في صباح الأول من كانون الثاني يناير 2001، بعد زيارة عائلية قصيرة الى رام الله، رجعت الى القدس من الطرق السرية الموحلة التي تتفادى الحصار الأمني المضروب على المدينة المحاصرة، وتتجنب مخيم لاجئي كالانديا المجاور. ولم أجد مكاناً أفضل لقضاء بداية العام من أن أكون مع أخي الوحيد الحبيب عزمي بشارة. وشعر أخي هذا اليوم، بصفته عضواً في الكنيست، بالحاجة الى رفع صوت فلسطيني عالٍ للعدالة في قلب البرلمان الإسرائيلي. فألقى خطبة عن مبادئ العدالة العالمية أمام محتلي شعبه وكنت أنا أراقبه آنذاك. ولأنه محاصر سياسياً هز صوت عزمي الأخلاقي وخطابه الفكري جدران معبد الصهيونية. ولكنه وقع على آذان كأن بها صمم. وفي اليوم نفسه، وجه الكنيست ضربة أخرى الى السلام عندما كان الجيش الإسرائيلي يقصف ما تبقى من أمل قليل في الضفة الغربيةوغزة،. وبدأ الكنيست العام الجديد بقرارين جديدين يمثلان نقطة تحول جوهرية، وحازا على أصوات أعضاء الكنيست من اليهود. وعارض القرار الأول حق الفلسطينيين في العودة، بينما أجاز القرار الثاني خصخصة أراضي "الدولة" التي تعود، قانونياً، الى 3.7 مليون لاجئ فلسطيني ما زالوا هائمين على وجوههم في الأراضي المحتلة والبلدان المجاورة. ورفض الكنيست والحكومة مراراً حقهم في العودة، وهو الحق الأصيل. وحث المتحدث بعد الآخر، من أحزاب اليمين والوسط، الحكومة على اتخاذ المزيد من الخطوات لمكافحة العنف الفلسطيني. وشجعوها على تصعيد ارهابها الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، بما في ذلك اغتيال القادة السياسيين، ولا يمكن وصف تلك الأعمال إلا بأنها ارهاب ترعاه الدولة. وجبه عنف الفلسطينيين "بالمفرق"، من القاء الحجارة أو اطلاق النيران بصورة متفرقة، باستخدام الأسلحة الثقيلة "بالجملة"، من دبابات ومروحيات وقذف مدفعي للمدن والقرى، بهدف قمع الاحتجاج ضد الاحتلال والقهر. ولكن مثابرة الشباب الفلسطيني، في كل من الضفة الغربيةوغزة، وفي اسرائيل نفسها، نجحت في كشف النقاب عن حقيقة الاستعمار الاسرائيلي، وأوضحت ان اسرائيل لا يمكنها مواصلة ادعاء الديموقراطية بينما هي قوة استعمارية، كذلك أوضحت أنه لا يمكن "للأبارتايد" التمييز العنصري أن يغني عن السلام في فلسطين. مصالحة... واحتلال لقد أجبرت "عملية أوسلو" الفلسطينيين على التصالح مع محتليهم، بينما استمر الاحتلال. وقبلت منظمة التحرير الفلسطينية بذلك في أوسلو. ووقَّعت منذ ذلك الحين سبع اتفاقيات مرحلية. وهو ما يؤكد على نواياها السلمية في التعايش جنباً الى جنب مع الدولة الاسرائيلية. وبذلت السلطة الفلسطينية جهوداً كبيرة من أجل اخضاع حركة "حماس"، عقب موجات الهجمات الانتحارية في 1995 - 1996، تلك الهجمات التي جاءت رداً على مذبحة الخليل التي قتل فيها 29 مصلياً فلسطينياً على يد أحد المتطرفين الاسرائيليين. ووفقاً للتقارير الاسرائيلية "تم القضاء تقريباً على ذراع حماس العسكرية بالكامل، إذ تم اعتقال المتطرفين الإسلاميين واضعاف البنية التنظيمية التحتية للحركات الإسلامية". على يد السلطة الفلسطينية. وبدلاً من تسليم الأراضي المحتلةللفلسطينيين، صعدت اسرائيل من تحكمها غير الشرعي في الضفة الغربية من طريق تطويق السكان الفلسطينيين بشبكة من المستوطنات تعززها طرق مباشرة تقطع الأراضي التي تمت مصادرتها أخيراً من الاتجاهات كلها. وبعد مرور سبع سنوات، لم تسلم اسرائيل سوى 18 في المئة من الضفة الغربية. وإنه لمن سخرية القدر ان تشرع اسرائيل في اقامة نظام جديد للفصل العنصري في فلسطين، بتوقيع اتفاقية "غزة أريحا أولاً"، في الأسبوع