاركة لبنان في اية تكتلات عسكرية. وطالب المجتمعون الرئيس كميل شمعون بأن يعلن بدقة ووضوح رفض لبنان الانضمام إلى حلف بغداد، وناشدوه ان يؤيد الائتلاف المصري - السوري - السعودي الذي نشأ لمواجهة التحالف العسكري بين تركيا والعراق. اللقاء مع عبدالناصر في ربيع 1955 تابع جنبلاط بمنتهى الاهتمام المبادرات الديبلوماسية النشيطة التي اقدمت عليها القاهرة، حين قادت تنظيم مقاومة سياسة الأحلاف العسكرية في الشرق الأوسط. وقبل حين من ذلك التاريخ ما كان النظام الذي قام بمصر عقب انقلاب 23 تموز يوليو 1952 يثير حماسة في نفسه، فهو يعتبر البكباشي جمال عبدالناصر الذي غدا الشخصية الأولى على الساحة المصرية، بعد تنحية اللواء محمد نجيب عن السلطة في 1954، ضابطاً مستبداً قمع الحريات والحقوق المدنية بهدف الهيمنة على البلاد من دون منازع. وفي خريف 1954 نشرت "الأنباء" مقالة انتقدت فيها "الضباط الأحرار" على التنكيل بحزب الوفد وإعدام الإخوان المسلمين عقب محاولة اغتيال جمال عبدالناصر، ووصفت النظام المصري بالديكتاتوري والفاشي. وكان سلبياً للغاية موقف الحزب التقدمي الاشتراكي من المعاهدة الانغلو -مصرية التي انتقصت من سيادة مصر، كما قالت "الأنباء"، وربطتها إلى عجلة الغرب مما يلحق ضرراً بمصالح الشعوب العربية. أما الآن فقد حان الوقت للنظر إلى أمور كثيرة بمنظار آخر. لاحت أمام جنبلاط جوانب جديدة وغير متوقعة من شخصية الرئيس عبدالناصر الذي تزعّم حركة قوية ضد حلف بغداد ودعا الدول العربية إلى توحيد الجهود لمواجهة سياسة الأحلاف العسكرية. وراح جنبلاط يتأمل في مغزى الزيارات التي قام بها الى القاهرة رجال يكن لهم مشاعر الاحترام مثل جواهر لال نهرو وجوزيب بروز تيتو. واخيراً قلب مؤتمر باندونغ تصورات كمال جنبلاط عن جمال عبدالناصر بالكامل. فقد عاد منه هذا المصري القليل الشهرة زعيماً معترفاً به للعالم الثالث يقف في مصاف شخصيات عالمية شهيرة مثل نهرو وشو إن لاي. وسرعان ما توافرت فرصة اللقاء مع جمال عبدالناصر. ففي بداية حزيران يونيو 1955 طلب وزير الخارجية والدفاع السوري خالد العظم ورئيس أركان الجيش شوكت شقير اللذان تربطهما علاقات صداقة مع جنبلاط، أن يسافر إلى القاهرة على عجل ويعرض على المسؤولين المصريين مشروعاً اعداه للوحدة العسكرية. قال كمال جنبلاط في ما بعد: "كان المشروع يتضمن على ما نذكر: توحيد القيادة، وإنشاء صندوق مشترك للانشاءات العسكرية وتنسيق الأسلحة والتدريب". ونظراً إلى أهمية هذا التحالف العسكري بالنسبة إلى سورية التي كانت تتعرض دوماً لاستفزازات مسلحة من جانب تركيا والعراق، أجّل جنبلاط كل أشغاله واستقل الطائرة إلى العاصمة المصرية. تم اللقاء بينه وبين جمال عبدالناصر في القناطر الخيرية بضواحي القاهرة. ودهش جنبلاط لمعيشة الزعيم المصري التي كانت أقرب إلى التقشف. ففي المنزل الضيّق المطل على النيل لا أثر للأبهة، ولا شيء يثير الالتفات سوى المكتب العتيق الذي يكاد يشغل نصف مساحة الغرفة، وعليه يعمل عبدالناصر ويتناول طعامه ويستجم ويستقبل الضيوف. وفي الحال كسب عبدالناصر ودّ جنبلاط