كان يبدو مستعصياً على الحب عبر عامه الثلاثين ولم يتزوج ولم يقع في الحب، وكنا اذا سألناه: لماذا لا تتزوج..؟ لم يكن يجيب إلا بابتسامة ساخرة.. والححنا عليه في السؤال فقال بكبرياء: لم أجد امرأة تستحق أن ارتبط بها.. ومرت الأيام.. وعبر صاحبنا عامه الاربعين وهو على الحال نفسها، وعاودنا الاقتراب منه وحدثناه في الموضوع نفسه، وكان جوابه انه لم يجد من تصلح لتشاركه حياته... وأدركنا ان الغرور قد تمكن منه فأصبح لا يرى في الدنيا كلها من تصلح له.. وتركنا هذا الموضوع ولم نعد نتحدث فيه. كانت ردود فعلنا قاسية عليه فينا من اتهمه بالغرور.. وفينا من اتهمه بالجبن وعدم القدرة على الحياة مع شريك آخر. وقال أحد اصدقائنا عنه، وكان قد ظل صامتا طيلة الوقت: لماذا تشغلون عقولكم بمشكلته.. إن هذا الصنف من الرجال لا بد من أن يقع في شر أعماله.. ونهايته أن يقع فلا يسمي عليه أحد وكان هذا الصديق كأنما يقرأ المستقبل. جاءنا صاحبنا يوماً وهو ممتقع الوجه وفي عينيه شعاع غريب.. وجلس صامتا ولم تكن عادته أن يصمت في مجلس هو فيه النجم الاوحد سألناه: ماذا حدث؟ قال بصوت خافت: لقد وقعت في الحب.. قلنا له: حدثنا بالتفصيل الممل ولا تترك أدق الأشياء.. قال صاحبنا: بعد ثوان من رؤيتي لها خامرني شعور غريب، احسست بأنني اوشك على اكتشاف مدهش، كنت اشبه اثريا ظل يحفر سنوات طويلة حتى عثر اخيراً على الباب الذي يؤدي الى الكنز.. ووقف الاثري امام الباب وهو يرتعش انفعالاً.. ووقفت انا أمامها لا اعرف ماذا اقول لها. وكانت هذه هي البداية.. سألناه: ما شكلها؟ قال: لا اذكر وجها له ملامح واضحة، انما أحس بهالة من النور الابيض. سألناه: ماذا كانت ترتدي؟ قال: لم ألاحظ. وسأله واحد فينا: كم عمرها؟ قال صاحبنا: اظنها في العشرين او الواحد والعشرين. ضحكنا جميعاً فلم يعرف لماذا نضحك، وسألنا فتوقفنا عن الضحك، كنا نظن الأمر ملهاة فاذا هو مأساة. وعاد صاحبنا يتحدث عن حبه فقال: - ان كل حياتي تتغير.. صار ما يفتقر الى المعنى يحمل في ذاته معاني جديدة، حتى الارصفة المكسورة والشوارع الخربة اصبحت مقبولة ومبررة الوجود بعد وجودها.. لم أعد ضيق الصدر، لم أعد ضجراً، لم أعد عصبياً، لم تعد عيناي تلتقط صور البؤس والحزن والقبح، اصبحت أرى الجمال في كل شيء.. كان يتكلم بصدق، وكان يبدو عليه التحول والانشغال.. وسأله واحد منا: أين رأيتها.. قال: في النادي.. تعرفت اليها في النادي. قلنا له: لاحظ ان قصص الحب في النوادي تشبه سحابات الصيف، لا تلبث ان تنقشع. قال: لا لا... ليست هذه مثل أي فتاة اخرى.. انها ملك كريم. كان واضحاً ان صاحبنا متيم بها، كان السؤال الذي يحيرنا هو التالي: ما الذي يريده منها؟ انها في العشرين وهو في الخمسين او يتهيأ لدخولها.. هل يطمع في زواجها؟ ان الفارق بين عمريهما كبير.. ولكن السؤال يبقى قائماً: هل يقبل اهلها تزويجه منها؟ خجلنا ان نكلمه في هذا، ولكننا بعد ان غادرنا ومشى فتح احد اصدقائه الموضوع وقال: يجب أن نتدخل لحمايته من نفسه.. سيصدمه رفض أهلها وستكون هذه مأساة بالنسبة إليه. انقسمنا الى قسمين: قسم يرى استبعادنا من الصورة لأن الموضوع شخصي بحت ولا يجب التدخل فيه، وقسم يرى اننا - بوصفنا اصدقاء - يجب أن نتدخل بشكل يجنبه البهدلة.. ولم نتفق على رأي واحد.. ومضت الايام ثم فوجئنا بظهوره.. جلسنا صامتين ولم نفاتحه في شيء.. وتحدث هو.. قال: عشت أجمل أيام حياتي في قصة الحب التي جاءت متأخرة عن موعدها ثلاثين سنة. وحين فاض بي العشق والهوى كما تقول الاغنية.. قررت ان اتقدم لزواجها بشكل رسمي.. وفاتحتها في الموضوع فاتسعت عيناها من الدهشة ولم تقل شيئاً والسكوت علامة الرضا كما نعلم.. وهكذا عرفت منها متى يكون أبوها موجوداً في البيت ومتى تكون هي في النادي. وذهبت اليه في بيته.. وقلت له: انني اتشرف بأن اطلب منك يد ابنتك وابتسم الرجل ابتسامة لطيفة وقال: جرت العادة أن يكون العريس موجوداً في هذه الجلسة أين هو العريس.. قلت له: أنا العريس.. وأسود وجه الرجل وفكر قليلاً ثم قال: البنت صغيرة وهي مخطوبة لقريب لها.. بهذه النهاية الدرامية المضحكة انتهت قصة صاحبنا.