في الذكرى ال 24 للثورة الايرانية طرح حسن نصرالله مبادرة من اجل "المصالحة الوطنية في العراق" دعا فيها المعارضة والنظام الى مؤتمر "طائف عراقي" على غرار "الطائف اللبناني"، وهو المؤتمر الذي عقده اعضاء البرلمان اللبناني في مدينة الطائف السعودية عام 1989 فشكل نهاية للحرب اللبنانية وتوصل الى وثيقة وفاق وطني. وأصدر حزب الله فيما بعد بياناً شرح فيه ابعاد المبادرة، كما ألّف لجنة للاتصال بالمعارضة والحكومة العراقية. تقوم مرتكزات المبادرة على ان المنطقة كلها مهددة، وان العراق هو مدخل التهديدات، ولهذا فلا بد من السعي الى منع وقوع الحرب، لأن نتائجها ستكون مدّمرة انسانياً وسياسياً، وستفتح الباب لشرق أوسط جديد ليس بعيداً عن هيمنة المشروع الاميركي - الصهيوني. ويتلخص هدف المبادرة راهناً في درء الكارثة وابطال الذرائع التي ترتكز اليها الولاياتالمتحدة لشن الحرب ضد العراق وهي: حيازة اسلحة الدمار الشامل، تهديد دول الجوار، القمع الداخلي. كما تتلخص المقدمات التي تقترحها المبادرة للتنفيذ ب "الاعتراف المتبادل" بالشرعية الجهوية للآخر، فكلاهما - المعارضة والنظام - يمثلان شريحة مهمة من الشعب العراقي، حسب ما جاء في المبادرة، والاعتراف المتبادل مقدمة ضرورية لقراءة "دقيقة وواعية" للمرحلة. فالحرب لا تستهدف "انقاذ" الشعب العراقي بل تتخطاه الى شيء أكبر بكثير. ومن هذه الحيثيات دعا السيد حسن نصرالله وحزب الله الى "عقد مؤتمر مصالحة وطنية عراقية". أما الجهات التي يمكن ان ترعى المبادرة وتدعو اليها فهي: جامعة الدول العربية، مجموعة دول عربية، المؤتمر الاسلامي، مجموعة دول اسلامية. وستكون الجهات المدعوة للمشاركة لوضع أسس المصالحة، مختلف القوى السياسية العراقية على غرار "الطائف اللبناني". وستكون قواعد المصالحة أساساً لدستور عراقي جديد ل "الوفاق الوطني" واجراء انتخابات حرة ونزيهة، تنبثق عنها حكومة وفاق واعتماد مبدأ "صحة التمثيل" لكي تحوز على ثقة الشعب العراقي. والمقصود بذلك أخذ جميع التكوينات العراقية في الاعتبار قومياً وسياسياً ودينياً ومذهبياً وغير ذلك. اما برنامج حكومة الوحدة الوطنية الذي حدده السيد نصرالله فهو يرتكز الى ثلاث أسس هي: 1 - ارساء الوحدة الوطنية في اطار برنامج التنمية والاعمار. 2 - التفاوض مع الكويت وإيران ودول الجوار لارساء علاقات ايجابية معها. 3 - حل المشاكل المتعلقة بمجلس الامن والاممالمتحدة ولا سيما أزالة اسلحة الدمار الشامل. تكمن أهمية المبادرة في كون السيد نصرالله هو الذي أطلقها، وهو أحد أبرز الرموز العربية والاسلامية التي تتمتع بصدقية عالية. اذ انه ساهم بشكل فاعل واساسي في عمليات تحرير الجنوب اللبناني، وقيادة المقاومة لالحاق الهزيمة باسرائيل التي أضطرت الى الانسحاب. وتأتي المبادرة في ظرف اتسم بطرح بعض المشاريع ذات الصفة المذهبية، في رد فعل للطائفية السياسية التي تعكزت عليها الدولة العراقية منذ قيامها والتي زادت وتعاظمت على نحو خطير في السنوات الاخيرة. اذ قابل بعض الفئات والجماعات الساسية نهج التمييز المزمن بالتشبث لإقرار