الذي تم فيه الغاء نظام "الأبارتايد" في جنوب أفريقي في أوائل أيار/ مايو 1994. وعلى عكس ما حدث في جنوب أفريقيا حيث توقفت أساليب الفصل العنصري المشؤومة وتوقف استيلاء البيض على الأراضي فور بدء المفاوضات، زادت الأعمال العنصرية في فلسطين مع بدء المفاوضات. وتبدو المفارقة صارخة عند مقارنة حكومة دي كليرك البيضاء، التي امتنعت عن الاستيلاء على الأراضي في أثناء ثلاث سنوات من المفاوضات مع حزب مانديلا المؤتمر الوطني الأفريقي، بالحكومة الاسرائيلية تحت قيادة اسحق رابين، فهذا سمح ببناء المستوطنات في الضفة الغربية ومناطق أخرى وكأنه لم يتم التوقيع على اتفاقيات أوسلو. وطردت حكومة "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا السود من مزارعهم، وأجبرتهم على السكنى في ما سمته "الأوطان" ومنحت البيض أراضيهم. وطبقت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة من حزب العمل، أو الليكود، سياسات التطهير العرقي في أراضي فلسطين التاريخية، ثم قام الكنيست بتقنين نظام مصادرة الأراضي والتطهير العرقي والعنصرية و"الأبارتايد". وفي السبع سنوات الطويلة من عملية السلام، كان هناك قانونان في فلسطين، أحدهما لليهود والآخر للفلسطينيين. وتم بموجبهما منح الإسرائيليين حرية الحركة وبناء المستوطنات وتوسيعها، بينما حشر الفلسطينيون حشراً في "بانتوستانات" مطوقة. فالإسرائيليون يصادرون المزيد من الأراضي بينما تتضاءل فرصة الفلسطينيين في الحصول على أراضٍ. وغني عن القول ان اسرائيل قد طبقت سياسة فصل صارمة بين المستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة، وهؤلاء يتمتعون بحماية القانون الإسرائيلي، وبين الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل مؤسسات قانونية وأمنية فلسطينية لا يمكن وصفها إلا بأنها مخزية. ومثلما كانت الحال في جنوب أفريقيا عندما كان رؤساء "الأوطان" التي جمع فيها السود يمنحون ألقاباً سيادية لا يتمتعون بها، كانت اسرائيل تعطي السلطة الفلسطينية بعض المتنفس في ما يتعلق بإمارات السيادة من دون ممارستها. وكما كانت جنوب أفريقيا تهيمن على "الأوطان" التي جمع فيها السود وتتحكم فيها، احتفظت اسرائيل بالسلطة النهائية والسيطرة والسيادة على جيوب الحكم الذاتي. وتحكمت اسرائيل في الأراضي والمياه والموارد الطبيعية وحركة الأفراد في الضفة الغربيةوغزة، وفي حركة السلع الى داخل "البانتستونات" الفلسطينية والى خارجها. وكما كانت الحال في جنوب أفريقيا، سمح بانتقال العمال فقط عندما أصر مجتمع رجال الأعمال الإسرائيلي عليها. واستمر التفاوت بين الاسرائيليين اليهود والفلسطينيين في ما يتعلق بمستويات المعيشة، وامكانات الحصول على تعليم مناسب وخدمات صحية وفرص العمل في أثناء عملية أوسلو، بل تفاقمت في معظم الأحيان. وتضاءلت عمالة الفلسطينيين في اسرائيل ووصلت نسبة البطالة بين الفلسطينيين في غزة الى 40 في المئة، وتدنت مستويات المعيشة بنسبة 25 في المئة. والأمر بالنسبة للإسرائيليين، لم يكن مجرد مصالح مادية. فمثل "أفريكانار" البيض أثبت الاسرائيليون في كثير من النواحي أنهم "سجناء عقلية المحاصر بصورة ميؤوس منها". من ضعف السلام... الى الانتفاضة وبعد سبع سنوات، طالب الفلسطينيون، كغيرهم من الشعوب المحتلة، بأن يقوم السلام على إنهاء الاحتلال والغاء نظام "الأبارتايد". ورفضوا اتفاقية إطارية نهائية، وضعت على غرار اتفاقية أوسلو المبهمة والمتداعية. وهكذا اندلعت الانتفاضة الثانية. ولكي نفهم الضعف المتأصل في عملية السلام علينا ان نبدأ من البداية. اننا نحتاج الى