بأريحيته وبساطته وقدرته على الإنصات وفهم محدثه، وكذلك بحسه المرهف الذي يمكّنه من استشفاف الترابط بين النتائج والأسباب، وقراءة تطوّر الأحداث اللاحقة قبل أن تحصل بنقلات عدة. وبعد سنين كتب كمال جنبلاط عن ذلك في مذكراته إنه منذ اللحظات الأولى للتعارف لمس طاقة الخير المنبعثة من جمال عبدالناصر وأحسّ بميل عميق إليه. في اليوم الأول استغرقت المحادثات اكثر من ثلاث ساعات. واكتمل في الواقع العمل المرتبط بالوثيقة التي حملها كمال جنبلاط. وأبدى الرئيس عبدالناصر ملاحظات وتعديلات عدة تناولت التفاصيل أساساً، ولم تبدل شيئاً في جوهر المشروع الذي لم يبق، كما خيّل إلى جنبلاط، سوى تذييله بتواقيع الطرفين. إلا أن ما أثار استغرابه هو وجهة نظر عبدالناصر البعيدة عن التفاؤل في هذا الخصوص. بدا هذا التخمين يومها غريباً بالنسبة إلى كمال جنبلاط. لكنه سرعان ما اقتنع بأن الرئيس عبدالناصر كان على حق. فعلى رغم جهود رئيس الاركان شوكت شقير استطال قرار الحكومة السورية النهائي أشهراً، ولم توقع معاهدة توحيد القوّات المسلحة مع مصر، والتي كانت ضرورية لسورية كل الضرورة، إلاّ في شهر تشرين الأول أكتوبر. قبيل العودة إلى الوطن التقى جنبلاط الرئيس عبدالناصر مرة أخرى. وعمّق لقاؤهما الثاني الثقة المتبادلة. وحدّث عبدالناصر الزعيم اللبناني بصراحة متناهية، كأنه يفكر بصوت مسموع عن الإصلاحات التي ينوي تحقيقها، وعن مستقبل مصر في تصوراته. أدرك جنبلاط أن عبدالناصر الذي يدرس بإمعان ويقارن بين شتى الأنظمة الاجتماعية والسياسية، لم يتخذ قراراً نهائياً بعد. إلا أن الكثير مما سمعه يذكّره بقصة بحثه هو شخصياً عن الطريق. في نهاية ايلول سبتمبر 1955 لمع اسم جمال عبدالناصر على واجهات أمهات الصحف العربية والأجنبية. والتفت العالم إلى نبأ مثير يقول إن مصر خرقت للمرة الأولى في التاريخ الاحتكار الغربي لتوريد السلاح إلى الأقطار العربية، وعقدت صفقة ضخمة مع احدى حكومات المعسكر الشرقي. وعندما أعلن الرئيس عبدالناصر نبأ الصفقة مع تشيكوسلوفاكيا كانت الناقلات السوفياتية التي وصلت إلى ميناءي الإسكندرية وبورسعيد تفرغ شحناتها من الدبابات والمدافع والأسلحة الخفيفة والآليات الأخرى، وفي المطارات الحربية المصرية كان المدربون الروس يجربون بأنفسهم في الأجواء طائرات "الميغ-15" الفضية. وقوبلت خطوة عبدالناصر بالابتهاج في عواصم الدول العربية. وقامت في الكثير من المدن الكبرى تظاهرات عفوية تؤيد مصر. وبلغ رد الفعل الشعوري في العالم العربي على خطوة القاهرة المنقطعة النظير درجة من الحماسة والتأييد جعلت حتى خصمي عبدالناصر الرئيسيين نوري السعيد وكميل شمعون يبعثان اليه بالتهنئة. ولم يعد أحد يشك في أن المبادرة انتقلت إلى أيدي السياسيين المعارضين لحلف بغداد الذين يدعون حكوماتهم إلى تأييد الائتلاف المصري - السوري - السعودي الوليد. وكانت موجة التأييد لمصر التي عمّت دمشق جعلت رئيس الوزراء المعين حديثاً سعيد الغزي يعجّل في توقيع الاتفاق السوري - المصري في شأن الوحدة العسكرية. ولم يكن ذلك الاتفاق الذي وقّع في دمشق في 20 تشرين