كان بدر شاكر السياب اصدر في العام 1955، مجموعة شعرية مترجمة، حملت عنوان "قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث" ضمت قصائد من عشرين شاعراً من مختلف بقاع العالم، ومنها قصيدة نسبها السياب الى الشاعر عزرا باوند، هي "رسالة من زوجة تاجر النهر". ولم يذكر السياب، في الملاحظات التي ذيل بها المجموعة شيئاً عن "اصل" القصيدة، سوى انه ترجمها شعراً. وفي تقدير الشاعر والناقد الفلسطيني المقيم في العراق منذ سنوات طويلة، خالد علي مصطفى، ان جميع من قرأوا القصيدة التي ترجمها السياب، ما زالوا على ظنهم ان القصيدة لباوند. يقول استاذ الأدب في الجامعة المستنصرية في بغداد: "رافقني هذا الظن، ايضاً، مدة طويلة، الى ان وقع في يدي كتاب باللغة الانكليزية، عنوانه "عزرا باوند: مختارات شعرية 1908 1959"، فوجدته يتضمن، في جملة ما يتضمن، طائفة من القصائد مندرجة تحت عنوان عام هو "كاثاي"" وقد مهد لها الشاعر الاميركي بملاحظة سريعة تشير الى ان هذه القصائد هي من الشعر الصيني. ثم وجدت ان القصيدة التي ترجمها السياب هي احدى قصائد "كاثاي"، وتحمل العنوان نفسه: "رسالة من زوجة تاجر النهر". ولما كان الجزء يدل على الكل، فلا بد من ان يكون السياب على علم بكل القصائد الصينية التي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، على قلتها، فهي لا تتجاوز الثماني عشرة قصيدة قصيرة" بل قصيرة جداً احياناً". هذا المدخل يسوقه مصطفى مبرراً السؤال: "هل تركت هذه القصائد الصينية، التي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، اثراً في شعر السياب؟". وفي بحثه "علامات الشعر الصيني في قصائد السياب" يقول الشاعر والناقد مصطفى: "تشيع في شعر السياب صور اقتران الماء بالحزن في صيغ متعددة"" كأن يقول في قصيدة "النهر والموت": "وتنضح الجرار اجراساً من المطر/ بلورها يذوب في انين/ بويب... يا بويب!/ فيدلهم في دمي حنين /اليك يا بويب،/يا نهري الحزين كالمطر". لا شك في ان المقطع المذكور، كبقية مقاطع القصيدة يدل على الماء، من ناحية، في حين يدل على مشاعر الحزن الكثيفة من ناحية أخرى، في صورة يكون الماء فيها هو الحزن مرة بويب.. يا بويب، وموصوفاً بالحزن مرة ثانية "يا نهري الحزين كالمطر". اما قصيدة "انشودة المطر"، فتكاد تكون جميع صورها كلها مستقاة من المفردات التي تدل على الطبيعة المائية التي يشيع فيها الحزن، على مختلف صور الطبيعة ودرجات الحزن فيها. ولعل المقطع الآتي اشهر مقاطع القصيدة في دلالة الماء المطر على الحزن لأن الاقتران فيه جاء مباشراً: اتعلمين أي حزن يبعث المطر؟/ وكيف تنشج المزاريب اذا انهمرْ؟/ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟/ بلا انتهاء كالدم المراق، كالجياع،/ كالحب، كالاطفال، كالموتى هو المطر". يؤكد الناقد ان هدفه هو التنبيه إلى ان الاقتران بين الحزن والمطر "قد يكون اثراً من الآثار التي تركتها فيه قصائد "كاثاي" الصينية، والتي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، والدلالة ما ترجمه السياب منها الى العربية"، لافتاً في مقالة نشرها في بغداد أخيراً تحت عنوان "السياب والشعر الصيني" الى ان في القصائد الصينية يشيع اقتران الماء بالحزن، على نحو مباشر او غير مباشر، تعبيراً عن تجربة