سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
صندوق النقد الدولي يملي شروطه ... وحكومة أردوغان تقبل التحدي . تركيا تلجأ الى التقشف لانعاش اقتصادها المتداعي وتأمل الحصول على حصة من عقود إعمار العراق
منذ أول الشهر الجاري، حينما رفض البرلمان التركي منح القوات الأميركية الاذن بارسال 62 ألف جندي لمهاجمة العراق، مقابل صفقة مساعدات مالية تصل الى 30 بليون دولار، خسرت الليرة التركية أكثر من 12 في المئة من قيمتها، في وقت تشهد الأسواق المحلية تراجعاً يكاد يقارب النسبة نفسها. وتجد حكومة "حزب العدالة والتنمية"، بزعامة رجب طيب اردوغان ازمة اقتصادية مستعصية تهدد بنسف كل وعودها الانتخابية، من جراء تداعيات الحرب على العراق. وبدا لافتاً ان أردوغان، الذي خاض حملته الانتخابية تحت شعار اعتماد سياسة اجتماعية أكثر نشاطاً، لم يجد في أول خطاب متلفز القاه مساء الاحد الماضي، عقب حصول حكومته على الثقة، شيئاً يعلنه باستثناء عزمه على تطبيق حزمة الاصلاحات الاقتصادية التي اشترطها صندوق النقد الدولي. تحت عنوان التقشف، تستعد الحكومة التركية لطرح اجراءات اقتصادية تتميز بكونها ذات بعد اجتماعي متشدد، تخوفاً من التأثيرات السالبة التي ستتركها الحرب في العراق على تركيا واقتصادها المتهالك. وأربكت المعارضة السياسية الواسعة داخل البلاد، والتي وصلت نسبتها الى 90 في المئة من الأتراك ممن يرفضون دعم الولاياتالمتحدة في حربها على العراق، زعماء "حزب العدالة والتنمية" الحاكم، وقلصت هامش المناورة الضيق المتاح امامهم للتفاهم مع الولاياتالمتحدة على حزمة المساعدات المالية التي وعدت بها واشنطن مقابل سماح تركيا بدخول 62 ألفاً من جنودها الى شمال العراق، وكان من شأنها أن تسهم في تحسين الملاءة المالية لتركيا الرازحة تحت عبء خدمة ديون تصل الى 94 بليون دولار. وفي ظل أجواء الارتباك السياسي السائدة والضغوط الأميركية المتواصلة التي مارستها واشنطن ووافقت تركيا في نهاية المطاف على عبور الطائرات الاميركية اجواءها في تنازل مجاني أثار حفيظة الرأي العام، كتب المعلق السياسي براك لكويل امس يقول: "حينما حل الوقت الذي أحنت الحكومة رأسها لضغوط الولاياتالمتحدة للسماح لها باستخدام الأجواء التركية، كان الاوان فات لتحصل البلاد على ستة بلايين دولار في صورة منح أميركية ونحو 24 بليون دولار في صورة ضمانات قروض. ولو قيض للأتراك ان يسألوا زعيمهم رجب طيب اردوغان الآن لقالوا له: اذا كنت ستساعد الولاياتالمتحدة في نهاية المطاف على شن حرب غير مشروعة، فلم لم تفعل ذلك في الوقت المناسب، وعلى الأقل مع بعض التعويضات في المقابل؟". وتناقش الحكومة منذ الاثنين الماضي مع البرلمان مشروع موازنة 2003، الذي يتميز بجملة اجراءات متشددة، تنسجم مع الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي للاستمرار في دعم الاقتصاد التركي، وعلى أمل أن يقرها البرلمان قبل الأول من الشهر المقبل. خدمة الدين وأعلنت الحكومة بوضوح أنها تنوي فرض سلسلة من التدابير الهادفة الى تعويض تأثيرات الحرب على العراق. وقال جميل شيشك وزير العدل ان "كل الاجراءات اللازمة ستُتخذ من أجل تلبية النفقات الاضافية التي قد تتأتى عن