الأول 1955 قد نفذ بالكامل، إلا أن واقع وجوده ساق الدليل على فوز القاهرة من دون ريب في صراعها مع بغداد من أجل كسب سورية. تركت مبادرة جمال عبدالناصر التاريخية أثرها العميق في الموقف داخل لبنان. وأكد جنبلاط بارتياح أنه حتى الذين أيدوا حلف بغداد في بادئ الأمر، أملاً في معونة الغرب في حل المشكلة الفلسطينية، أخذوا يتخلصون من هذه الأوهام. وعارض سياسة الأحلاف العسكرية البطريرك الماروني بولس المعوشي وعدد من السياسيين المسيحيين المتنفذين، مما يعني أن نهج كميل شمعون الموالي للغرب لم يعد يحظى بالتأييد في المجتمع، ولم يبق أمام رئيس الجمهورية إلاّ الاعتماد على الكتائب اللبنانية والقوميين السوريين في تطبيق فكرة انضمام لبنان إلى حلف بغداد. وكان الوضع الناشئ في البلاد استدعى تعبئة جميع القوى المعارضة للعهد بشكل أو بآخر، وتوحيدها في تيار معارض واحد. وكان جنبلاط ساهم بنشاط ربيع 1955، كما أسلفنا، في إعداد ميثاق مؤتمر الأحزاب والهيئات اللبنانية الذي ضمّ، إلى جانب الحزب التقدمي الاشتراكي، كلاً من المؤتمر الوطني والجبهة الشعبية وحزب النجادة وبعض المستقلين. إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً لممارسة ضغط فاعل على رئيس الجمهورية. وفي خريف العام ذاته قام جنبلاط بمحاولة لتفعيل المعارضة ضد الرئيس شمعون من خلال إنشاء ائتلاف أوسع تشارك فيه أيضاً أحزاب مرموقة مثل الكتائب وحزب النداء القومي وحزب الاتحاد الدستوري. وكانت أولى الاتصالات مع زعمائها واعدة، حتى أمكن توقيع بيان مشترك مع الكتائب رسم اتجاهات التعاون المرتقب. إلا أن التعاون لم يمضِ إلى أبعد من ذلك. وفي بداية عام 1956 استنتج جنبلاط أن مصارعة النظام الحاكم تتطلب تأليف جبهة شعبية واسعة في البلاد. كانت الهزيمة في الصراع من اجل سورية وتصاعد نفوذ عبدالناصر السريع في العالم العربي، أرغما مهندسي حلف بغداد على تغيير التكتيك والتسلح بطرائق المؤامرات السرية. ونظراً إلى كون فقدان سورية يعني نهاية حلف بغداد، أقدمت العراقوبريطانياوالولاياتالمتحدة على تدبير مؤامرة لإطاحة الحكومة السورية وتنصيب سياسيين موالين للغرب. وصارت بغداد مركزاً للنشاط التخريبي ضد سورية، فمنها سالت النقود والأسلحة انهاراً لدعم المتآمرين. وأفردت الدوائر الأمنية الغربية دوراً كبيراً في خططها للبنان الذي فر إليه في تلك الفترة كثير من كبار خصوم النظام الحاكم في سورية ممن كان يُنتظر أن يشغلوا المناصب الحساسة في الدولة بعد الانقلاب. اغتيال عدنان المالكي ومن عام 1956 جرت في لبنان تحضيرات مكثفة لانقلاب حكومي في سورية بعلم من كميل شمعون. كانت نواة المؤامرة جماعة من قادة الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة العقيد غسان جديد. وكلهم متهمون بمقتل نائب رئيس الأركان العامة للجيش السوري عدنان المالكي في نيسان 1955، وكان كثيرون منهم محكومين غيابياً بالإعدام. وإضافة إليهم، شاركت في المؤامرة جماعة من ضباط الجيش المغضوب عليهم وفي مقدمهم النقيب صلاح شقيق أديب الشيشكلي حاكم سورية السابق. وفي تموز 1956 وصل الأخير