منذ العام 1981، آليت على نفسي ألا أذهب إلى مربد العراق، أنا الذي كنت قبل ذاك العام، مشدوداً الى هناك في مواعيد منتظمة، أولها يعود الى العام 1974 حيث ألقيت في البصرة، وكنت في أول طلعة الشعر وخوفه وجماله، "قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا"، ووجدت عالماً من الماء والنخيل، الشعر والحزن وأبي الخصيب والسيّاب والبلم وقطار الشعراء والملاحين على شط العرب، ما خالط اللحم والدم فيَّ الى الأبد. وبمقدار ما كان عراق السلطة يبتعد ويبعدني عنه، كان عراق الناس والشعر والنخيل، وعراق الفراتين، وبغداد وجوفها الساحر الليلي العجيب، يقترب. لأن أصدقائي من الشعراء والمبدعين والمفكرين شُرّدوا عن العراق، وتوزعوا في أربعة منافي المعمورة، آليت على نفسي ألاّ أذهب. لكن من ذهبوا العام الفائت وعادوا، حملوا لي بريداً من هناك... بضعة كتب ودواوين من شعراء يجمعني بهم نسب الشعر، وتضوع رائحة الذكرى. ولم أكتم دمعة في جفني. حاولت كبتها وضغطها الى الداخل، لكنها نَفَرت. ولاحظها عليّ صديقي فقال: أنت؟ فقلت له ما كان قاله الشاعر القديم: "... فقلت له إن الشجى يبعث الشجى/فدعْني فهدا كلّه قبر مالكِ". اليوم كل القبور قبر واحد عراقي وكل الحزن عراق وكل الخوف والرغبة في الموت من أجله عراق. من بين الكتب التي وصلتني من البصرة، ثلاث مجموعات شعرية للشاعر علي الأمارة. هي على التوالي: "أماكن فارغة"، "لزوميات خمسميل"، و"الركض وراء شيء واقف". صادرة عن دار الكتب للطباعة والنشر في جامعة البصرة. أهمها وأكثرها نضجاً الأخيرة "الركض وراء شيء واقف". والشاعر علي الأمارة، بصريّ، ورئيس اتحاد الأدباء في البصرة، من مواليد 1960، ولا يزال مرابطاً في مسقط رأسه البصرة. لم يجرّب المنفى خارج الوطن، في منافي العراقيين الكثيرة، ولكنه ألزم جسده وقلبه وشعره بأرضه. بصمات هذه الإقامة ظاهرة على شعره في كل حال. يقول في نص بعنوان "جهات" من مجموعة "أماكن فارغة": "مدينتي طويلة لهذا فأنا ممتدّ مثل نهر / مدينتي عريضة /لهذا فأنا ألامس حدود الصحراء /مدينتي عميقة لهذا زرعتُ قدميَّ في الأرض مدينتي عالية /لهذا فإن بكائي مطر...". والبكاء، المطر، سمة شعب وأرض في العراق... مجّدهما بدر شاكر السياب في أناشيده كلها، بخاصة في أنشودة المطر. والمطر إشارة خصب وإشارة حزن في وقت واحد. نحن هناك أمام حضارة الماء والطين، والأحزان الطويلة الممتدة من أيام الطفّ حتى يومنا هذا... تحسّ هذا النشيج في حنجرة المغني. وكأنما فيها وفي شهقاتها عصافير مخنوقة، وتحسّ النشيج نفسه في قصائد الشعراء، ومواويل المغنين... حتى لكأن الحزن، بالمطلق، هو عراقي. يقول علي الأمارة، في أولى اللزوميات: "تعالَ نذهب حيث النار والماءُ / .... / أريك، لو تفتح الأبواب، مزرعةً / من العذابات، حيث الموتُ نعماءُ / أريك ما يجعل الأيام مسبحةً من الجنون...". والأغاني، أغاني القاع، كما يقول "سوداء"، والجرح ينوح في العرس، والمساءات تعوي... على هذا المنوال، نحن في قصائد "الركض وراء شيء واقف" نعثر على كتابة سوداء منقوطة على ورق أسود... لا وقت، ثمّة للفرح... ثُمَّ لا وقت أيضاً للترف. القصائد تظهر كأنها مقدودة من العصب، أو كأنها نقاط دم تنقط مباشرة من جرح طري. فالمسافة هي أقرب ما تكون بين الإحساس والكتابة، بين الموقد ولهب القصيدة، حتى لكأنه لا وقت للتأمّل، ولا وقت لأخذ النَفَس بين الفعل والانفعال. "قصائد الركض وراء شيء واقف" مهتاجة متدفّقة متوترة، ولكنها في الوقت عينه، يائسة وسوداء. هي بالفعل "ركض وراء شيء واقف"، رحى طاحونة تطحن في الفراغ وتأكل حديدها، نهر متجمّد من منبعه الى مصبّه. في قصيدة "الشاهد" وتليها قصيدة "الإرث"، مرثية طويلة للذات والبلاد بأصوات بكائية كثيرة... نسمع أحياناً ما يشبه الحوار بين قبر وقبر، والأرض عارية وبلقع: "الأرضُ تعرى، فلا صوتٌ ولا خَبَرُ / إلا بقايا دمٍ ضاقت به الحُفَرُ / هل ندرك الغاية الكبرى فينصفنا / صمت القبور وهل يبقى لنا أثرُ؟". إنّ الشاهد، وهو شاهد على الفجيعة، موجود في كل مكان: في الماء، في البحر، في الصخر، في النار، ثم يراه حتى الشيخ الضرير، ويورث شهادته لأبنائه، كما ورثها عن آبائه وأجداده، حتى كأنّ اللعنة تلحقه من سلالاته القديمة: "سوف تتيه / سوف تتيه وتصبح ملك الضلالة / يصبح ماؤك جمرا / ودمعك خمرا / فهل تحتسيه؟ / إنها محنة المبتلى بأبيه". وهو شاهد قريب من الموت قربه من الشعر والفجيعة. "هو الموت أقرب منك إليك..."، ويخاطب في القصيدة ذاته: "تلمسْ طريقك في اللحظة المعتمة"، يخاطب ظلّه وموته "... ولكن ظلك ما زال موتاً/ وما زلت ظلك ما زلت أنت"، وينطوي في نشيجه الصحراوي الطويل، الذي يألفه بل يجمّله: "إنّ أجمل ما في الصحارى أنها فرصة للبكاء"... وفي هذا البكاء الطويل، المتدافع كموجات في صحراء شاسعة، يتحوّل البكاء الى إنشاد، أو غناء... فصيغة القصيدة صيغة غنائية، وجوهرها غنائي، لجهة الترجيع، والاستعادة، والإيقاعات المتتالية، بل إننا نلاحظ توغلاً تلقائياً في الغناء، فيضمّن الشاعر مقاطع غنائية في سياق غنائي... وهي أي هذه المقاطع ترد موزونة بكامل وزنها وقافيتها. يقول: "يا غربة الروحِ هل بعد الردى حَذَر \ وهل يغنّي المغنّي وهو يحتضر / دارت بي الأرض مصلوباً على حجرٍ /الماء لي وطنٌ والنار لي وَطَرُ". وفي هذا السيال الإنشادي، ثمة ما يشبه الحوار بين اليأس واللايأس، واستنطاق بريق غامض من الفرح في ظلمة دامسة: "سينبجس الماء /في جلمد الصخر / تورق أحلامنا في حجر... / لا تمت يا صديقي انتظاراً / فإنّ لنا موعدا... "وجهان وجهُكَ لا لا تلتفت أبدا / بعض التلفّت هذا الهمُّ والضَجَرُ /اركنْ الى الجمر أنّى صدّحت طرفٌ / واستنطق الوهم أنّى أورق الحَجَرُ". ونسأل: هل هو استنطاق الوهم كل ما يفعله ويكتبه علي الأمارة؟ هل الشعر قبض الريح واللاشيء، الذي لا ينفك الشعراء يفعلونه، بلا ملل، منذ بدء الخليقة حتى اليوم؟ هل الشاعر ملزم بالمحنة والتوهان؟ لا يظهر لنا مفرّ من هذه السيزيفية الضاغطة في قصائد الشاعر. "فالهوى محنةٌ والليالي اغتصاب" كما يقول، بل "الردى صاحب" كما يقول أيضاً... ولكنه لا يفتأ في ظلمته ويأسه يغنّي: "لا تسلب الحجر السكرانَ نشوته / غداً سيفصح عمّا يكتمُ الحَجَرُ / مُتْ قبل موتِكَ لا تترك لهم عبرا / أنت الأخير فماذا تنفع العِبَرُ؟ / ... / انزل رويداً ولا تحفلْ بما ذَكَروا / وارفق بذاكرة الأحجار يا مَطَرُ / لا تبتئس فوراء الغيب أغنية / على بداهتها التاريخ يختصر...". إنّ أبرز ما في هذه المجموعة الشعرية، المكتوبة على فترات متطاولة، قبل الحصار المحكم الحالي على العراق، والحرب السائرة إليه بطبولها وكوارثها الأكيدة، هو أنها استشرفت آفاق ما سيجيء، وقرأ الشاعر الآتي برؤية الرائي. هو يقول لذاته: "كن حجراً في جدار الجنون"، ويخاطب محمود البريكان، في قصيدة مهداة إليه بعنوان "الصعود الى قمة النهر" بقوله: "حدّد لي شكل الموت / ففي لجّة هذا الماءْ / يتغيّر شكل الأشياءْ...". والخطاب عينه، بصيغة أخرى، يوجهه الشاعر الى حسب الشيخ جعفر، إذ يقول في قصيدة مهداة إليه، بعنوان: "ارتحالات": "نرفع أشرعة الموتِ / في لجّة التيه". كما يقول مخاطباً الشاعر عقيل السيد، الشاعر المنسي: "نبحث عن عظم في ليل جائع نبحث عن ليلٍ في عظم ضائع...". ويكدّس يأسه، في قصيدة "الخيول": "رأيت ظلالاً لخيل/ ولكنني لم أر الخيل". "أبصر نعشي فوق ظهور الخيل"... "رمينا الحضارات في سلة الوهم"... لكنه، وإن كان هذا النص من قصيدة الإرث، مؤرخاً في العام 1988، ومكتوباً في بلدة العمارة، إلا أنه يوحي لنا براهنيّة عجيبة، وكأنه مكتوب لتوّه، في البصرة أو بغداد، اليوم بالذات، وقت الفجيعة العراقية الكبرى، والحصار العظيم، وخوف الموت الشامل، في حرب جائرة سائرة. "وعند اكتهال الطفولة / يسعى بنا قلق قاتل / باتجاه الحقيقة / يسعى بنا الميتون / المقابر تسعى / الحدائق تسعى ويسعى الحصار / فتبدو الملاذات أكذوبةً /والحياة شفا حفرةٍ وانتظارْ ...".