قراءتين موجزتين لاتفاقيات "إعلان مبادئ أوسلو": إحداهما نصية والأخرى سياسية. فالاتفاقات غامضة، وفضفاضة، ومفتوحة للتأويل. ولكنها تنص بوضوح على ضرورة حل جميع المنازعات من خلال "لجنة اتصال مشتركة" تتمتع فيها اسرائيل بحق النقض الفيتو، ومن ثم بالقدرة على الحفاظ على الوضع الراهن أي الاحتلال. والمثير للغرابة هو أن تختفي كلمة "احتلال"، وهي الوصف الدقيق والشرعي لوجود اسرائيل غير الشرعي داخل الأراضي الفلسطينية طوال سبعة وعشرين عاماً، من النص كله. وعلى رغم أن قرار مجلس الأمن 242 اعتبر أساس المفاوضات، لم يرد في نصوص الاتفاقية ما يدل على الاعتراف بالاحتلال. كذلك، لم تناقش هذه الاتفاقات على الإطلاق قضية المستوطنات غير الشرعية، وهي القضية التي تم تأجيلها الى جانب القضايا الأخرى الشائكة والمحورية في الصراع، مثل قضية احتلال القدس، وحق اللاجئين في العودة، وحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وبعد مرور سبع سنوات، رفضت اسرائيل في النهاية كل هذه القضايا. وتظهر القراءة السياسية للوثيقة مشكلات أكبر بكثير. وأهم هذه المشكلات استمرار السيطرة الاسرائيلية الشاملة على جميع الأراضي. واختارت الولاياتالمتحدة، وهي الراعي الوحيد الذي يمكنه التدخل في حال انتهاك اسرائيل الاتفاقيات المبرمة، أن تلتزم الصمت. واستمرت في تأكيد تحالفها مع اسرائيل، بينما تزعم في الوقت نفسه انها وسيط نزيه. وبدأت اسرائيل منذ اليوم الأول انتهاك الاتفاقات بتقويض وحدة الأراضي وسلامتها، بإقامة المزيد من المستوطنات، وجلب المزيد من المستوطنين، واقامة المزيد من الطرق الجانبية لربط المستوطنات بعضها ببعض. وأدى ذلك الى تعريض العملية بأكملها للخطر. وحدث الشيء نفسه في القدسالشرقيةالمحتلة. ولكن الوسيط غير النزيه - أي الولاياتالمتحدة - قام بالتستر على حليفته اسرائيل. وبعد توقيع "اعلان مبادئ أوسلو" بوقت قصير، تم تمييع سياسي للاتفاقات. واستطاعت اسرائيل استغلال كون هذه الاتفاقات إطاراً عديم الجدوى، يتطلب كل بند فيه اتفاقية أخرى وتأويلات متناقضة. وبدأ الجيش الاسرائيلي، برئاسة رئيس الأركان باراك، والجنرال عوزي دايان، عسكرة الاتفاقات الموقتة لضمان السيطرة القصوى. وكان هذا هو المبدأ الضمني في الاتفاقية الموقتة التي تستهدف، الى جانب عدد من الأمور الخطرة، تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة الى ثلاث مناطق أ، ب، ج بدلاً من منطقتين فقط. ثم أصبحت الاتفاقات رهينة أية حادثة صغيرة تستخدم مبرراً لوقف تنفيذها، في الوقت الذي تؤجل فيه اسرائيل عملية تسليم الأراضي للفلسطينيين وتعقدها. ومنحت الاتفاقيات اسرائيل حق "الفيتو" على الترتيبات السياسية والاقتصادية. وأصبح أي اجراء فلسطيني كبير، مثل تحديد عدد أعضاء المجلس التشريعي وتحديد ضريبة المبيعات، مرهوناً بموافقة اسرائيل. وأكد تعيين جهاز المخابرات الأميركية كحكم بين الطرفين، أهمية الأمن في ما يتعلق بالترتيبات السياسية القصيرة الأجل، بدلاً من الاستقرار الطويل الأجل. وفي غضون العملية تم بناء 62 قاعدة عسكرية جديدة في الأراضي المحتلفة، بتمويل أميركي. وجعل الأمر هذا الاتصال الجغرافي وحرية التنقل تالياً أمراً مستحيلاً. ملهاة كامب ديفيد وعندما أنهى باراك عامه الأول في الحكم كانت ظروف البلاد تزداد سوءاً، وكان ائتلافه يعاني من الانهيار. قال سبعة وسبعون في المئة من الإسرائيليين ان وضعهم لم يتحسن، منذ تولي باراك السلطة. وفي الوقت نفسه انهار الائتلاف الذي نشأ عن فوز باراك الساحق في الانتخابات. وهددت اسرائيل أنها، في حال اعلان الدولة