إلى بيروت سراً، إلاّ انه لم يبق هناك فترة طويلة وغادر لبنان فجأة في الشهر نفسه. كانت خيوط المؤامرة تقود إلى السفارة العراقية في بيروت التي زودت المتآمرين المال. وكان هؤلاء يتلقون التعليمات من الملحق العسكري العقيد مهدي السامرائي. وقيل إن مجموعة ما تسلموه بلغ خمسة آلاف قطعة سلاح وأكثر من مليوني ليرة لبنانية نقداً. وفي صيف 1956 افتتح مقاتلو الحزب القومي معسكراً في الجبال على مقربة من بيت مري تمّ فيه، خلال أمد قصير، تدريب أكثر من 300 رجل على الرماية والاشتباك بالسلاح الأبيض. ومن المستبعد أن يكون جنبلاط آنذاك يتصور بالكامل أبعاد انجرار الرئيس شمعون إلى المؤامرة على سورية. فقد علم في ما بعد، من محاضر محاكمة المتآمرين التي جرت في بغداد بعد سقوط نظام نوري السعيد في 1958، أن العراقيين سلموا شمعون مبالغ كبيرة في مقابل تعاونه لامرار المؤامرة. إلا أن تطور الأحداث سار في مجرى مغاير تماماً. ففي 26 تموز 1956 ألقى عبدالناصر من شرفة بورصة القطن في الإسكندرية كلمة في جمهور حاشد أعلن فيها قرار الحكومة المصرية تأميم شركة قناة السويس. وكانت القناة التي افتتحت رسمياً للملاحة في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1869 أهم ممر عالمي لنقل قسم كبير من الشحنات بين آسيا وأوروبا. وفي سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان يمر عبر القناة سدس الشحنات البحرية العالمية ونحو ربع التداول البضاعي الخارجي لبريطانيا، و8 في المئة من النقليات النفطية الأميركية. وكانت "الشركة العامة لقناة السويس البحرية" أكبر مؤسسة دولية يضم مجلسها الإداري ممثلين عن رأس المال البريطاني والفرنسي والاميركي، إلا أن أسهمها موزعة على نحو يضمن للندن القول الفصل في صنع القرار. واعتبارا من عام 1875 عندما اشترى دزرائيلي من الخديوي إسماعيل حصة مصر من أسهم الشركة، لم تفلت بريطانيا زمام السيطرة على القناة معتبرة إياها أهم أداة لسياستها الخارجية في الشرق الأوسط والمنطقة الآسيوية. ووقع نبأ تأميم القناة وقع الصاعقة في العواصم الغربية. ولم يخامر أحداً الشك في أن الحكومتين البريطانية والفرنسية ستستخدمان القوة لحل أزمة السويس لتستعيدا بضربة واحدة السيطرة الدولية على القناة وتصفيا في الوقت ذاته نظام عبدالناصر الذي تريان فيه تهديداً خطيراً لمصالحهما الحيوية في المنطقة. اشتد قلق كمال جنبلاط وهو يرى إلى العالم العربي تجتاحه النشوة القومية من أقصاه إلى أدناه. ورداً على تهديدات الغرب، أعلنت الحكومة السورية فوراً تأييد مصر الكامل، وحذّر بتعطيل تدفق زيت "شركة نفط العراق" عبر الأراضي السورية في حال حصول عدوان على مصر. وغصّت مدرجات الملعب البلدي في دمشق بجموع المتظاهرين وهم يصبون اللعنات على المعتدين ويهتفون بشعارات مؤيدة لعبدالناصر. كانت الروح الثورويّة لدى المتهورين تزعج جنبلاط وتثير مخاوفه. ففي 3 آب أغسطس 1956 بعث إلى عبدالناصر ببرقية تهنئة لمناسبة تأميم قناة السويس أعرب فيها عن تأييده التام لهذا القرار. وأشار إلى أن خطوة مصر هذه هي في منتهى الشرعية، ولا