إنهم هناك، في اميركا التي لم تعد، في ما يبدو، بعيدة على النحو الكافي، تغيروا، وأصبحوا يفكرون بطريقة مختلفة، لم يعودوا أولئك الذين كنا نعرفهم قبل 11 ايلول سبتمبر 2001، وقد صدر أكثر من كتاب ودراسة ومقال بعنوان رئيس أو فرعي عن أميركا After September 11. وعلى رغم التعاطف والدعم المعنوي الذي أبدته كل الحكومات - خصوصاً العربية - لأميركا في محنتها، إلا أن شيئاً ما في لطمة 11 سبتمبر، جعل الأميركيين يتساءلون بمرارة حارقة: لماذا يكرهنا الجميع هكذا؟ السؤال لم يكن يقصد في البداية شعباً معيناً، أو جهة محددة، أو قارة خاصة، كان عاماً في شكل يجعلك تحس بالشفقة والأسى على شعب يحس بكل هذه الوحشة والغربة في العالم. وقد عمل من لهم غرض في السيطرة على اميركا، من طريق السيطرة على مشاعر مواطنيها، وهم يملكون ويبسطون سيطرتهم على وسائل تكييف الرأي العام، والسيطرة عليه والتأثير فيه وتشكيله وتوجيهه، على إعادة إنتاج الحدث. وقد نجحوا في ذلك. وهي مشكلة اميركا والأميركيين، وعليهم وحدهم معالجة أمورهم، وتدارس ما حدث، فقد اعتادت أميركا دائماً أن يصغي الجميع إلى صوتها في كل حوار مع الآخر، وهم لا يملون ذلك. إلا أن ما قادني إلى تناول هذه القضية، هو أمر آخر، وقد يكون هو الأمر نفسه، إلا أنني أحب أن أتناوله من منظور آخر مختلف، من زاويتنا نحن، ومنظورنا نحن، وجانبنا نحن. قالت "الفايننشال تايمز" في عددها قبل حوالى عشرين يوماً ان المستثمرين السعوديين سحبوا من أموالهم المودعة في الولاياتالمتحدة مبلغاً أصابني بالدهشة البالغة، إذ حددته ب200 مليون دولار، وهو ليس بالمبلغ الذي نمر به مرور الكرام. وفكرت: ذكرت المصادر أن هذا يشكل جزءاً بسيطاً من الأموال المودعة، وسألت نفسي: إذا كان هذا المبلغ يمثل جزءاً بسيطاً من الودائع، فكم تبلغ الأموال العربية المتحركة في الاستثمار في أميركا؟ كم تريليوناً ترى من أموالنا هناك ؟.. لو سألنا أنفسنا بصراحة: ألم يكن من الأجدى لو أننا قمنا بتوزيع هذه التريليونات من الدولارات على محافظ إستثمارية أخرى بدلاً من وضع البيض العربي كله في السلة الأميركية؟ وماذا نفعل إذا ما قررت الحكومة أو القضاء هناك الحجز على هذه الأموال على الأقل؟ لأن ما هو أسوأ من ذلك أن تصادرها وتدفعها كتعويضات مثلما فعلت بأموال العراق ونفطه. أعرف أن البعض يستهين، بل ان البعض الآخر قد يسخر من مثل هذا التفكير الذي يقود إلى طرح تساؤلات مثل هذه. ولكنني أعرف أيضاً - وربما أكثر - أن عائلة أميركية قتل ابنها في القدس سنة 1996م، رفعت دعوى قضائية تطالب فيها بتعويض قدره 300 مليون دولار، وأن الدعوى مرفوعة ضد مؤسسات خيرية فلسطينية في الولاياتالمتحدة بتهمة أنها قدمت دعمها المالي ل"حماس"، التي أعلنت مسؤوليتها عن العملية. وقد استند محامي العائلة الى قانون مكافحة الإرهاب الصادر في عام 1992. حسناً، ربما يقول لي البعض: وما الذي يمكن أن يحكم به القضاء الأميركى على منظمات خيرية مثل "معهد الدراسات القرآنية في الينوي" أو "مؤسسة الأرض المقدسة" في أميركا لعدم وجود دليل يثبت أن هناك علاقة مباشرة بين التبرعات الخيرية والعملية؟ إلا أن المحكمة التي أقرت حق العائلة في المقاضاة كفتني أي قول آخر. إلى أين يقودنا هذا؟ لقد رفع فريق من المحامين يقودهم "رون موتلي" دعوى قضائية باسم 400 من أسر ضحايا هجمات 11 ايلول سبتمبر، وأن العريضة التي يبلغ عدد صفحاتها 258 قدمت إلى محكمة في إحدى ضواحي واشنطن وتتضمن 15 اتهاماً لثمانين شخصاً ومؤسسة وشركة صرافة إسلامية في المملكة العربية السعودية، إضافةً إلى حكومة السودان. أما التهمة الرئيسة فهي دعم حكومة طالبان والمنظمات الإرهابية، وعلى رأسها بالطبع تنظيم القاعدة الذي اتهم بالهجوم الذي أدى إلى مقتل أكثر من ألفي شخص. أما المبلغ المطلوب تسديده قضائياً فلا يتجاوز التريليون دولار، أي حوالى 1000 بليون دولار!! ولم ينطلق أخونا "موتلي" بكل هذا الحماسة في القضية من فراغ، وإنما هو انطلق مستهدياً ومستلهماً تجربة ضحايا طائرة "بان أم" الأميركية، التي قاد قضية تعويضاتها محامون أميركيون، لمصلحة ضحايا الطائرة التي سقطت في لوكربي والبالغ عددهم 270 شخصاً. فعلى رغم غياب الأدلة آنذاك وضعف القرائن استصدرت الولاياتالمتحدة قراراً من مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية على ليبيا استمرت لأكثر من عشر سنوات، دين المقرحي في آخرها وحكم عليه بالسجن. وظلت المحكمة طوال هذه السنوات تنظر قضية التعويضات، ودخلت ليبيا الآن في مفاوضات مع أسر الضحايا حول المبالغ المستحقة. فإذا وضعنا في السياق ذاته أن الولاياتالمتحدة قامت بالفعل بتجميد أرصدة أشخاص ومؤسسات بزعم الاشتباه في قيامهم بتمويل منظمات إرهابية، وأنها ذهبت أبعد حين لم تكتف بالتجميد، بل قامت بمصادرة أموال بعض الأفراد والمؤسسات بالذريعة نفسها، وأن بعض الأشخاص الذين تبرعوا للمنظمات الخيرية ذات اللافتات الإسلامية ضُمت أسماؤهم الى قوائم الإرهاب، إذا وضعنا كل ذلك في السياق يتضح أن الأموال العربية أصبحت محل شبهة في أميركا، وأنها مستهدفة بالمصادرة أو التجميد. لقد طرق التهديد آذاننا أكثر من مرة، وبأكثر من طريقة، عبر إجراءات مالية عدائية، وقد نشرت مؤسسة "راند كوربوريشن" Rand Corporation الأميركية تقريراً دعت فيه بوضوح إلى "تجميد الودائع السعودية في الولاياتالمتحدة الأميركية لأنها دولة معادية". أي أن يشمل التجميد كل الودائع السعودية، العامة والخاصة، أي تلك التي تملكها الدولة وتلك التي يملكها الأفراد والمؤسسات. وإذا كان البعض يعول على القوانين، والاتفاقات الدولية، أو حتى الثنائية، فإن تاريخ الولاياتالمتحدة حافل بالتنصل - لا المراوغة وحدها - من اتفاقاتها والتزاماتها، وهي في ذلك تعتمد مبدأ القوة وحده. الولاياتالمتحدة تفعل هذا بلا مواربة أو مداراة، وحين انسحبت من اتفاق الصواريخ البالستية التي وقعتها مع روسيا لم تتعب نفسها في البحث عن مبررات منطقية، أو حتى مقنعة للطرف الآخر، بل اكتفت بقرارها هي، تاركة إحداث الضجة للآخرين. وعلى رغم احتجاج حتى حلفائها إلا أنها لم تعبأ كثيراً - ولا حتى قليلاً - ولا أرى سبباً واحداً يجعلني - أو يجعل غيري - يظن أنها ستحترم المواثيق والقوانين الدولية، والاتفاقات بيننا وبينها. أعود إلى المبلغ "الزهيد" الذي قالت صحيفة "الفايننشال تايمز" ان بعض المستثمرين سحبوه، ولا أعيد معه الأسئلة التي بدأت بها المقال، فقد استبان الوضع في ما أظن، ووضحت المخاطر والمزالق التي تتهدد الأموال العربية التي تحمل الاقتصاد الأميركى على كاهلها، ما يعني أن هذا الاقتصاد سينهار. إلا أنني ألفت الأنظار إلى وجهة أخرى بعيداً من أميركا، وأتوجه إلى هؤلاء الذين أقدموا على هذه الخطوة الاحترازية الحكيمة متمنياً أن يتوجهوا بهذه الأموال للاستثمار في بلدانهم صاحبة الفضل الأول عليهم، وإلى الدول العربية الشقيقة، فهي أحوج ما تكون إلى الاستثمار. وأن مقولات "المخاطرة" التي يهددهم بها البعض لعدم الاستقرار السياسي في تلك البلدان يجب ألا تحجب عنهم حقيقة، وهي، أن عدم الاستقرار ما هو في الأساس سوى نتيجة للفقر، والبطالة وعدم وجود تنمية زراعية وصناعية فيها. وإننا بهذا الاستثمار إنما نساعد هذه الدول على الاستقرار، لتكون عوناً لنا، مثلما كنا عوناً لها. * كاتب وأستاذ جامعي سعودي.