صياغات بإعادة تركيب المعادلة السياسية في العراق على اساس مذهبي من دون النظر الى ما يمكن ان يحدثه هذا الامر من اضطراب سياسي مضاعف، ومن خطر على المجتمع، بحيث نصبح في مواجهة "الطائفية السياسية" إزاء خطر "الطوائفية المذهبية" أو "الطوائفية المجتمعية" وهو ما عناه عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي حين وصف الطائفية والطوائفية ، وهو ما يروج حالياً بأنها "طائفية بلا دين" بمعنى تعصب وانغلاق وتمترس. ويبرز مثل هذه الدعوات من بين ثنايا بيانات وخطط واطروحات ومؤتمرات دعت علناً او ضمناً الى اعتماد الطائفة او المذهب اساساً في بحث الاصطفاف السياسي والفكري والثقافي في العراق. ولهذا تتجاوز مبادرة نصرالله الهم المذهبي والديني والاسلامي الى الهم الوطني والقومي الفلسطيني والعربي، ومنه الى دائرة الصراع الدولي مع الولاياتالمتحدة، التي تشّكل عدواً بمنظوره. ولعل في ذلك تناغماً مع "وصايا" الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين. تُدخل المبادرة في اعتبارها اطاراً عربياً واسلامياً، فهي ليست بعيدة عن سورية وإيران خصوصاً تقويماتهما لطبيعة المرحلة الراهنة وعلاقتهما بالمعارضة والحكم وتنسيقهما في الكثير من المواقف. ان اشراك أو اقناع جامعة الدول العربية ومجموعات دول عربية واسلامية بالتعاطي مع الشأن العراقي على قاعدة الاعتراف المتبادل والمشاركة السياسية، يمكن ان يسهم حسب بعض التحليلات في تعزيز موقع المعارضة على صعيد العلاقات الرسمية العربية والاسلامية التي يمكن اخذها ضمن المعادلة السياسية الحالية والمستقبلية بحيث لا يمكن تجاوزها بكل الاحوال. وبالنسبة الى نقد المبادرة، يمكن القول: 1 - كان يمكن التشاور سلفاً مع شخصيات وقوى المعارضة والحكم بشأن طرح المبادرة وإستطلاع وجهات نظرها. 2 - المبادرة لا تخلو من "مثالية سياسية"، خصوصاً كونها حالمة بردم الهوّة العميقة والمآسي الكبيرة بين النظام وبسببه وبين المعارضة بسرعة خاطفة. 3 - المبادرة تلامس وضعاً في غاية الحساسية ازاء قضايا معقدة ومزمنة خصوصاً ان هناك قطيعة "تاريخية" بين السلطة والمعارضة، فكيف السبيل الى التخلص من "الجملة الثورية" و"إدعاء الافضليات" و"إلغاء الخصم" وغيرها من ثقافة الحرب الباردة، والتوجه الى "الواقعية السياسية" ونقد الآخر والذات ، ووضع مصلحة الوطن والشعب فوق كل اعتبار من دون توفير ارضية مناسبة واجواء طبيعية، واقدام النظام على اتخاذ خطوات عملية واضحة بقطع كل ما له صلة بالماضي ازاء المعارضة والشعب. 4 - قد تكون المبادرة متأخرة زمنياً، خصوصاً وان الحرب أصبحت وشيكة الوقوع وربما قاب قوسين اوادنى. وقد تفسر المبادرة على انها محاولة في الوقت الضائع لكي يلتقط النظام انفاسه، بعدما جرى حديث عن "ضمانات" للرئيس العراقي لمغادرة العراق. ليس هناك ادنى شكِ بالنزاهة والموضوعية والحرص الوطني والقومي والاسلامي للسيد نصرالله، لكن السؤال يبقى ملحّاً: كيف السبيل للانتقال من المجابهة والارهاب والاسقاط والالغاء والاقصاء الى الحوار والتوافق والتعاون والعمل المشترك؟ ومن نقاط ضعف المبادرة انها لم تركز على مسألة بناء الثقة من خلال تهيئة الظروف والمستلزمات لذلك، وهذه تتم عادة قبل الشروع بالتنفيذ بل انها من شروط التنفيذ، خصوصاً وانها تتطلب إجراءات عاجلة وفورية من جانب النظام ب: 1 - اقرار التعددية والتنوع الفكري والثقافي والقومي والسياسي والديني. 2 - اقرار مبدأ المشاركة في ادارة الشؤون العامة، وإلغاء نهج احتكار العمل السياسي والثقافي والمهني والنقابي. 3 - إلغاء القوانين المقّيدة للحريات والعقوبات الغليظة بما فيها إبطال بعض مواد الدستور النافذ منذ العام 1970 وعدد من القوانين التي تتعارض مع مبادئ ومواثيق حقوق الانسان، والقوانين التي تكرّس النظام الشمولي والهيمنة للحزب الحاكم "القائد"! 4 - إطلاق الحريات العامة وبشكل خاص حرية التعبير والاعتقاد والتنظيم وحق تولي المناصب العليا من دون تمييز او عزل لاسباب سياسية او قومية او مذهبية أولأي سبب أخر، واطلاق حرية الصحافة والاعلام وتوفير فرص متكافئة للمعارضة أسوةً بالحزب الحاكم. ولكي تتأكد فرصة تحقيق ذلك لا بد من تقديم ضمانات من أعلى المستويات في الحكومة العراقية منشورة ومعلنة وواضحة من دون لبس او غموض او تأويل ومن دون قيد او شرط بإلغاء كل التعقبات القانونية بحق المعارضين ووقف الملاحقات والسماح لعودة المعارضين بحرية والتعهد بعدم ممارسة التعذيب وإلتزام العراق كدولة اضافة الى حزب حاكم وقيادة ورئيس بالتعهد بإحترام أسس وقواعد المبادرة، حتى تتم عملية اجراء الانتخابات لجمعية تأسيسية برلمان تسّن دستوراً جديداً للبلاد بصورة حرّة، وفي اطار رعاية عربية ودولية نزيهة ومحايدة. ان قبول الحكومة العراقية بنقاط مراقبة عربية من جامعة الدول العربية بالتعاون مع الاممالمتحدة بخصوص مراقبة أحوال السكان المدنيين وتلقي شكاوى بشأن الانتهاكات التي يتعرضون لها بما يخالف قواعد المبادرة ويرتب مسؤوليات على الحكومة العراقية، يمكن تحريكها في اطار القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين. وتمهيداً لذلك لابّد من تقديم ضمانات للأكراد بتأمين حقوقهم القومية الكاملة في اطار حق تقرير المصير وعلى أساس عراق ديموقراطي تعددي موحد ومسالم، وذلك باحترام خياراتهم الحرة. وكذلك تقديم ضمانات بإحترام الحقوق القومية والثقافية للتركمان والاشوريين وغيرهم. وتشريع قانون يحّرم التمييز القومي والطائفي يعاقب فيه كل من يمارس أو يدعو أو يروج أو يتستر أو يضلل أية معلومات بخصوص الطائفية البغيضة والشوفينية المنبوذة، وتعزيز روح التآخي والوحدة الوطنية والمشترك الانساني في إطار من المواطنة والمساواة لجميع العراقيين نساءً ورجالاً على أساس المفاهيم العصرية الحديثة. ولا شك ان شروع الحكومة العراقية فوراً في إعلان عودة المهجرين العراقيين الى وطنهم العراق، وإعادة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة ومنحهم الجنسية العراقية فوراً واعادة النظر بقوانين الجنسية لوضع قواعد جديدة لمنح الجنسية لكل عراقي او عراقية ولد في العراق أو من أب أو أم عراقية، سيكون عنصراً إيجابياً في تهيئة