تتعارض مع القانون الدولي مطلقاً إذا تم دفع التعويضات وضمان حرية الملاحة. إلا أن "الأنباء" نشرت مقالة بتوقيعه في اليوم عينه اعتبرت الوضع حول مصر خطيراً للغاية، وناشدت جمال عبدالناصر أن يبدي المزيد من بعد النظر والجرأة، ويتفادى أية خطوات غير سديدة قد يدفعه إليها القوميون المتطرفون الذين يصفقون لقراره. أمضى جنبلاط نهاية الصيف وبداية الخريف في عمل مكثف لتعبئة الشعب تأييداً لمصر. وفي 10 آب وقّع باسم الحزب التقدمي الاشتراكي بيان مؤتمر الأحزاب والهيئات الوطنية الذي تضمن دعوة إلى جميع الأقطار العربية لاتخاذ التدابير اللازمة لصد العدوان المحتمل عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، واتخاذ موقف موحّد ومنسق حيال الأزمة. كانت كلمته تدوي كل يوم تقريباً داعية الجماهير الغفيرة المتظاهرة في شتى أرجاء لبنان إلى التضامن مع نضال مصر ضد الأجانب الذين نهبوا ثرواته الوطنية عشرات السنين. والى جانب كمال جنبلاط شاركت في الحوار الحي المتواصل مع الجماهير، العناصر القيادية في الحزب التقدمي الاشتراكي امثال شكر الله نصرالله وفريد جبران وأنور الخطيب. بدأ العدوان الثلاثي على مصر بدخول الإسرائىليين شبه جزيرة سيناء ليلة 30 تشرين الأول 1956، وفي اليوم التالي انضم إليهم الإنكليز والفرنسيون بضربات جوية مكثفة على المطارات الحربية المصرية. وفي 5 تشرين الثاني أنجزت القوات الإسرائيلية احتلال سيناء بأكملها تقريباً، فيما قام الإنكليز والفرنسيون بإنزال موحد في منطقة بورسعيد، واستولوا على قطاع كبير من منطقة قناة السويسجنوبالمدينة. وردّ العالم العربي على العدوان بتضامن مع مصر لم يسبقه مثيل من حيث العمق والنطاق. وعمّت بيروت سلسلة من التجمعات الحاشدة والتظاهرات الاحتجاجية الغاضبة. وأحرقت الجموع الهائجة إطارات السيارات، وحطمت واجهات المتاجر. وفي الأحياء الإسلامية ظهرت صور عبدالناصر في كل مكان، وألصقت على جدران المنازل وعلى زجاج السيارات وشدت إلى عروات السترات. وطالبت الجماهير الحكومة بمنع دخول سفن بريطانيا وفرنسا موانئ لبنان، وأغلق مطار بيروت في وجه طائرات البلدين. واقترن شعار تأييد مصر من دون قيد أو شرط بالمطالبة بقطع العلاقات الديبلوماسية فوراً مع لندن وباريس. وخوفاً من القلاقل، أعلنت السلطات حال الطوارئ في البلاد وفرضت رقابة مشددة. وعهدت إلى الجيش في مهمة الحفاظ على النظام العام. كان الرئيس شمعون أعلن في آب، في كلمة ألقاها بدير القمر لمناسبة عيد سيدة التلة، أن تأميم قناة السويس حق مشروع للمصريين، وناشد الغرب أن يمتنع عن استخدام القوة. ورأى كثيرون في ذلك تلميحاً إلى استعداد الرئيس اللبناني للتخلي عن موالاة الغرب والتوجه صوب التضامن مع موقف العرب المؤيد لمصر. إلا أن هذه الآمال سرعان ما تبددت، كما قال جنبلاط في ما بعد. وجاءت المصارحة أثناء القمة العربية التي عقدت في بيروت بمبادرة من الرئيس شمعون، وألقى في يوم الافتتاح كلمة حماسية دعا فيها العرب إلى توحيد الكلمة في مواجهة الخطر المشترك. إلا انه سرعان ما اتضح أن ذلك كان مجرد كلام جميل أملته سياسته