يستدعي المخرج الكندي اتوم أغويان الأرمني الأصل جبال ارارات في أرمينيا لتشهد على ما جرى لبني وطنه، على أيدي جيش الدولة العثمانية في أوائل القرن الماضي. يعزف في فيلمه تنويعات على أيقونة الأم والإبن رمز التضحية والفداء على طريق الآلام ويدفع بالمتفرج داخل هيكل مركب من الأحداث يظلله غموض متعمد للمخرج المشارك ايضاً في كتابته. يلهث المتفرج ليلمس اطراف الخيوط في شبكة من شخصيات لها اكثر من دور، تشكل احداثاً غير مكتملة في حينه، قد تكشف خفاياها في موقع آخر. خلال الفيلم، يرجع بنا أغويان من الزمن المعاش في اميركا لمعايشة مشاهد تمثيلية لحقبة تاريخية دامية في أرمينيا، يجسدها مخرج داخل الفيلم يقوم بدوره المغني الأرمني الشهير شارل ازنافور يحدد نقطة ارتكازه حول حياة الفنان التشكيلي ارشيل غوركي الأرميني الأصل، ويعود بنا الى فترة صباه التي عاصرت الاجتياح الذي تمتد احداثه الى ما بعد رحيله في ظروف غامضة في اميركا حيث يحفظ تراث الفنان في متحف خاص، وتسجل معاناته في كتاب سيلقى رواجاً، بقلم زوجته آمي استاذة التاريخ، فتنظم محاضرات لقراءة فصول منه وأيضاً استغلال عذابات أهله في فيلم سينمائي مستلهماً الكتاب ذاته. أيقونة أرمينيا تصطحب الام الريفية وحيدها ارشيل، مدفوعة بوعي فطري بقيمة الذكرى، الى مصور فوتوغرافي لالتقاط صورة لهما. يبدو الصبي قابضاً على زهرتين ناصعتين تحية لروح والده، كتقليد اصيل ابقى عليه طوال حياته. يقتحم العثمانيون قرية فان على الحدود التركية - الأرمينية عام 1915. يشعلون الحرائق فيعم الخراب، تدفع الأم بالصورة الى ولدها، توصيه بأن يحفظ ملامحها ويحيي لغتها ويخبئ في قلبه عبير ارضه وعذابات اهله. ينقلنا اغويان الى ايقونة اخرى من الواقع المعاصر، تضم آمي الزوجة الثانية للفنان، وابنها رافي من زوج سابق المسكون بالنبل والفن، يحفظ الاشعار ويعزف على الكمان فتقع ابنة الفنان في هواه، وتربطهما عاطفة جارفة فيمنحها نسخة من كتاب امه، فتشكك في صدقية روايتها، وتقتحم عليها محاضراتها وتحاصرها بالاسئلة الاستفزازية، وفي احدى ثوراتها تندفع الى ايقونة والدها في متحفه محاولة تمزيقها!! تعارض آمي ارتباط ابنها بابنة غوركي، الا انه يتمسك بها ويطير من اجلها الى تركيا ليسجل لها شريطاً مصوراً عن موطن أبيها، ويلتقط أيقونة اثرية بين الكنائس، تشي بأصول ايقونة ارشيل وأمه. يستهل الفيلم بمعاناة الفنان في تصوير ايقونته. نشاهده وظهره للكاميرا محاصراً بحافة الكادر يتوسل بلحن أرميني ذكريات الصبا. يخطو بضع خطوات على ايقاعاته، الا انه يعجز عن الانتشاء. يستعصي عليه تصوير كف أم، وما ينطق به من حديث صامت فيمحوه ليعيد تصويره مرات عدة. يوصلنا أغويان في أيقونة ثالثة تضم مخرجاً سينمائياً من أصل أرمني وأمه، وان لم تظهر على الشاشة، الا انها قوة دافعة للاحداث بوصيتها التي خبأها في صدره منذ طفولته حتى يحقق فيلماً عن مأساة الارمن العزل في مواجهة هجوم الجيش التركي، ينفث المخرج غضبه المكتوم طوال السنين بقوله: "لقد فرض علينا الصمت عقوداً طويلة، بقيت افواهنا مكممة ولكن حفظت الذاكرة الجمعية صور الإذلال والترويع، هتك العرض، التخريب وحرق التراث. في ليلة العرض الأول للفيلم، يبدو المخرج راضياً عما جسده، على الشاشة إرضاء لرغبة امه، بينما تنتاب المؤلفة حال من القلق