مستلزمات نجاح المبادرة ورغم بعض الملاحظات بخصوص انعدام الثقة والتمترس السياسي، فإن المبادرة فيها الكثير من الامور الجوهرية، التي يمكن اخذها في الاعتبار، مع المسافة المتباعدة سواء لجزر المعارضة او لجزيرة الحكم، فالمبادرة ترفض الحرب والحل العسكري وتدعو الى الاعتراف بالمعارضة وتساويها مع الحكم في المسؤولية. كما انها تضع مسؤوليات على الجميع ازاء الوطن والشعب ومستقبل الامة. ولا شك ان تخلي الحكم عن نهج التفرد والاستئثار والواحدية والاطلاقية، يمكن ان يقود الى مسألة التغيير السلمي نحوالتوّجه الديموقراطي المنشود، ويفرض استحقاقات جديدة، لا يمكن وقف تداعياتها، لو تمت بشفافية اووبجزء من المثالية او اليوتوبية التي ترشحت من بين ثنايا المبادرة. ويمكن لهذه ان تنعكس ايجابياً على دول المنطقة، التي هي بحاجة جّدية وماسة داخلية أولاً وقبل كل شيء وليس بفرض من الخارج، لانجاز مشروع اصلاح سياسي واحداث تغييرات في البُنية السياسية والقانونية باتجاه الديمقراطية والتعددية. ويمكن في أجواء طبيعية وبشروط وضمانات كافية ان تلعب "الغالبية الصامتة" والرأي العام في الداخل وبعض قوى التغيير دوراً، وتنزل الى الميدان السياسي مستقبلاً بعدما تعرضت الى اقصاء متعمد وعزل مستمر وتميز مزمن. ويمكن اعتماد بعض الآليات ميكانزم وصولاً لتحقيق فكرة المبادرة من خلال حوار جديد بين المعارضة نفسها قبل حوارها مع الحكم على أرضية الوطنية والقومية والديموقراطية والبعد الانساني. والحوار يستهدف إنجاز التغيير الديموقراطي سلماً وبضمانات عربية واسلامية ودولية. ولا شك في إن قبول "الحكم والمعارضة" بفكرة المبادرة سيطرح أمر مناقشتها عبر لقاءات متلفزة واعلامية، لتبيان ما لها وما عليها وامكانية تطبيقها من انعدام فرصة تحقيقها بما فيها مثاليتها من واقعيتها السياسية. ولعل الدور الذي يمكن ان يلعبه السيد نصرالله وحزب الله سيكون مهماً، اذ قبل اي خطوة لا بّد للحكومة العراقية ان تقول رأيها وتعّبر عن استعدادها الواضح للتعاطي مع المشروع وعدا ذلك فليس من المعقول استجابة طرف واحد رغم تحفظاته الكثيرة، من دون استجابة الطرف الأخر. ان ذلك يعني في ما يعنيه قبول الامتثال الى "إرادة الشعب" باعتباره صاحب السلطة ومصدرها واليه ينبغي ان تعود. ويمكن لحزب الله باعتباره صاحب المشروع تنظيم لقاءات بتعاون مع سورية والاحزاب اللبنانية وقوى عراقية وشخصيات فكرية وثقافية، لبحث امكانية وضع المبادرة موضع التطبيق، خصوصاً اذا ما أقدم الحكم على تقديم تنازلات وقام بخطوات عملية على هذا الصعيد. لا يكفي إذاً درء الكارثة بنزع سلاح العراق التدميري، بل بإنجاز هذه المهمة بالتوافق مع مهمة إنجاز التحول الديموقراطي الشامل، فذلكم هوالسبيل لتحقيق السلام الاهلي وضمان الحقوق والحريات وإبعاد شبح الحرب والحصار وخطر التفتيت والاحتراب الداخلي، وهذا ما قصده السيد حسن نصرالله وربما عنته اطراف سياسية أخرى من دعواتها لإنجاز التغيير الديموقراطي بإبعاد الخطر الخارجي عبر إحداث إصلاح داخلي جذري، من قمة السلطة حتى قاعدتها. * كاتب وحقوقي عراقي.