المفضلة "لإمساك العصا من الوسط" كي يتجنب غضبة العرب والغرب في آن واحد. واعتبرت الأوساط السياسية رفض شمعون الإعلان عن قطع العلاقات الديبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا، أسوة ببعض الدول العربية، خيانة للمصالح المشتركة، مما أدى إلى عزلة لبنان عن العالم العربي وإلصاق نعت صنيعة الدول الغربية به. وأسفر موقف الرئيس شمعون الذي انحاز نهائياً إلى التعاون مع الغرب، عن توتر شديد في لبنان. واحتجاجاً على سياسة الانسلاخ عن العالم العربي، قدم رئيس الوزراء عبدالله اليافي ووزير الدولة صائب سلام استقالتيهما. وتفاقمت الأزمة الوزارية بتصاعد التوتر في المجتمع المنقسم إلى مؤيدي القطيعة مع بريطانيا وفرنسا ورافضيها. وبعد مشاورات مع قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب والسياسيين المنضمين إلى مؤتمر الاحزاب والهيئات، دعا جنبلاط زعماء المسلمين والمسيحيين المتنفذين للاجتماع في مقر البطريركية المارونية لتهدئة الوضع بمجرد حضورهم وإقناع الناس بأن الخلافات السياسية ليست موجباً للعداء الشخصي ناهيك بالنزاع الطائفي. وعلى رغم تردد بعض زعماء المسلمين حاول جنبلاط إقناعهم بصدق الجهود التي يبذلها البطريرك بولس المعوشي وجدّيتها للحفاظ على الوحدة الوطنية. وبفضل إصرار جنبلاط وصبره تم اللقاء في بكركي. واستمر الحوار بين زعماء المسلمين والمسيحيين في بيروت. وعلى رغم أن هذه اللقاءات كانت ذات صبغة سطحية عموماً، وعلى رغم تعثر المشاركين فيها وفشلهم أحياناً في التوصل إلى التفاهم التام، فإن الدعوات إلى وحدة لبنان واستقلاله وارتباطه العربي لقيت أذناً صاغية من جانب الذين وجهت إليهم، فأخذ التوتر الخطير في العاصمة يخف ويخفت بالتدريج. وأدرك جنبلاط أن الهدوء ظاهري لا أكثر. فجذوة الحزازات الداخلية لم تنطفئ، وتكفي هبة ريح لتسعرها من جديد. وممّا عمق خطورة الموقف الذي يهدد بالانفجار، أن قوام الحكومة التي ألفها سامي الصلح في 18 تشرين الثاني 1956 يدل على تصميم الرئيس شمعون المتعنت على التقيد بنهجه السابق. فمجرد تعيين السفير شارل مالك وزيراً للخارجية لم يترك مجالا للشك في أن التوجه الرئيسي بين أولويات السياسة الخارجية اللبنانية ظل كالسابق يستهدف التقارب مع الولاياتالمتحدة التي لم تخف رغبتها في ملء "فراغ القوة" الذي نشأ في الشرق الأوسط عقب فشل العدوان الثلاثي على مصر. مبدأ ايزنهاور في كانون الثاني يناير 1957 طلب الرئيس دوايت أيزنهاور من الكونغرس الأميركي منحه صلاحيات استخدام الجيش للدفاع عن بلدان الشرق الأوسط دون العدوان من جانب أية دولة خاضعة للشيوعية العالمية، واعتماد 200 مليون دولار لمساعدة هذه البلدان في تنمية اقتصادها وتعزيز قواتها المسلحة. وحظي "مشروع ايزنهاور" بتأييد الكونغرس في 9 آذار. وبعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ توجه مبعوث الرئيس الأميركي الخاص جيمس ريتشاردز إلى الشرق الأوسط لإقناع حكومات الأقطار العربية بتأييد المبادرة الأميركية الجديدة. رفضت مصر وسورية مبدأ ايزنهاور، إلا أن الأوساط الحاكمة في لبنان