الحرب"، مشيراً الى أن "الحكومة ستواصل اتباع سياسة ادارة مالية حازمة في الشهور المقبلة، على ألا يمس ذلك دفع الرواتب والانفاق الدفاعي وخدمة الدين". وكانت الحكومة السابقة برئاسة عبدالله غل كشفت الشهر الماضي النقاب عن اجراءات هدفها توليد دخل اضافي يعادل عشرة بلايين دولار، من أجل الالتزام بالهدف الذي حدده صندوق النقد الدولي القاضي بتحقيق نمو مقداره 6.5 في المئة في اجمالي الناتج القومي للبلاد. وتشمل اجراءات التقشف الاقتصادي الاخرى تجميد الانفاق الحكومي لتوفير قرابة اربعة تريليونات ليرة تركية ما يعادل 2.5 بليون دولار، وهي نسبة تتجاوز بقليل نسبة واحد في المئة من اجمالي الدخل القومي لتركيا البالغ 204 بلايين دولار. وكان اردوغان، الذي ناور حزبه كثيراً في الأسابيع الماضية لتخفيف شدة الاجراءات التي يفرضها صندوق النقد الدولي، أسبل يديه مذعناً بعدما اختفت ورقة المساعدات الأميركية التي كان من شأنها أن تنعش الاقتصاد التركي. ولم يُشر في خطاب التنصيب الى "أي خرق لبرنامج صندوق النقد الدولي، بسبب الظروف الصعبة أو أي اعذار أخرى، لن يكون مسموحاً به". وكان صندوق النقد الدولي جمّد في تشرين الأول اكتوبر الماضي شريحة قرض مقدارها 1.6 بليون دولار، بعدما اخفقت الحكومة التركية آنذاك في الالتزام بالبرنامج الاقتصادي الذي وضعه لها الصندوق، في اطار صفقة قرض كبيرة مقدارها 16 بليون دولار. وقالت مصادر الصندوق ان إقرار الاجراءات الجديدة أمر يلقى الترحيب. وأشارت الى ان مجلس مديري الصندوق سيجتمع منتصف الشهر المقبل للبحث في ملف القرض التركي، والشروع في برنامج مساعدات جديدة. ويثير برنامج الصندوق معارضة كبيرة في أوساط رجال الأعمال، الى حد أن هيئات الأعمال سارعت، منذ موافقة البرلمان الجمعة الماضي على فتح ممرين جويين للقوات الأميركية الى الطلب من الحكومة اعادة النظر في البرنامج وصرف النظر عنه، وهو ما رفضه اردوغان قطعاً. اجراءات غير شعبية وتواجه الحكومة جملة خيارات اجتماعية صعبة، للالتزام ببرنامج الاصلاحات اذ عليها ان تسرّح عشرات آلاف الموظفين الحكوميين قبل نهاية السنة، كما انها أعلنت الغاء العفو الضريبي الذي كانت أوساط الأعمال تعد نفسها به، لا سيما تخفيف شروط سداد مستحقات العمال الاجتماعية التي يتعين على أرباب العمل الوفاء بها. وجرى تعديل النظام الضريبي في صورة تتماشى مع مطالب صندوق النقد، اذ تم تغيير معدلات استيفاء ضريبة الدخل، من المنشأ مباشرة، لترتفع الى 20 في المئة لأصحاب الدخول الدنيا، ولتصل الى 45 في المئة لدى أصحاب الدخول المرتفعة، في حين أبقيت المعدلات 15-40 في المئة للفئتين، للعاملين في القطاع الحكومي. وألغي أيضاً نظام تسهيلات سابق كان يقضي بدفع ضرائب الشركات على ثلاث دفعات في نيسان وتموز يوليو وتشرين الأول، وألزمت الشركات بسداد ضرائبها مرة واحدة في الأول من نيسان ابريل، في مسعى لزيادة السيولة المتاحة للخزانة. وقدمت حوافز، اشترطها صندوق النقد، لتشجيع قيام صناديق تقاعد خاصة وحفز سوق السندات المالية. وتشمل هذه الحوافز منح اعفاءات مالية للمشتركين في هذه الصناديق، ضمن فئات مختلفة، تصل الى 25 في المئة من الدخل الذي يسدده الفرد لصندوق التقاعد الخاص. أفق صعب