إثر اجتماعه بالرئيس الاميركي جورج بوش، قال رئيس وزراء بريطانيا توني بلير: "ان الامور اصبحت مهيأة لصدور قرار الحرب، وان التوقيت لا يتجاوز الاسابيع القليلة". ولكي يُسكت حملة رجال المعارضة الذين اتهموه بالإنجرار الأعمى وراء الولاياتالمتحدة، قام بلير بجولة اوروبية ضمن خلالها تأييد اسبانيا وايطاليا والبرتغال مع وعد أكيد بانضمام الدنمارك وتشيخيا وهنغاريا وبولندا. ثم ختم جولة الاستقطاب بزيارة باريس على أمل استمالة فرنسا الى تحالف اوروبي جديد لا يمثّل اوروبا القديمة العجوز التي انتقدها وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد. ولكن فصاحة رئيس وزراء بريطانيا عجزت عن تغيير موقف جاك شيراك الذي برّر تجنّب المواجهة العسكرية بضرورة الاحتكام الى تقرير رئيس المفتشين الدوليين، والى أهمية منح الوسطاء فرصة اخيرة للتدخل مع صدام حسين. ومع ان واشنطن لم تقتنع بهذه الاسباب التقنية، إلا انها متيقنة بأن شيراك سيحذو حذو ديغول في ازمة كوبا 1961، ويركب موجة التأييد لاميركا خصوصاً ان عدد دول التحالف تجاوز العشرين دولة، اضافة الى تسع دول من ضمنها تركيا، أعلنت موافقتها على اجازة استخدام قواعدها العسكرية لمهاجمة العراق. إدارة الرئيس بوش تشعر بأن التحوّل الذي أحدثه تدخلها المتواصل مع الدول المعنية قد أنتج بعض التغيير على مستوى القيادات ولكنه ظل يفتقر الى قناعة غالبية الرأي العام داخل اميركا وخارجها. ولقد عبّرت مجلة "تايم" عن هذه المعضلة بنشر صورة جورج دبليو بوش على الغلاف 3 شباط / فبراير مع تعليق يقول: الرئيس يريدك ان تؤيده ضد العراق! ثم تساءلت "تايم" في تحقيق واسع: هل تنجح واشنطن في تغيير أفكار المواطنين؟ ويبدو ان ما حصلت عليه اجهزة التنصت والاقمار الاصطناعية كان جزءاً من خطة مدروسة لكي تحصل على دعم شعبي يحرج فرنسا والمانيا وسائر الدول المترددة. ولقد اختار بوش وزير خارجيته كولن باول لعرض صور مكبّرة من المفترض ان تثبت حيازة العراق اسلحة الدمار الشامل. كذلك أبرز اشرطة تسجيل تدعم الحجّة الاميركية القائلة بأن الحرس الجمهوري يعرقل مهمة لجان التفتيش عن طريق إخفاء معلومات قيّمة. واستغرق العرض المثير الذي قدّمه الوزير باول في قاعة مجلس الامن مدة سبعين دقيقة استعمل خلالها كل الاسلحة الاعلامية المتوافرة بما في ذلك ربط النظام العراقي بعمليات الإرهاب التي نفّذها أحد عناصر "القاعدة" أبو مصعب الزرقاوي. وكان واضحاً ان الوزير الاميركي يريد إضافة تهمة الارهاب الى تهمة حيازة اسلحة الدمار الشامل، معتبراً ان بغداد شجّعت على اغتيال الديبلوماسي لورنس فولي في عمان. وكان من الطبيعي ان يحدث هذا العرض المسهب ردود فعل متفاوتة، بحيث ادعت بغداد ان الأدلة ليست قاطعة بسبب تعذّر استجواب المتهمين المجهولين. وزعمت ان تسجيلات التنصت على هواتف الضباط ليست صحيحة بدليل ان أوامر القيادة تحظر استعمال الهاتف للشؤون المتعلقة بالامن ونشاط الجيش. وهي تذكّر بأن صدام حسين رفض اثناء ازمة 1991 الرد على مخابرات هاتفية وجّهها اليه خمسة حكّام عرب لخوفه من اكتشاف موقعه بواسطة أجهزة التنصت الاميركية. ولقد اصدرت القيادة العراقية مذكّرة تمنع استخدام الهاتف او الفاكس او اي وسيلة تكنولوجية يمكن مراقبتها او