أولته اهتماماً بالغاً. وصدر بعد محادثات ريتشاردز وشمعون في 14-16 آذار بيان مشترك أكد رغبة الطرفين في التعاون في إطار المشروع. وإلى ضمانات التدخل المسلح من جانب واشنطن في حال ظهور خطر خارجي على النظام في لبنان، وعد الاميركيون الحكم اللبناني بمساعدة مالية لتنفيذ برامج عدة في بناء القوات المسلحة وتحديثها. دق القبول بمشروع أيزنهاور إسفيناً في العلاقات بين شمعون وعبدالناصر. وفي بداية صيف 1957 تعرض الرئيس اللبناني لحملة دعاوية مكثفة من إذاعة القاهرة وضعته في صف نوري السعيد والملك حسين اللذين اتهمتهما مصر بخيانة مصالح الأمة العربية. وعندما غدت الناصرية في أذهان الكثيرين تجسيداً للنضال في سبيل الوحدة والبعث العربي، وصاروا يعتبرون كل كلمة يقولها عبدالناصر هي الحق والحقيقة، أدى الخلاف المتزايد بين كميل شمعون والقاهرة إلى انقسام المجتمع اللبناني معسكرين متعارضين. كان عدد المتحمسين لعبدالناصر يزداد بسرعة في الأحياء الإسلامية ببيروت، فيما كانت موجة العروبة المتصاعدة تثير المزيد من القلق عند الطوائف المسيحية، وعند الموارنة بخاصة، مما جعلهم يتأهبون للمواجهة. ورداً على مشروع ايزنهاور انتقل زعماء المسلمين المتنفذون وبعض الزعماء المسيحيين إلى صف المعارضة نهائياً. وفي 4 نيسان أبريل 1957، أثناء المصادقة على البيان الأميركي - اللبناني في مجلس النواب، تخلى عبدالله اليافي ورشيد كرامي وأحمد الأسعد وصبري حمادة ومعروف سعد وحميد فرنجيه عن مقاعدهم البرلمانية، وتركوا مبنى مجلس النواب احتجاجاً على المشروع الأميركي. وقبل ذلك بأيام وجه السياسيون المعارضون مذكرة إلى رئيس الجمهورية تضمنت مطالبهم، إلا انه رفض تسلمها بحجة أنها نشرت في صحف بيروت من قبل. ورداً على ذلك قرر أصحاب المذكرة تأليف "جبهة الاتحاد الوطني" للنضال ضد العهد. في بادئ الأمر تضامن جنبلاط مع المعارضين وذيّل المذكرة بتوقيعه، إلا انه أعاد النظر في موقفه فجأة وسحب توقيعه في اليوم التالي موضحاً ذلك صراحة أنه لم يتمكن لا هو ولا قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي من الإطّلاع على نصها. وفي بداية نيسان التقى جنبلاط في منزل فؤاد عمون كلاً من عبدالله اليافي وصائب سلام وبحث معهما في آفاق حركة المعارضة الجديدة. غير أنه ابتعد في ما بعد عن جبهة الاتحاد الوطني وقال إنها غير موجودة. ونشأ وضع فيه بعض الغرابة. فالحزب التقدمي الاشتراكي يساهم في أعمال الجبهة من خلال نسيم مجدلاني، بينما يقف جنبلاط بعيداً عنها ويبدي بين حين وآخر ملاحظات انتقادية بحق المعارضين. ثم أن موقف كمال بك نفسه من مشروع ايزنهاور فيه غموض، ولا نستطيع أن نخرج من أقواله المنشورة آنذاك باستنتاج نهائي واضح عما إذا كان يستهجن مبادرة الرئيس شمعون أم يستحسنها. أن التبدل في تصرف جنبلاط لا يعني التخلي عن مبادئه الاستراتيجية ولا إعادة النظر في مواقفه المعلنة. فالمقربون يفهمون جيداً ان هذا مجرّد تكتيك. والتهاون الظرفي في نشاط جنبلاط يرجع فقط إلى مخاوفه من أن الميلان بالزورق، في البحر الهائج اصلاً، يؤدي إلى انقسام المجتمع على