بعد خمس وثمانين سنة على المجزرة التي وقعت في حق الأرمن سنة 1915 يحاول أتوم ايغويان في فيلمه الأخير "أرارات" انعاش الذاكرة الجماعية بتسليط الضوء على الأزمة النفسية التي يعيشها الأرمن اليوم نتيجة عدم اعتراف تركيا بأول "أبادة وقعت في القرن العشرين". "أرارات" ليس تحديداً فيلماً عن "الإبادة الأرمنية" بقدر ما هو انعكاس لهذه الإبادة على الأجيال المتلاحقة على مرّ التاريخ... انه فيلم مشبع بتساؤلات مخرجه وشكوكه ومتطلباته... انه فيلم عن الحاضر لا عن الماضي، أبطاله يعيشون الألفية الثالثة من دون نسيان ما تكبده أسلافهم من ألم وكره وما يتكبدونه أنفسهم يومياً من اصرار على الاستمرار في النكران وكأن شيئاً لم يحصل. "أرارات" شريط يهزّنا من الداخل نحن الذين لا يجب أن ندهش إذا ما سمعنا خفقات قلوب أرمينية تندفع بقوة حتى ذكر اسم "أرارات" الذي عدا عن كونه ذاك الجبل الشهير في أرمينيا المحاذي لبلاد القوقاز يمثل اليوم رمز شعب لم يره يوماً إلا من بعيد في الصور وعلى الشاشات وذاكرته. أجيال متعاقبة ثلاثة أجيال متعاقبة في الفيلم تجسّد الواقع الأرمني الذي لم تضمد جروحه بعد ولن يهنأ العيش إلا مع أنصاف قضيته. حكايات متعددة تتقاطع وتتشابك في كثير من الأحيان ويبقى الرابط واحداً: الذاكرة التي تأبى النسيان... شخصيات في بحثها عن الهوية ورثت الوجع الذي حملته اليها الذكريات. وهكذا ومن منطلق شخص عرف آتوم ايغويان كيف يغوص في جذور الشعب الأرميني الذي طُبع بالإبادة التي عايشها أهله، مسلّطاً الأنظار على الذاكرة بمزج الحقبات التاريخية وبالانطلاق من الرسام ارشيل غوركي الذي سيكون صلة الوصل بين الماضي والحاضر. إلا أن ما يميز هذا الفيلم ليس العامل الشخصي فحسب، بل على العكس لقي المخرج دعم عدد لا بأس به من الفنانين الأرمن المشهورين وعلى رأسهم شارل ازنافور اضافة الى أرسينة خانجيان زوجته وشريكته في أفلامه وسيمون أبكاريان فجاء عملاً جماعياً الى نظرة جماعة في تاريخها. وعلى هذا الأساس يبدأ الفيلم مع غوركي بعد عشر سنوات من نجاته محاولاً طوال هذه الفترة انهاء رسم "بورتريه" والدته انطلاقاً من صورة فوتوغرافية أخذت لهما سنة 1914 أي قبل سنة من افتراقهما، هذه الصورة التي لا تلبث أن تطالعنا في شكل مستمر في سياق الفيلم كله. غير أن محاولة احياء صورة الوالدة وعدم تمكن غوركي من التخلص من ذكرياته المؤلمة دفعاه الى الانتحار. وبهذا تحاول "آني" ارسينة خانجيان أستاذة الفن تحليل تاريخ هذه اللوحة لتهرب من تاريخها الشخصي: أرملة كندية من أصل أرميني قُتل زوجها في محاولة اغتيال ديبلوماسي تركي. ابنها رافي فتى يبحث عن جذوره ومولع بحب سيليا ابنة زوج أمه سيليا بدورها لا تترك أي فرصة من دون أن تعطي دلالات على قتل آني لوالدها الى درجة انها لا تتردد لحظة في تحطيم رسم غوركي المهتمة به آني أو الاعتراض على محاضرة تلقيها زوجة أبيها عن تلك اللوحة أيضاً الأمر الذي دفع ذلك المخرج المشهور الى اسكاتها. أما سارويان شارل أزنافور فيصور فيلماً عن الإبادة الأرمينية ولا يخشى اعادة رسم ذلك الماضي الأليم وتحوير بعض ما جاء فيه. ولعلّ في المشهد الذي نشهد فيه انفعال آني التي هي في الوقت ذاته المستشارة في الفيلم خير دليل الى ذلك. إذ لم تتمكن آني من امتلاك نفسها حين رأت المخرج يضع على خلفية هضاب بحيرة ثان لوحة تمثل جبل أرارات، فهي تريد المحافظة على الصدقية التاريخية وجبل أرارات كما تقول لا يمكن رؤيته في منطقة فان، إلا أن سارديان بادرها بالإجابة قائلاً: "ليس مهماً أن يكون الأمر حقيقياً فالمهم هو الرمز وروحية التاريخ وأرارات هو رمز للتاريخ"، الأمر الذي يطلق العنان عن صعوبة فكرة تجسيد أمر معين من دون استناده الى وثيقة شرعية. فالإبادة الأرمينية مأساة متوارثة عبر الذاكرة، والذاكرة فقط. والشيء نفسه يقال عن مسألة المخدرات التي