يمر العراق في منعطف تاريخي بالغ الحساسية والتعقيد، حيث يواجه تحديات خطيرة يقف فيها أمام خيارين: إما الخلاص من نظام صدام حسين الذي عاث في العراق فساداً أكثر من ثلاثة عقود، أو مواجهة حرب مدمرة تحشد فيها أحدث الأسلحة المتطورة وأكثرها تدميراً وفتكاً، بما فيها احتمالات الاسلحة الكيماوية والبيولوجية، حتى بات شعبنا يعيش بين المطرقة والسندان. اننا نرى ان الخلاص من نظام صدام حسين وتحرير شعبنا العراقي من براثن الديكتاتورية يمثل هدفاً كبيراً لا مناص منه، ولكننا في الوقت نفسه نسعى الى تجنيب البلاد الحرب وما يعقبها من كوارث انسانية، وتدمير لقدرات العراق الاقتصادية، ولهذا فإننا ندعم الجهود الرامية للضغط على صدام وجلاوزته بالتنحي عن السلطة، ومغادرة العراق. ان شعبنا العراقي يتطلع الى نظام سياسي يمثل ارادته الحرة، ويحقق طموحاته المشروعة في الحياة الحرّة الآمنة الكريمة، نظاماً ديموقراطياً يمثل كل العراقيين بمختلف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، ويحفظ للعراق استقلاله الوطني، ويصون وحدة أراضيه، ويعزز دوره العربي والانساني، ويعيش في سلام واخاء مع جيرانه واشقائه. ومن هذا المنطلق فإن الهدف الرئيس هو الاطاحة بنظام صدام، فأي عمل لا يستأصل الحال الصدامية في شكل عام يمثل تجاوزاً واحتراقاً لكل الخطوط الحمر. وتأسيساً على الموقف نفسه فإننا نرفض رفضاً قاطعاً استبدال حكم قمعي طائفي، بحكم يمثل الوصاية على العراقيين بغض النظر عن الجهة. فلا يكمن بأي حال من الأحوال ان تستمر عمليات الالغاء والهيمنة السياسية في بناء عراق الغد، وليس من حق أي جهة ان تدعي "المرجعية السياسية" فهذا بحد ذاته مكابرة مرفوضة، وغلط محض. فكل جهة او فصيل معارض او متصد للوقوف بوجه الديكتاتورية الصدامية من حقه ابداء الرأي، وعلينا نعلم انفسنا قبول الرأي والرأي الآخر، وإلا فستعود عقارب الساعة الى الوراء، وتعود الديكتاتورية بثوبها الغامق الكريه من جديد. ان الضامن لوحدة العراق أرضاً وشعباً هو الممارسة الديموقراطية الحرة، ويجب ان لا نخشى ارتباك الوضع السياسي فتلك نتيجة طبيعية لنظام قمعي، ولكننا نأمل ان يستقر الوضع دستورياً على رغم مخاوف بعض الجيران من "الشيعة"، وبعضهم من الكرد، وبعضهم من امتدادات اخرى. فلا أحد يستطيع ان يلغي 65 في المئة من شعب بحجة انهم شيعة أو 20 في المئة بحجة انهم أكراد، وكذلك التركمان، والمسيحيون وغيرهم من الأقليات هذا هو العراق، وهذه تركيبته، وكل من يتنكر لذلك يكون نظامه مثل صدام. ان كل تبعات الوضع المأسوي الذي يمر به عراقنا اليوم، وما يواجهه من ويلات ومصائب وأهوال وجره الى آتون حرب "ثالثة" كلها ناشئة عن: 1- انتهاج النظام الصدامي سياسة عدوانية ضد الشعب والجيران والعالم، وأصبحت معلماً يؤطر علاقاته مع الآخرين. 2- إتباعه سياسة المماطلة التي أثبتت فشلها في محاكاة الواقع السياسي، وعدم قدرتها على القراءة السياسية الصحيحة ما أغرقتالبلاد في مطبات خطيرة كبرى. 3- إغفاله لمصالح الشعب وتغيبها المتعمد من جدول اهتماماته، وتركيزه للمصالح الشخصية والفئوية. وقد دللت أحداث الأسابيع الماضية، وأكدت مجدداً على ان هذا النظام الفاشي لا يحمل هموم شعبه، وما يواجهه من محن ورزايا، ولو كان خلاف ذلك لاستجاب للمبادرة العربية المطالبة له بالتنحي وإفساح المجال للشعب بتقرير مصيره، وتفادي شبح الحرب. واليوم وبفعل سياسات نظام صدام العدوانية يتعرض العراق من شماله الى جنوبه لامتحان عسير جداً، ولحظات حرجة، وفي خضم هذا الواقع المؤلم، وفي كل هذه الظروف الحساسة تتحمل قطاعات الجيش الأصيل - الذي أبعده صدام عن مسرح الأحداث لعدم اطمئنانه به - مسؤولية كبيرة في حفظ الأرواح، والوقوف أمام مخططات النظام التي وضعته في مواجهة خاسرة، يهدف من خلالها الحفاظ على مصالحه بعيداً عن مصالح الشعب وطموحاته، لهذا فإن التحام قطاعات الجيش مع الشعب في هذه اللحظات الحرجة ستفوت الفرصة على النظام الديكتاتوري، وتكشف عن أمل مشترك وعزيمة صادقة، واصرار ثابت لبناء عراق جديد خال من النهج العدواني وخاضع لارادة الشعب، معبراً عن طموحاته المشروعة لغد مشرق. وقد عمد النظام خلال الأعوام