عكف الاختصاصيون في الولاياتالمتحدة على حماية الجندي الأميركي من مخاطر الحرب، ليس الجسدية فقط بل النفسية، لأنه تبين لهم بعد تجربة فيتنام المريرة، أن الآثار النفسية ما بعد الحرب كانت أكثر ضرراً من الحرب نفسها. فقد تبين في ضوء الإحصاءات، أن عدد ضحايا عصاب الحرب يفوق ما فقده الجيش الأميركي من ضحايا في أرض المعركة. نسبة الانتحار بين جنود قدامى الحرب، إضافة الى الاضطرابات الذهانية التي أدت الى ارتكاب جرائم فردية وجماعية، بلغت أكثر من خمسين ألف ضحية خلال 15 سنة تلت نهاية الحرب، هذا إضافة الى تفشي المخدرات والإدمان على الكحول، والاضطرابات العائلية والطلاق والعنف الممارس على الأطفال إلخ... كلها، يشير الباحثون النفسانيون، تدخل في اطار عصاب الحرب الذي يتعرض له كل جندي. ولكن، ما يميز الحال الأميركية، ان هذا الجندي بعد عودته الى بلاده، لا يكون فخوراً، إذ يعود منكسراً محبطاً. فكل هذه المشقة والتضحيات والغربة، تبدو له وللمجتمع الأميركي من دون جدوى، فهو خاض حرباً خاطئة وغير محقة. وهنا تجب الإشارة الى أن الجندي الأميركي يجد نفسه فجأة أمام واقع لم يتحضر له ولم ينتظره. فكل هذه الجرائم والمآسي التي ارتكبها بحق شعب لم يعتد عليه، بدت أمام عينيه من دون مبرر، وعليه منذ الآن أن يتحمل مسؤولياتها النفسية وحده، لا سيما أن المجتمع الأميركي نظر الى هذه الحرب انها تشكل حرجاً له، لأنها تتنافى مع المبادئ والقيم التي نشأ عليها. إضافة الى عقدة الهزيمة التي خلقت مركب نقص لدى القوة الأميركية وشرخت شعورها بالعظمة، ما دعا الكثير من المخرجين السينمائيين في هوليوود، الى التعويض بأبطال غير موجودين، أمثال رامبو واحد واثنين وثلاثة الخ... وأفلام أخرى تظهر العناصر الفيتنامية كبهائم تباد بالأعداد على غرار أفلام الهنود الحمر. ولكن على رغم ذلك، كانت أميركا تفتش عن حرب أخرى واقعية، تخرجها من عقدة الهزيمة. أي عن علاج نفسي جماعي من طريق واقع جديد. فانتهز الفرصة جورج بوش الأب بعد حرب الخليج الأولى وانهزام صدام حسين، كي يعلن للشعب الأميركي، أنه منذ الآن قد تخطى عقدة فيتنام، ويستطيع أن يستعيد ثقته في نفسه وقدرته على النصر. أي أن الأب بوش بدا كما لو أنه يتكلم من موقع الطبيب النفسي الذي يقول لمريضه، بعد العلاج الميداني: بعد الآن لا يمكن أن تشعر بالنقص لأن عقدة الهزيمة تفككت وتبددت، فانتعش. سريعاً بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر، تبين للشعب الأميركي ان هذه العقدة عادت أقوى مما سبق، فالخطر لم يعد يطاول الجنود المارينز الموجودين بعيداً، انما يطاول أميركا في عقر دارها وفي أهم رموزها. لذلك أعلنت أميركا الحرب المطلقة على الارهاب. لكن الإرهاب عدو خفي، متوار على الأنظار، وهذا يشكل خوفاً نفسياً لا يمكن تطويقه. لذلك لا بد من عدو منظور، يصبح بمثابة موقع تتجسد فيه كل الدوافع النفسية للكراهية التي تراكمت منذ أجيال في أميركا. وهذا ما كان وراء نظرية بوش الابن لمحور الشر. وهي بمثابة فصام ما بين الداخل والخارج كي يستطيع المواطن الأميركي أن يحمي نفسه من العداء الداخلي الذي يمكن أن يهدد المجتمع الأميركي. من هذا الموقع أصبح الجندي الأميركي المارينز بمثابة المنقذ الذي تجسدت فيه كل الآمال الأميركية الوهمية. ولكن، ما يغيب عن النظر، أنه على رغم التقدم التكنولوجي والقدرة العسكرية التي لا مثيل لها، فإن هذا الجندي انسان