أشير اليها في نهاية الفيلم إذ أراد المخرج وضع أمر غير شرعي في فيلمه غير أنه أمر ملموس ومحسوس. الحاضر نسيان للماضي وتكثر الشخصيات من مارتن مفتش الجمارك العجوز الذي يقضي يومه الأخير في العمل قبل أن يحال على التقاعد في محاولة اكتشاف عالم جديد لم يسبق له أن دخله من قبل، عالم رافي وشعبه المقهور... وعلي ذلك المهاجر التركي الذي يلعب دور الشرير في فيلم سارويان، يعيش الحاضر ولا يبالي بالماضي وأحداثه، فضلاً عن أشير طبيب البعثة الأميركية في فان والشاهد على تلك الإبادة. شخصيات متنوعة، فيلم داخل فيلم، واقع مؤلم يصوره ايغويان بالتقاطه بعضاً من جوانب الماضي واضعاً نصب عينيه هدفاً واحداً: العدالة وانصاف القضية الأرمينية، هذه النقطة الأساسية التي تدور حولها القصة بأكملها. ولعل المشهد الذي يجمع داني بمفتش الجمارك خير دليل الى ذلك، فما يريده هذا الشاب الصغير هو اطلاع العالم اجمع على صوت قضيته بإظهاره ما عاناه شعبه من قهر وإبادة وبالتالي إعلان تلك الحقيقة المرة جهاراً... حماسته واندفاعه الكلي يؤكدان مدى رسوخ تلك الفكرة في ذهنه، ما دفعه الى المجازفة من دون أن يسأل والذهاب الى تركيا لالتقاط صور من مكان الحدث كما جاء على لسانه في حواره مع مفتش الجمارك، وذلك لكي يضيف تلك المشاهد الى فيلم سارويان. الأمر الذي لم يمنعه من الكذب، فالكذب في شخصيات ايغويان مشروع متى كان لنصرة الحقيقة، الأمر نفسه الذي لاحظناه مع آني التي لا تتردد في الكذب من أجل الحقيقة وأيضاً مع سارويان وقصته مع جبل أرارات السابقة الذكر. من هنا نرى أن شخصيات ايغويان لا تتوانى عن الكذب في مقابل كشف حقيقة أهم وأشمل. تناقض مبرر والقضية هي الهدف. من جهة أخرى، تتجلى أهمية الذاكرة وانصاف القضية الأرمينية أيضاً في الحوار الذي وقع بين رافي وعلي المهاجر التركي الذي اختير في فيلم سارويان لتجسيد شخصية جودت بيه المسؤول الأول عن مجزرة فان وعن موت ألوف الأرمن. وفي هذا الصدد يفتح ايغويان باب النقاش واسعاً في امكان تصحيح العلاقات التركية الأرمينية الا ان الاحتكاك بين الشابين الكنديين المنتمي كل واحد منهما الى أصول مختلفة يغلق كل الإمكانات والمساعي. علي من جهته، غير مبالٍ بما حصل منذ ما يقارب المئة سنة بين الأرمن والأتراك، ما يريده هو عيش الحاضر ونسيان الماضي إن كان مؤلماً، معطياً بدوره شرحاً يناسبه "انها الحرب" وفي الحرب كل شيء مشروع. هذه النتيجة توصل اليها بعد أبحاث من دون جدوى بسبب عدم وجود أي أثر عن الحادثة المزعومة الأمر الذي لم يمنعه من دعوة رافي الى كأس شمبانيا. إلا أن رافي لم يلب الدعوة فهل يعقل ان نضع جانباً مجزرة من هذا النوع؟ لا بل أكثر: هل يجوز أن تأتي المصالحة على حساب الحقيقة بإخفائها؟ سؤال وضعه ايغويان برسم الإجابة واكتفى بالقول على لسان سارويان إثر المواجهة بينه وبين علي ان موت الكثير من الضحايا في تلك الإبادة أقل وطأة في نفوس الأرمن اليوم من الشعور بالكراهية، كراهية الأتراك لهم وعدم اعترافهم بحالهم. رمز الرمان ولا يسعنا في النهاية ان نغفل أهمية عامل الوراثة اللافت في هذا الفيلم، إذ كانت فاكهة الرمان هي الرمز الذي يدلّ الى عامل الانتقال من الأم الى ابنها بعد أن شرح سارويان انه يحتفظ بها من أجل الحظ من جهة، ومن جهة ثانية نسبة الى كونها ترمز الى أرمينيا. من هنا أبى التخلي عنها عند نقطة التفتيش في الجمارك. وبهذا نرى قوة العلاقة المشتعلة بين الأم وابنها في سياق الفيلم كله، أولاً غوركي ووالدته ثم سارويان ورافي ووالدتهما. الأمر الذي يطرح السؤال: أين الأب في كل ذلك؟ في الحقيقة يطرح أرارات باستمرار علامة استفهام عن الأب: والد غوركي غائب عن الصورة كونه انتقل الى الخارج وأيضاً والد رافي غائب عنه والسبب وفاته شهيداً، الأمر الذي خلق نقصاً أكيداً لا يقودنا إلا الى أرارات، الى أرمينيا.