الماضية الى زرع بذور الفتن والشقاق بين شرائح الشعب، فهو عوّل على هذه النزاعات الفتاكة في المنعطفات الحادة، واستثمارها لصالح استمرار بقائه، ان مختلف شرائح المجتمع العراقي بمختلف توجهاتها وانتماءاتها تقف أمام مسؤولية تاريخية من أجل العمل في طي سجل الصراعات والخلافات، والنظر بجد وأمل وحكمة الى حلم الوحدة الوطنية، واعادة نسيج مكونات المجتمع الذي عمل على تفتيتها النظام المقبور طوال العقود الثلاثة، والاتفاق على بناء عراق الغد، الذي يضمن للعراقيين كافة الشراكة في رسم مستقبل سياسي واعد، وان على العراقيين ان يرنوا بعيونهم الى مستقبل زاهر لإعمار البلاد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتلك المهمة الشاقة لا تتم إلا بالسواعد السمر من أبناء الصفوف الطيبة التي ناضلت ضد الطغيان والديكتاتورية. ولا شك ان مسؤولية بناء العراق لا تقع فقط على كواهل ابنائه الغيارى - وإن كان عليهم تحمل القسط الأكبر من المسؤولية - بل على المجتمع الدولي وفي مقدمه الولاياتالمتحدة ويجتاز امتحاناً لتنفيذ التزام بالوعود التي قطعوها للعراق وشعبه - وشعوب المنطقة - ان التزامها ببناء العراق واعماره، ودعم الديموقراطية، والغاء السياسات العدوانية للنظام، واعادة النظر في كل القرارات الدولية التي صدرت بحق العراق في العهد المشؤوم، والعمل على إلغاء الديون المترتبة في ذمة العراق، كل ذلك يساعد على ازدهار مستقبل للعراق، وواعد للمنطقة يستبطن واقعاً ضمان وحدة العراق، ووحدة شعبه، ووحدة أرضه. والعراقيون يمتلكون القدرات الكفيلة لادارة شؤون بلادهم، والعمل على استتباب الأمن والاستقرار، وتهيئة المناخ المناسب لصياغة دستور البلاد الثابت، وطرحه على الشعب للاستفتاء من أجل بداية عهد جديد، كل ذلك لا يتم إلا عن طريق اختيار عناصر وطنية واعية ذات تاريخ سياسي نزيه، وقادرة على العطاء والبذل من اجل قيادة الوطن في مرحلته الآنية، لذلك فعلى المجتمع الدولي تحمل المسؤولية في دعم العراقيين للبدء في بناء واعمار بلادهم سياسياً، وعمرانياً، واقتصادياً، واجتماعياً، باعتبارهم القوة القادرة على تحقيق ذلك، وان تجاوز ادوارهم لا يخدم استقرار البلاد. كما تتحمل دول الجوار مسؤولية تاريخية في العمل على استقرار الوضع، واستتباب الأمن، فكما تعرض الشعب الى سلسلة من المآسي بفعل سياسة النظام العدوانية كذلك تعرضت الشعوب المجاورة لسلسلة حروب طاحنة تركت آثارها على الجميع، لذلك من مصلحة الشعب وشعوب المنطقة التفاهم والتعاون في شكل صادق يضمن مصلحة الجميع، في ان لا تعاد تجربة الانتفاضة الشعبية عام 1991 وان يتحملوا المسؤولية ويستثمروا الفرصة لمصلحة الشعب العراقي للتخلص من شر هذا النظام، ومساعدته لبناء بلده من خلال عدم التدخل في شؤون البلاد، بل إسناده سياسياً. إن رسالة الشعب في هذه المرحلة الحاسمة الى جيرانه وأشقائه شعوباً وحكومات، بأن عراق المستقبل يهدف الى صياغة عملية جديدة يسوده الحب والسلام والاستقرار، وكل الجهود الخيرة في هذا التوجه ستلقى كل الترحيب من كل العراقيين. وأمام الشعوب العربية وحكوماتها دور آخر لا يمكن اغفاله، ما زال الشعب العراقي - وباعتباره جزءاً من الشعوب العربية - يأمل ان توظف الشعوب لنصرة الشعب العراقي، والعمل على انقاذه من براثن الديكتاتورية والاضطهاد. وان المراهنة على استمرار الحكم الديكتاتوري رهان خاسر لا يهدف الا الى زيادة العزلة بين الشعوب، وان المراهنة على الاصلاحية، وترقيع وجه النظام الفاشي لا يزيد الأمور الا تعقيداً، ولا يقترب إطلاقاً من مصالح الشعب، بل يقترب أكثر من مصلحة استمرار النظام وبقائه، علينا ان نعي وبكل وضوح "الدعوات" التي تحاول الافادة من الغطاء الشرعي، وتحت اطار ديني ان يستثمرها النظام في سبيل استمرار ديمومته وقهره واضطهاده على الشعب. ان الشعب العراقي، والمجتمع الدولي، وبخاصة الولاياتالمتحدة ودول الجوار، والدول العربية والاسلامية تقف اليوم أمام مفترق طريق، يرسم معالم مرحلة جديدة لمستقبل عراق زاهر، ويسدل الستار على أعتى نظام ديكتاتوري في العالم، وطمر جميع مخلفاته البائسة. والتوفيق من الله سبحانه وليس ذلك عليه بعسير. * رجل دين وسياسي عراقي.