جماعية، كقصيدة "مرثية حارس الحدود"، او تجربة فردية كقصيدة "غيمة تو ام مي الساكنة". وجاء في احد مقاطع القصيدة الاولى: ربيع بهيج تحول الى خريف دموي مفترس/ صيحات المحاربين تعلو فوق المملكة الوسطى/ ثلاثمئة، وستة آلاف/ وحزن، حزن كالمطر/حزن يمضي، وحزن... حزن يعود/ حقول مهجورة مهجورة.. ويعتبر ان جملة "يا نهري الحزين، كالمطر" من قصيدة "النهر والموت" وجملة "أتعلمين أي حزن يبعث المطر" لدى السياب، تضربان على وتر القصيدة الصينية نفسه حين تقول: "وحزن، حزن كالمطر...". يلفت مصطفى الى عنصر "مشترك" بين السياب والشعر الصيني: "شيوع النغمة الرثائية في اكثر من قصيدة صينية، بما تتضمنه من صور الموت والخراب والحنين الى الاهل والوطن والاحساس بالضياع والعزلة من جهة" وشيوع رغبة الانغمار في الماء حتى الموت لدى السياب من جهة اخرى، وهما يفضيان كلاهما الى اقتران الماء بالحزن" حتى يصبح هذا الموضوع مركز استقطاب لدى كل منهما: تنبثق منهما ثم تصب فيهما صور القصيدتين الصينية والسيابية، مهما كانت درجة ارتفاع النبرة او خفوتها. ولعلنا لا نجد تعبيراً مكثفاً عن الحزن اشد من هذا التعبير في "النهر والموت": أغابة من الدموع انت؟ ام نهر؟ او هذا التعبير في القصيدة الصينية "مرثية حارس الحدود": اتعلم أي حزن موحش عند البوابة الشمالية؟ وهو التعبير الذي نجد حتى صداه التركيبي في بيت السياب "أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟". غير ان هذا التشابه لا يعني انهما الشعر الصيني والسيابي يتصلان اتصال مؤثر بمتأثر على هذا النحو التبسيطي. وهنا نعود والقول دائماً للشاعر والناقد الفلسطيني الى القصائد الصينية التي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، والتي قرأها السياب، ونقل واحدة منها الى العربية، لنجد قصيدة بعنوان "غيمة تو ام مي الساكنة" لشاعر اسمه تاو يوان منج 365 427م، استعمل فيها التكرارات الثنائية والثلاثية لمجموعة من الكلمات، منها كلمة "مطر" وما يندرج في حقلها الدلالي بحسب ترجمة باوند، طبعاً!. ويخيل الي ان هذه التكرارات المسترسلة في القصيدة الصينية هي التي ألقت بظلالها على "انشودة المطر". ويورد مصطفى نص القصيدة الصينية، لكي تتضح مواضع الالتقاء بينهما: تجمعت الغيوم وتجمعت/ والمطر يهطل ويهطل/ طبقات السموات الثماني/ تلتف في ظلمة واحدة،/ والطريق الطويل المنبسط يمتد/ وقفت في غرفتي شطر الشرق، هادئاً هادئاً/ امسد دن خمري/ اصدقائي عزلوا عنى، او ارتحلوا بعيداً/ اطرق رأسي، وأظل واقفاً/ مطر... مطر... والغيوم تجمعت/ طبقات السماء الثماني مظلمة/ والارض المستوية تحولت الى نهر... أياً كان الاختلاف بين هذه القصيدة و"انشودة المطر" وهو اختلاف جوهري ناشئ من ان القصيدة الصينية غنائية، ذات انطباعات حسية متقطعة، والقصيدة السيابية غنائية ذات ملمح موضوعي، الا انهما "تقومان على مهاد واحد، وأجواء تكاد تكون واحدة، حتى يمكن ان نعد بعض الصور قاسماً مشتركاً بينهما. فعندما يقول الشاعر الصيني: "تجمعت الغيوم وتجمعت/ والمطر يهطل ويهطل.../ مطر، مطر والغيوم تجمعت..."، يقول السياب: "كأن اقواس السماء تشرب الغيوم/ وقطرة فقطرة تذوب في المطر"، او: "تثاءب المساء والغيوم لا تزال/ تسح ما تسح من دموعها الثقال"، او في النهاية: "ويهطل المطر...".