من جانب واحد، ستنتقم بضم المزيد من الأراضي، واستخدام عنف أشد. ورفض باراك تنفيذ اجزاء اضافية من الاتفاقات، بينما اهتم كل من كلينتون وزوجته هيلاري، المرشحة حينذاك الى عضوية مجلس الشيوخ لولاية نيويورك، ونائبه آل غور، المرشح للرئاسة، بتحقيق "انتصار" ديبلوماسي آخر في الشرق الأوسط. وفجأة أيد "تجمع" النجوم الديبلوماسية عقد قمة. وعقدت قمة كامب دايفيد. وكانت هذه أكثر المراحل تضليلاً في عملية السلام بأسرها. ذهب باراك الى كامب دايفيد ليجبر الفلسطينيين على قبول انذاره، وقبول اتفاقية تبرم لصالح اسرائيل، وليظهر للإسرائيليين والرأي العام العالمي ان القيادة الفلسطينية ليست مستعدة للسلام. وفي كامب دايفيد وجد باراك السند في الرئيس كلينتون والجماعات الصهيونية. ولم تكن ثمة أرضية قانونية للتفاوض. فلم يكن بالمتناول سوى "النوايا الحسنة" لأميركا، وهي في حقيقتها عبارة عن مراوغات، وتحرك اسرائيلي مضلل يتعبه تحرك مضلل آخر. وكان على الفلسطينيين أن يقبلوا "مقترحات التقارب الأميركية" المجحفة، وهي نفس المقترحات التي قدمها الاسرائيليون أنفسهم عبر القنوات الخلفية. ولكن القيادة الفلسطينية كانت رفضتها. وفي كل مرة كان الفلسطينيون يرفضونها كان الأميركيون يقدمونها اليهم مرة أخرى، في حزمة أخرى. ولكن جوهرها ظل كما هو. فتوقع الأميركيون ان يقبل الفلسطينيون عودة أجزاء من الضفة الغربية، وليس الضفة بأكملها وهي تمثل 22 في المئة من فلسطين التاريخية، وتحتفظ اسرائيل بالسيطرة الأمنية على المعابر الدولية. وكان على الفلسطينيين أن يقبلوا مقترحات اسرائيل في شأن 7.3 مليون لاجئ. وشملت المقترحات تقديم التعويضات، أو توطين اللاجئين في البلاد التي لجأوا اليها، أو الهجرة الى الغرب. ولم يكفل حق العودة إلا لبضعة آلاف من اللاجئين، وهم عموماً من كبار السن. وفي النهاية مُنح الفلسطينيون "السلطة الوظيفة"، "لدولة فلسطين" في منطقة القدس العربية الشرقية، ومنحوا الرقابة على المسجد الأقصى. وحاول كلينتون الضغط على عرفات، فأنذره نيابة عن اسرائيل. وينص الانذار على الاعتراف بدولة صغيرة في مقابل التنازل عن القدس، وعن عودة اللاجئين. وهي صفقة يمكن ان تدعمها معونة يتم ترتيبها في أثناء انعقاد قمة مجموعة السبع دول الصناعية الكبرى في أوكيناوا في آخر أسبوع من شهر تموز يوليو. اقترحت الخطة الأميركية تأجيل قضية القدس لعدة سنوات أخرى، إذا كان هذا يجعل من التوقيع أمراً ممكناً. رفض عرفات "العرض" الأميركي - الإسرائيلي. فوجه اليه اللوم لرفضه لقاء باراك في "منتصف الطريق". وكان الفلسطينيون من جانبهم يؤمنون بأن الشرعية الدولية هي أساس المفاوضات، وليس "مفاصلة البائع والشاري". وحين أزفت لحظة الصدق في كامب دايفيد، سلمت اسرائيل خطوطها الحمراء الأربعة: لا عودة الى حدود 67، لا هدم للمستوطنات، لا تسليم للقدس ولا سيادة فلسطينية، ونطق باراك ب"اللاءات الاسرائيلية". ولكنه كان يعكس آفاق التفكير السياسي "للدولة اليهودية". إذ هناك اجماع قومي عام على بقاء السيطرة، والسماح باستقلال فلسطين فقط في اطار علاقة التبعية الفلسطينية تجاه اسرائيل. وبعد كامب دايفيد، وصف باراك الخطة الديبلوماسية لحكومته بأنها خطة "ناجحة". وذهب رئيس الوزراء الى كامب دايفيد ليس لحماية "عملية السلام" بل لحماية نفسه. وكانت النتيجة ان احتفظت اسرائيل بالأراضي، وحظيت بتأييد المجتمع الدولي. ونجح باراك في العمل على توسيع حرية المناورة، ووضع خصمه في مأزق. لقد نجحت استراتيجية باراك العسكرية بينما فشلت العملية السياسية واندلعت الانتفاضة. * باحث فلسطيني.