ولعل اكثر ما يثير مخاوف العاملين في القطاع الاقتصادي هو تراجع حركة الاستثمارات الاجنبية الوافدة، في وقت يؤدي ارتفاع نسبة المخاطر الى زيادة في حجم علاوة الاقتراض، والى ارتفاع تلقائي في كلفة خدمة الدين التركي. ومن شأن اي مخاطر مرتبطة بهذا القدر الهائل من الدين ان تضعف عادة اقبال المستثمرين الاجانب والمحليين على توظيفاتهم المالية في اي سوق مماثلة في العالم. ويقول احد المعلقين الاقتصاديين: "الحكومة خسرت صدقيتها السياسية بسبب تراجعها عن وعودها الانتخابية السابقة، وهذا يعني صعوبة حملها السكان على الالتفاف على اي سياسات تقشف قد تقوم بها. وفي ظل انعدام الاستقرار الذي تحمله الحرب في المنطقة، وانعكاسات اسعار النفط والتأثير المتوقع لتراجع العوائد السياحية والنفور العالمي من تحمل مزيد من المخاطر التي تواجه الاستثمارات، فان الوضع الذي ينتظر الاقتصاد التركي يبدو مظلماً او غير مريح على أقل تقدير. وفي ضوء هذا الوضع المثير للتشاؤم يتوقع المحللون ان يؤدي ارتفاع حدة المخاطر الى زيادة كلفة الاقتراض التركي ومضاعفة الاعباء الملقاة على عاتق الخزينة للوفاء بالتزاماتها المالية مع احتمال تقليص مدة استيفاء السندات وخفضها الى اقل من 12 شهراً في كل التعاقدات المستقبلية. ومن شأن هذه الضغوط الاضافية ان تزيد درجة انكشاف المالية العامة، مع ما قد يعنيه ذلك من اثارة المخاوف لدى المستثمرين من احتمال عجز تركيا عن سداد الديون. ويفسر هذا الوضع العبء الى حد بعيد تمسك "حزب العدالة والتنمية" البالغ بتطبيق برنامج صندوق النقد الدولي الذي كان يعارضه من قبل. والسبب في هذا التحول هو ادراك مسؤولي الحزب ان بقاء حزبهم في السلطة خصوصاً في الساحة السياسية يشترط تطبيق البرنامج لا سيما ان سياسة الحزب الحاكم الاجتماعية وتجربته السياسية ككل باتتا رهينة عوامل اقتصادية لا قدرة للحزب على التحكم بها، باستثناء ما يمكن ان يتم تقديمه عبر اصلاحات صندوق النقد. وفي هذا الاطار وعدت الحكومة بالمضي قدماً في برنامج التخصيص الذي سيشمل بيع مؤسسات القطاع العام، بما في ذلك مؤسسات "تيكيل" على رغم ان ظروف السوق قد لا تكون مؤاتية للمضي قدماً في عملية البيع وتحصيل قيمة سوقية مناسبة للاصول المباعة. وتريد حكومة اردوغان تأكيد التزامها وايمانها بقوانين السوق مهما كانت الكلفة الاجتماعية للاجراءات المطبّقة. عقود الاعمار ولعل بصيص الامل الوحيد الذي يلمع في الافق، هو مرحلة ما بعد الحرب في العراق، التي ينتظر ان تشهد ورشة اعادة تعمير واسعة النطاق تخصص لها مبالغ ستتجاوز 100 بليون دولار. وهذه الاموال ستكون لتركيا حصة منها، اضافة الى ضمان حصولها على الطاقة باسعار ارخص من كركوك، من دون الحديث عن استئناف حركة التجارة مع العراق الذي كانت تركيا على الدوام شريكه الاقتصادي الرئيسي واول مستفيد من المبادلات التجارية معه. كما ان احداً من المراقبين لا يدانيه شك بان تركيا ستبقى صديقة الولاياتالمتحدة، وهي لن تعدم الفرصة للحصول على دعم واشنطن مستقبلاً، مهما كانت صعوباتها المالية البالغة الخطورة، خصوصاً انها تمثل حالة سياسية مهمة تريد فيها واشنطن الترويج لتعايش ممكن بين العسكر الغربيين والاسلاميين الاصلاحيين.