اعتراضها. يقول الجنرال عامر السعدي، مدير ديوان الرئاسة، ان باول شوّه دوره ومهمته في وقت أظهر كل تعاون مع فريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ووصف أدلة الاتهام في جلسة مجلس الأمن، بأنها عرض أميركي مشوق وضع خصيصاً لتبرير العملية العسكرية وتجنب كل خطوة تساعد على تفادي الحرب. وكتبت الصحف الفرنسية تعليقات ساخرة تشير فيها الى أن القرائن التي قدمها الوزير باول لا تختلف من حيث المضمون، عن الملف الذي وزّعه توني بلير على أعضاء مجلس النواب بهدف الحصول على موافقتهم. وكما قوبل ملف بلير بالانتقاد اللاذع لخلوه من النقاط المقنعة، كذلك قوبل عرض كولن باول بالتشكيك والتحفظ. والسبب أنه استعجل النتيجة وتخطى مهمة هانس بليكس ومحمد البرادعي، الأمر الذي أحرج فريق المفتشين وجعل اتفاق "النقاط العشر" عديم الجدوى. أي الاتفاق الذي وقعته بغداد مع لجنة "انموفيك" والوكالة الدولية للطاقة الذرية. التصرف الاميركي حيال أزمة العراق نقل وزير الخارجية كولن باول من موقع اعتدال فريق الحمائم الى موقع تطرف فريق الصقور. واللافت ان وزير الدفاع رامسفيلد كان من المفروض ان يقدم عرض الاتهامات باعتباره قائد حملة اسقاط نظام صدام حسين. واستغرب المحللون عملية التغيير والتحول التي طرأت على تفكير وزير الخارجية كأنه تخلى فجأة عن المبدأ الذي حمل اسمه منذ حرب 1991. أي المبدأ الذي شرحه في مذكراته بعنوان: "رحلتي الأميركية"، الصادرة عام 1995. وتتمحور المذكرات حول نظرية مركزية تتناول تورط الولاياتالمتحدة في حربي فيتنام والخليج. ويركز باول في كتابه على أهمية استخدام القوة العسكرية دفاعاً عن المصالح الوطنية الحيوية فقط. ويستخلص من هذه النظرية ان تردد باول في مجاراة رفاقه "الصقور" كان نتيجة عدم اقتناعه بأن نظام صدام حسين يمثل تهديداً مباشراً لمصالح بلاده الحيوية. ولقد عرضه هذا الموقف المتميز لانتقاد رئيسه جورج بوش ومعارضة كبار المسؤولين في الادارة، خصوصاً عندما امتدحته فرنسا وروسيا والمانيا ووصفته بأنه يمثل تيار التعقل والاعتدال والرؤية الحكيمة. وكتب عنه باتريك سيل مقالة نشرت في "الحياة"، اعتبره عنواناً للسياسة الهادئة البعيدة عن الانفعال والغوغائية. ورأى فيه الأمل بمعارضة الاندفاع الجنوني لحرب لا تخدم سوى مصالح اسرائيل. واستند مادحو كولن باول في تأييده على سلسلة وقائع أهمها خلافه مع مادلين اولبرايت حول تدخل الجيش الأميركي في حرب البوسنة. وردت وزيرة الخارجية في حينه على تحفظه بلهجة ساخرة، قائلة: إذن، ما هي فائدة الجيش الجرّار اذا كنا لا نستطيع استخدامه؟ وعلّق باول على تهكمها وتهورها بالقول ان كلامها زاد درجات الضغط في أوعيته الدموية. عقب صدور تقرير رئيس لجنة التفتيش هانس بليكس، ظهرت مؤشرات سياسية تنبئ عن تحول كولن باول، وانتقاله من فريق الحمائم الى فريق الصقور. فقد أعلن انه لن يلغي تماماً خيار استعمال القوة ضد العراق في سبيل حماية الشعب الأميركي وشعوب العالم، ومع أنه دافع عن موقعه الجديد بالقول انه اقتنع بأدلة الاستخبارات المركزية، إلا أن مصادر صحافية استبعدت هذا التفسير وركزت على إظهار خلافات سابقة كادت تخرجه من الادارة. وتردد قبل شهرين تقريباً ان كوندوليزا رايس ستنقل من مستشارية