لما لم تتوقعه من قدرة السينما على تجسيد الحدث ومنحه طاقة مؤثرة عنه في الكتاب، تلتقط عيناها الفنان غوركي امام ملصق الفيلم، فما ان يلتفت إليها حتى تهرع اليه لتدرك ان من بدا لها حياً كان وهماً. ينسق أغويان الأحداث التراجيدية على خط تصاعدي يدخر للمتفرج، الاكثر بشاعة والأقوى تأثيراًَ، يطعمه بالانتقال الى احداث معاصرة ليضاعف رد الفعل ويحتفظ لأحداثه بقوة الصدمة. في البداية يستعرض المخرج مظاهر الحياة في قرية أرمينية آمنة كما هي محفورة في ذاكرة ارشيل، تجلس الأمهات على عتبة دورهن يطرزن الثياب ويستكين الصغار في ظلهن بينما يلهو الصبية بلعب الكرة وينشغل اصحاب الحرف بتلبية حاجات الأهالي البسطاء. يتحصن الاتراك على قمة التل، يتربصون بالقرويين العزل، يصطادونهم كما الدجاج، يتم الاقتحام، في حضرة الضابط يقف الصبيان الذين يحمل أصغرهم الى الخارج لتمزق صرخات القلوب، يحرك الضابط عصاه أمام ارشيل: "سألقنك درساً... هذه غلطتكم". الخروج الكبير تتوالى ثلاثة مشاهد سينمائية لا تمحى من الذاكرة تغرس مخالبها في اعماق المتفرج، لقطة بعيدة لصف طويل من كائنات معتمة تتحرك في خطى واهنة على ارض جرداء بينما يلاحقها شبح على جواده، تتحرك الكاميرا على مركزها لتستقبل مقدم المهجرين البؤساء، وحين تسقط والدة ارشيل من الجوع والوهن تنهال عليها ضربات السياط. وفي مشهد آخر، يدفع العسكر مجموعة من النساء المذعورات للرقص على ايقاع السياط، يدفعون الى الحلبة فتاتين عاريتين، يغمرونهما بالكاز لتملأ الكادر نيران المشاعل، تأتي قمة التراجيديا لتفوق احتمال المشاهدين خلال لقطة عامة لجندي على جواده يطارد سيدة وطفلتها تحاول ان تجد موضعاً لقدمها بين الاشلاء، يتبعه مشهد لاغتصابها وتهبط الكاميرا الى طفلتها في مخبئها وقد تجمدت نظراتها على اقصى معاني الرعب. وفي اشارة خاطفة الى الجانب الآخر وما يحتمه الفكر الليبرالي في مجتمع يرفع لواء الديموقراطية يبرر الممثل التركي لشارل ازنافور، الغزو العثماني بأنه كان تأديباً للأرمن على تعاونهم مع روسيا، العدو الاول لتركيا العثمانية والذي خلف عليها عواقب وخيمة. اتهام واهن يضبط أغويان توقيته في السياق دفاعاً عن قضيته. "أرارات" عمل فني بالغ التكثيف يقوم المونتاج بدور فاعل في ضبط ايقاعه وسط زخم من الأحداث وإن جنح الى الإطالة، يمثل التحقيق العسير مع رافي، في مطار نيويورك عقب عودته من تركيا الزمن الواقعي للأحداث، بينما يمتد الزمن الفيلمي على الشاشة عبر مواقع وأزمنة مختلفة. ويقوم شريط الصوت بدور رئيس في الفيلم، يربط المشاهد وتعبر الموسيقى عن روح الأرمن، تضفي المؤثرات الصوتية حيوية وكثافة تعبيرية على الأحداث. يستند الفيلم الى سيناريو محكم - عن كتاب طبيب اميركي في تركيا - وإن اسقط دور البطولة والمقاومة الشعبية وعزل دور الحكومة. يشي الفيلم بقناعة مخرجه بالدور الاميركي في الحرب والسلم، يقدم طبيباً اميركياً متطوعاً في دور فريد لرعاية ضحايا الحرب، ويقدم ضابط الجمرك نموذجاً للفكر الليبرالي والتسامح الديني حين يستضيف مسلماً الى مائدته، ولا يقلقه ان يجهر حفيده بالكفر، وأيضاً حين يطلق سراح رافي على رغم يقينه بتورطه في صفقة مخدرات. عرض أغويان جدارية لأيقونات الارمن عبر مئة عام، فمتى يشهد العالم على أيقونات العرب في فلسطين والعراق وكل البلدان.