اساس ديني ويسفر عن صدامات طائفية دموية، كما حدث في تاريخ لبنان اكثر من مرة. ثم تعمد عشية الانتخابات النيابية تفادي مواجهة حادة مع العهد، وكذلك التهجم المباشر على رئيس الدولة، معتبرا بحق أن ذلك يمكن ان يلحق به ضرراً في الشوف، ذلك أن نصف الناخبين مسيحيون ومعظمهم من أنصار الرئيس شمعون. صلاحيات شمعون الرئاسية تنتهي في 1958. وبعدما كسب حليفاً جباراً هو الولاياتالمتحدة، أخذ يمهد للتجديد لرئاسته. ولهذا الغرض كان بحاجة إلى مجلس نواب يكون طوع بنانه ويغدو فيه نفوذ زعماء المعارضة على اقله، بل حبذا لو تحول صفراً. وأول ما قام بها على هذا الطريق تعديله قانون الانتخابات ورفعه عدد النواب من 44 إلى 66 نائباً. وقد أعيد تقسيم الدوائر الانتخابية بحيث تؤمن لمرشحي النظام الحاكم أوفر حظ من الفوز. ومع اقتراب موعد الانتخابات نشطت السفارات والدوائر الأمنية الاجنبية محاولة بكل الوسائل تأمين فوز السياسيين المتعاونين معها. ولم تكن الانتخابات تجرى في السابق من دون ذلك، إلا ان تدخل الاجانب هذه المرة تميز ليس فقط باتساعه بل بوقاحته السافرة. وبلغ الأمر حداً كان فيه السفير الأميركي دونالد هيث يراجع شخصياً لوائح المرشحين للنيابة ويشطب منها أسماء السياسيين الذين لا يروقونه. وكلف مكتب المخابرات المركزية الأميركية في بيروت مهمة إسقاط النواب الذين استقالوا احتجاجاً على مشروع ايزنهاور. واعتمدت لهذا الغرض مبالغ كبيرة من الصناديق المختصة. وأثناء الانتخابات كان المخبر الأميركي بيل ايفلند يتردد على قصر الرئاسة يومياً حاملاً حقيبة ملأى بالليرات اللبنانية يسلمها شخصياً إلى الرئيس كميل شمعون. ولم يستنكف من نفوذ الأميركيين رئيس الوزراء سامي الصلح، فكان يفيد منها لاضعاف خصومه في صفوة الطائفة السنّية. جرت الانتخابات على مرحلتين في أيار - حزيران 1957، وشهدت تجاوزات صارخة، حتى أن الوزيرين المكلفين مراقبتها اضطرا إلى الاستقالة. ورغبة منه في اسقاط المرشحين الذين لا يروقونه استخدم الرئيس شمعون قوات الأمن والدرك، كما استخدم لتخويف الناخبين القبضايات المحليين الذين لم يتورعوا حتى عن الايذاء الجسدي. وبلغ عدد ضحايا العنف الذي دبرته السلطة 50 شخصاً. واستخدم التزوير والخداع إلى اقصى حد في الشوف الذي تنافست فيه قائمتا شمعون وجنبلاط. وصعق اللبنانيون لنتائج الانتخابات، اذ تجاوزت أحابيل الرئيس شمعون الحدود بهدف التخلّص من الخصوم. وخسر مرشحو المعارضة في جميع الدوائر الانتخابية تقريباً. إلاّ أن الخبر الذي لم يصدّق كان فشل شخصيات أساسية على المسرح السياسي اللبناني مثل كمال جنبلاط وصائب سلام وعبدالله اليافي وأحمد الأسعد. ويبدو ان انعطاف الأحداث على هذا النحو الخطير، إن لم نقل المأسوي، جعل حتى شمعون نفسه ينفعل ويكتئب. فهو لم يكن يتوقع أن الأمور ستبلغ هذا الحد. وبديهي انه أمن لنفسه أكثرية طيعة في مجلس النوّاب، ولكن ما قيمة هذه الأكثرية إذا ظل خارج الميدان الدستوري أشخاص لو تفوهوا بكلمة واحدة لكانت كافية لخروج نصف سكان البلاد إلى الشوارع في ساعات معدودات؟ السبت: اندلاع الحرب الأهلية.