الأمن القومي لتحتل منصب باول الذي سيقال بسبب عدم انسجامه مع أفكار المجموعة. وتسربت معلومات من البيت الأبيض تشير الى اعتراض بوش على موقف وزير خارجيته لأن الدول المترددة بشأن حسم قرار الحرب - مثل فرنسا والصين وروسيا والمانيا - تتخذ من معارضته سلاحاً لتقوية سياستها المتحفظة. لذلك أصرّ الرئيس بوش على ظهور الوزير باول على منصة مجلس الأمن لكي يلغي آخر حصن من حصون المعتمدين على تقارير لجنة "انموفيك" والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهذا يعني ان الاتهامات التي أوردها باول، تجعل منه صقراً آخر، يطالب مثل رفاقه، بضرورة حسم أزمة العراق بالوسائل العسكرية. كما يعني أيضاً ان موافقته على استخدام القوة، تطرح تلقائياً، موعد توقيت الضربة. على هذا السؤال يجيب فريق علماء الأرصاد الجوية الذي أرسلته حكومة توني بلير مع آخر دفعة من قواتها المتوجهة إلى منطقة الخليج. وترأس هذا الفريق التابع لمكتب MET ستيفن نويي الخبير بالأحوال الجوية. وسبق لهذا الفريق أن قام بخدمات جلى في الميادين العسكرية منذ إنشائه في بريطانيا عام 1854. وكانت مهمته في السابق محصورة بإرشاد البحارة إلى الموانئ الآمنة. ثم تطورت خلال الحربين العالميتين بحيث أصبح هؤلاء الخبراء جزءاً مكملاً للقوات المسلحة. ويعترف الكابتن "ستاغ" الذي انضم إلى قوات الحلفاء أثناء تحرير أوروبا من القوات النازية، أنه هو الذي أوصى الجنرال آيزنهاور بضرورة استغلال نافذة صحو لا تزيد مدتها على 24 ساعة من شهر حزيران يونيو 1944. وبناء على هذه التوصية حددت القيادة المشتركة موعد D-Day لعملية الإنزال في النورماندي يوم السادس من حزيران. ويحتفظ مكتب الأرصاد الجوية برسالة شكر بعث بها آيزنهاور إلى "ستاغ". ويحدد رئيس المكتب "نويي" مهمته كراصد للأجواء، بأنها مخصصة لدراسة أفضل الأوقات للهجمات البرية والغارات الجوية بحيث لا تتسبب الأجواء العاطلة بانحراف الصواريخ عن أهدافها العسكرية. وهو يذكر أن انعدام التنسيق بين فريقه والقوات الأميركية في أفغانستان أدى إلى حصول كوارث دموية بين المدنيين. يقول العسكريون الأميركيون إن اتهامات كولن باول أعطت الغطاء السياسي المطلوب للعمل الحربي. وفي تقدير القيادة العسكرية الروسية ان الحرب ستعلن السبت المقبل 15 الجاري، وان العمليات ضد العراق ستكون مفتوحة حتى آخر شهر آذار مارس، أي قبل دخول فصل الصيف. وبخلاف حرب 1991 التي استمرت 39 يوماً، يتوقع الجنرال تومي فرانكس، رئيس القيادة المركزية، استسلام القوات العراقية خلال مدة لا تزيد على الأسبوع الواحد. وهو يستند في توقعاته على افتراضات مدروسة لما قد يصيب العراق من شلل تام بعد توجيه ثلاثة آلاف صاروخ انسيابي متطور نحو جميع المواقع العسكرية والثكنات ومولدات الكهرباء وخزانات المياه والمرافئ والمطارات الحربية والمدنية. كل هذا سيتم خلال أول 48 ساعة من بداية الحرب. القيادة العراقية ترد على حملة التخويف والترهيب بالقول ان الحرب الجوية لن تحسم المعركة، وان بغداد ستكون المقبرة الجماعية للقوات البرية المتقدمة من الشمال والجنوب. وأمام هذا المشهد المأسوي يحبس العالم أنفاسه بانتظار ساعة الصفر، وإعلان توقيت D-DAY بواسطة مكتب الأرصاد الجوية! * كاتب وصحافي لبناني.