يتأثر بما يشاهده، بما يفكر به، بما يتحسسه، لأن هذا الذي كان طفلاً سابقاً، لا تزال الطفولة في داخل نفسه، تظهر له ضعفه، وحدود قدرته على ارتكاب المجازر. فالترسانة الأميركية العسكرية لا تحميه من نفسه، ما يرتد عليه بانعكاسات انسانية تظهر ضعفه ووهنه، خصوصاً انه يعرف بحكم التجربة أنه معرض للموت، وأن الحياة فانية، وأن كل هذه القوة ليست في الواقع إلا هباء. أدرك علماء النفس الأميركيون هذه المخاطر النفسية التي قد يتعرض لها الجندي الأميركي، سواء من فراقه الأهل، أو من وجوده في أرض غريبة في مناظرها وطبيعتها، أو بالاحتكاك بشعوب مغايرة في شكلها وعاداتها. لذلك عمدوا على سبيل المثال عندما قاموا بحملتهم على الصومال، بعرض مشاهد لهياكل بشر جائعين لئلا يصابوا بصدمة مشاهدة الأطفال والنساء الصوماليين وهم هياكل عظمية بسبب العطش والجوع، الهدف هو حماية نفسية الجندي الأميركي من انسانيته التي إذا استيقظت، تخلق عنده الاحباط وتفقده القدرة القتالية. ما حال الجندي الأميركي بين الرمال في ديكور الصحراء الخاوية، وأمام هذا الصمت المطبق في انتظار ساعة الصفر، لكي تبدأ العمليات العسكرية؟ هذا الانتظار للحدث قد تكون مضراته وآثاره السلبية أكثر من الحدث نفسه، فهي حال قلق Stress لا يشفيها ويبددها إلا الفعل. فهو في موقع نفسي وضعه به قادته، ووضعوا له احتمالين إما يَقْتُل وإما أن يُقْتَل. أي انه أمام الموت بكل حتميته ومن دون مهرب، على غرار المصارعين الرومان، فعندما يُوضَعون في الحلبة، لا يبقى لهم خيار إلا أن يَقتلوا أو يُقتلوا، فعندما يُدخل الجندي في العلاقة الثنائية يفقد كل خياراته الإنسانية. يتساءل الجندي الأميركي القابع في الرمال عن مصيره، هل سيعود الى وطنه؟ هل سينعم من جديد بالدفء العائلي، هل سيلتقي حبيبته ويضمها بذراعيه، لكي يشعر من جديد بسعادة الحب وبهجة الحياة؟ أسئلة لا يستطيع الاجابة عنها، لأنه لا يضمن بأي شكل ستكون عودته: معاقاً، مدمراً، أو جثة هامدة. هذه المشاعر والأفكار في تداعياتها واحتمالاتها، تطاول كل إنسان في مواجهة الموت. وقد برع المخرج السينمائي ستيفن سبيلبرغ في فيلمه "يجب انقاذ الجندي ريان"، عندما أظهر على الشاشة كل هذه المخاوف في مواجهة الموت، في الفترة التي سبقت نزول الجنود المارينز على ساحل النورماندي. فبدا الإنسان بضعفه، يفتش عن معنى للحياة، كغريق "يتمسك بخشبة خلاص"، فمنهم من يكتب لأمه في آخر نظرة وداع، ومنهم من يتذكر بيته الذي نشأ فيه، ومنهم من يخرج من جيبه صورة حبيبته ليلقي عليها نظرة الوداع، ومنهم من تنهار أعصابه، فيفضل التعرض لدوار البحر بدلاً من دوار الموت. كلها مشاهد يتناولها المخرج بدقة لكي يظهر وهن الإنسان أمام هذه اللحظة التي ترفع الستار عن مجهول الموت في لقاء لا مهرب منه. بوش الابن، حاول استغلال ضحايا 11 أيلول، كأبرياء ذهبوا ضحية الأشرار، يجب الانتقام لهم، فشحذ نفوس الشعب الأميركي بمشاعر الغضب والالتفاف حول الوطنية، للانتقام "من هؤلاء الأشرار". واستغل الخوف الذي انتشر كالوباء، لأن الخوف يضعف الذكاء ويحول اللاعقلاني الى منطقي. لذلك ظهر الكثير من النظريات والأكاذيب التي لا يبررها أي تحليل عقلاني. وهذا الجندي الذي أوكلت اليه مهمة الانتقام، والدفاع عن الشرف، وعن الوطن، يعرف في طيات نفسه، أو يدرك الآن أو لاحقاً، انه ذاهب الى الحرب للدفاع عن أميركا، لكنه في النهاية يموت من أجل المصانع الأميركية. السؤال الذي يدور في مخيلته وهو قابع في الصحراء القاحلة: لماذا الحرب؟ لماذا هو على أرض غير محبة، وفي طبيعة غير أليفة؟ لماذا يبعد عن أهله ووطنه؟ وأخيراً لماذا يقتل الآخر؟ كلها أسئلة لا يستطيع الاجابة عنها على رغم التبريرات السياسية، لأنها تقبع في اللاوعي، وتدور في حلقات فكرية وتصورات تصل به الى العلاقة الأولى الثنائية عندما اكتشف نفسه كمغاير للآخر. لكن هذا الآخر ليس إلا صورة ازدواجية لشخصه. وهنا لا بد من تدخل طرف ثالث، وهو عامل اللغة، لكي ينقله من هذا الصراع المميت الى عالم الإنسان أي حقل اللغة. في مثل هذه الحال يتأزم وضعه النفسي، ويصبح الإقدام على القتل، هو الحل الأخير للخروج من التمزق الداخلي. ولكن، يطرح السؤال: من أين يأتي الإذن بالقتل؟ فهو لا يستطيع أن يأخذ على عاتقه مثل هذه المسؤولية، فلا بد من طرف ثالث يعطيه مثل هذا الحق، وعندما يرى نفسه في ساحة القتال، يظهر المبرر: لا بد من الدفاع عن النفس. فإذا أقدم على قتل الآخر، فليس إلا دفاعاً، والمسؤولية لا تقع عليه إنما على المسؤول السياسي الذي وضعه في ميدان المعركة. وإذا اقتنع بالانصياع الى رؤسائه فليس إلا انطلاقاً من معرفة يجهلها، ومن موقع آمر ومأمور. لكن هذا لا يلغي المسؤولية الذاتية، إذا لم تقابلها مبادئ وقيم إنسانية يستباح في سبيلها الاستشهاد أو القتل. ويتبين لنا من خلال التجربة الفيتنامية وبعد عودة المقاتلين المارينز الى بيوتهم، أن خللاً حصل بين شريحة المجتمع وفلول هؤلاء الجنود. لقد أصبحوا عبئاً على المجتمع لأن الفظائع التي ارتكبوها في فيتنام لا تتناسب ولا تتلاءم مع القيم الاجتماعية والإنسانية التي نشأ عليها الشعب الأميركي وينعم برخائها. فبعد هذه التضحية والمعاناة، وجد قدامى المحاربين انهم منبوذون اجتماعياً، وبدلاً من أن يكونوا موضع فخر أصبحوا مجلب عار يذكّر الشعب الأميركي بنقيض قيمه. أي حصل نوع من القطيعة والفصل، ما بين الأنا الأعلى لاجتماعه بقيمه الدستورية وما بين الفرد الذي وجد نفسه منفياً ومنبوذاً من هذا الأنا الأعلى. ردود الفعل أتت لتعبر عن هذا الاقصاء، فكانت إما عنفاً موجهاً الى المجتمع وإما عنفاً موجهاً الى الذات بدافع التخلف عن النجاح في مهمته، ما أدى الى الإدمان على المخدرات والكحول والمهدئات أو الاصابة بالكثير من الأمراض النفسانية الذهانية والاكتئابية، أو بما يسمى عصاب صدمة الحربP.T.S.D . الجندي الأميركي المرابط في الصحراء، يعرف هذه الحقيقة، لأن أفلام هوليوود والإعلام، تكفلت نقل أخبار هؤلاء المقاتلين القدامى والحال المأسوية التي وصلوا اليها. وهذا يزيد هشاشة الجنود الأميركيين ويعرضهم لعصاب الحرب. أولاً: كونهم بعيدين عن أوطانهم، لا سيما انهم يقاتلون خارج حدودهم، فلا يجدون مبرراً جغرافياً للدفاع عن وطنهم. وهذا البعد عن الأهل، يزيد من الشعور بالخوف وعدم الاطمئنان الى محيطهم الجديد. ثانياً: يواجه الجيش الأميركي استنكاراً عالمياً، إضافة الى أن الأرض التي يطأها هي أرض معادية وشعبها غير مرحب، إن لم يكنّ لهم العداء، على رغم الترحيب من زعماء هذه الشعوب. فهذا الوجود يغرق في جو من الكراهية والعداء، ما يجعل الجندي في مناخ غير حبي، ويشعر بعدم الاطمئنان الى محيطه. وهنا لا بد من السؤال: كيف يمكن جيشاً يدعي أنه أتى ليحرر الشعوب من الطغيان، والشعوب تكرهه؟ ثالثاً: الشعور بالخطر الدائم، وعادة يتجسد هذا الخطر في العدو الذي أتى لمقاتلته. لكن هذا الخطر يشمل كل المناطق التي يوجد فيها، الى درجة انه أصبح يمنع على الجنود الاختلاط بالأوساط الشعبية لئلا يتعرضوا لخطر الموت. هذا ما اضطر القيادات الى وضعهم في معسكرات، يعيشون معزولين، أو في سفنهم ضمن عالمهم، أي أشبه بجيوش معلبة، تحاول الحفاظ على نقاوتها وعقمها والابتعاد عن التلوث البيئي، الى أن يحين استهلاكها فتفتح عندئذ على الجبهات. رابعاً: اختلاف عالم البيئة، والطبيعة ترافق شعوبها، فهي غير مرحبة، وغير أليفة، سواء في حرها النهاري أو في جليدها الليلي، إضافة الى المناظر المسطحة التي لا يألفها سكان المناطق الجبلية والشجرية. فالجندي قد يجد نفسه أشبه بسجين: يحيط به من ناحية عداء الشعوب له، ومن ناحية أخرى طبيعة لا تسمح له بالتجول أو التوغل. أعتقد ان هذه العوامل كانت موجودة في حقبة حرب الخليج الأولى، وعلى رغم انها كانت أقل حدة بكثير مما هي عليه الآن، فقد أدت الى اندلاع وباء سمي بمرض الخليج، وقد تنوعت التفسيرات في تأويله وتحديد أسبابه، وهو كناية عن مجموعة من أعراض تطاول الجهاز العصبي والتوازني والجهاز الهضمي. ولم تظهر الفحوصات التي أجريت على هؤلاء المرضى في انكلترا وفرنسا وأميركا، أي خلل عضوي، أو آثار كيماوية. فالأرجح كما رجَّح الكثير من الأطباء ان هذه الأعراض كانت نتيجة للضغط النفسي الناجم عن الاقامة في الصحراء، ومناخها غير الملائم. فهل الجندي الأميركي في منجى من ردود الفعل التي يتعرض لها، سواء في عدم الاقتناع بشرعية الحرب أو بفترة الانتظار التي تضعه في مهب الافتراضات المخيفة، أو أخيراً بعداء الشعوب؟ كلها تساؤلات إذا ما تركت تتفاعل في نفسيته ستؤدي إذا طال الانتظار أو إذا اندلعت الحرب وطال أمدها، الى تدهور في قناعته القتالية والى تعرضه لعصاب الحرب بأشكال متعددة، هذا إذا انعكست الحرب على الشعب الأميركي وحصلت عنده ردود فعل سلبية تؤدي الى قطيعة ما بين الجندي وضمانة شعبه له، فيصبح الجندي عندئذ ضحية افعاله وما ارتكبت يداه من أعمال اجرامية ضد الإنسانية وضد القيم التي نشأ عليها، لأن التصادم ما بين المبادئ والأفعال يؤدي حتماً الى تأزم نفسي وصراع في الذات ما بين الأنا الأعلى والأنا الذاتية. المصير المجهول الذي ينتظر الجندي الأميركي في الصحراء لا تبدده التصريحات التطمينية الآتية من الخطاب السياسي ولا التعليب المعقم على حاملات الطائرات أو ضمن الحزام الأمني المطبق، بل على العكس قد يزيد من قلق الجنود، فهم بعد هذا كله بشر مثلنا يتأثرون ويتحسسون ما يحيط بهم. وعندما يخرجون من معاقلهم لكي يدخلوا ساحات القتال، ويحققوا فوزهم، فسيدركون انهم لم يحققوا النصر النهائي، لأن كل عربي يقترب منهم سيشكل خطراً عليهم، لأنه من الممكن أن يتحول الى قنبلة موقوتة. فالعيش في مجتمع معاد الى درجة استباحة الموت يشكل تهديداً خطيراً على وجود القوات الأميركية، وهذا ما حصل للقوات الاسرائيلية في لبنان. نتيجة هذا الشعور العدائي والعمليات الاستشهادية جعلت الجنود الاسرائيليين يعيشون في خوف وتهديد دائمين، الى درجة جعلت وجودهم في الأراضي المحتلة مستحيلاً. وهذا ما أظهره الإعلام في فرحتهم عند ترك لبنان، والإحصاءات الطبية التي قدرت المصابين بعصاب الحرب بحوالى 25 في المئة من كامل القوات المحتلة. الجندي الأميركي أمام المجهول المخيف لأنه لا يعرف ما ينتظره. * بروفسور. محلل نفسي - باريس.