نبأ وفاة الكاتب الفرنسي موريس بلانشو، يوم الجمعة 21 شباط فبراير وعن 95 عاماً، يشبه الى حد بعيد مناخ هواجسه وشواغله الأدبية والوجودية، حتى ليمكن القول ان النبأ في حد ذاته يكاد يكون من النوع الروائي. وليس مستبعداً أن يخيل لكثيرين من العاملين في الحقل الأدبي، أنه كان ينبغي صدور مثل هذا النبأ الحزين كي يفطنوا الى أن الرجل كان لا يزال على قيد الحياة، مقيماً في ضاحية باريسية وماضياً في عزلته الوجودية التي كانت ضالته وحكمة حياته. فالرجل الذي أحدث تأثيراً عميقاً، طوال بضعة عقود من السنين، في أجيال بكاملها من الكتاب والقراء، كان قد حقق من قبل، في معنى ما، غيابه الشخصي عن المشهد الثقافي والأدبي منذ سنوات. يأتي النبأ إذاً كما لو أنه يعلن غياب إنسان وكاتب كان غائباً أصلاً، وموغلاً في اختبار الغياب الى حد الامّحاء. وفي الأمر مفارقة كبيرة تشبه المفارقة التي لازمت النتاج الروائي والنقدي، القوي التأثير والوطأة، لموريس بلانشو. ما يبدو بمثابة مفارقة بليغة تلابس حياة بلانشو وأثره، يعود على الأرجح الى أنه جعل الكتابة اختباراً لملامسة الحد الأقصى للوجود، أي الموت والغياب والامّحاء. الى ذلك، لم يتوقف بلانشو عن دحض أو نقض الفكرة الشائعة المتحدثة عن ان الوجود لا يتحقق إلا من خلال الظهور وبسط الذات، حتى يمكن القول ان انتاجه، خصوصاً في الستينات وفي صورة نهائية ومطلقة، يكاد يكون عملية تكذيب ورفض لهذه الفكرة. لن يكون مستغرباً، في هذه الحال، ألا يكون لدى مؤرخي الأدب الفرنسي وكتّاب التراجم والسير، إلا القليل من العناصر المتعلقة بسيرة أو مسار بلانشو. فباستثناء بعض الصور الفوتوغرافية النادرة وفي إحداها يظهر أيام الصبا والدراسة في مدينة ستراسبورغ مع صديقه الفيلسوف عمانوئيل لفيناس، إضافة الى بضع صورة التقطها له خلسة مصور فوتوغرافي في مكان إقامته في ضاحية باريس، وهو في شيخوخته، ليس هناك ما ينبئ بصرياً عن سيرة بلانشو. فهو رفض ان توضع له أي ترجمة عن سيرته، ويبدو أن أصدقاءه أذعنوا احتراماً لطلبه الجازم. مع ذلك نعلم أنه ولد عام 1907 في بلدة كوان الواقعة في منطقة سون ولوار، في أسرة كاثوليكية حرصت على إعطائه اسم القديس الذي يتناسب مع يوم ولادته. درس الفلسفة والطب وتخصص في الطب النفسي، وفي منتصف العشرينات التقى وتصادق مع لفيناس الذي قاده الى معرفة فكر الفيلسوفين هوسرل وهايدغر، إلى أن أصبح يجيد الألمانية. في الثلاثينات انخرط بلانشو في نشاط صحافي ذي طابع "دعائي" قريب من أوساط اليمين المتطرف، وكتب في صحف عدة ودوريات يمينية نصوصاً عنيفة وكثيرة كانت تعكس مناخ الاضطراب الايديولوجي الساخن في تلك الفترة. هذه الكتابات السياسية اعتبرها كثيرون غير مقبولة لأنها حملت نزعة معادية للتمثيل النيابي وانطوت على رؤية نخبوية وارستقراطية للمجتمع وكادت أن تلامس اللاسامية التي يعتبرها بلانشو خطيئة كبيرة. في العام 1938 توقف بلانشو عن النشاط الصحافي. وفي بداية الاحتلال الألماني لفرنسا، كان قريباً من حركة "فرنسا الفتاة" ثم من المقاومة الفرنسية. ومع صدور كتابه الروائي الأول عام 1941 في عنوان "توما الغامض"، تعرف الى الكاتب الفرنسي المحموم جورج باتاي وتوطدت صلات الصداقة بينه وبين كتّاب مثل جان بولان وروبير أنتيلم. بعد الحرب الثانية، عاود بلانشو تدخلاته السياسية بطريقة لاذعة وحادة تذكّر بسنوات شبابه. فهو كان عام 1958 معارضاً قوياً لشارل ديغول وللديغولية، رافضاً رفضاً قاطعاً كل فكرة عن الإنسان المخلّص والمنقذ، ثم شارك عام 1960 في صوغ بيان مانيفست المثقفين ال121 وتوقيعه ضد حرب الجزائر ودفاعاً عن حق عصيان الأوامر. وشارك طوال الستينات في مجلات ثورية وفي أحداث انتفاضة أيار مايو 1968 قائلاً آنذاك إننا "لم نعد مجرد متظاهرين، نحن محاربون". وآخر مداخلاته العلنية العامة كانت عام 1994 حين وقّع على نداء يحذّر من التساهل مع اليمين المتطرف. هاجس الأدب هذه المعلومات القليلة تكفي ربما للتدليل على حدة مزاج ومداخلات بلانشو ومداخلاته السياسية العامة، وهي دورية ومتقطعة على أي حال. ذلك أنه، في الحقيقة، نذر نفسه للأدب، في المعنى الصوفي للكلمة، أي وصولاً الى الشطح والفناء. وليس مبالغة القول ان بلانشو جعل الأدب والاعتزال المحموم داخل الكتابة لوعة وشغفاً، إن لم يكن جلجلة وجودية ودرب آلام صامتة أشبه بصراخ أو شظايا حرقة خافتة. ولعلّ روايات موريس بلانشو، شأنها شأن محاولاته النقدية الأدبية، إنما هي تعبير عن تجربة قصوى، عن الشوق الى ملامسة الحد الأقصى للكائن، أي الموت. ذلك أن الموت، في منظار بلانشو، ليس مآل حياة متوثبة ومحمومة تجاوز نفسها بطريقة حلمية وخيالية وصولاً الى نهايتها المحتومة، بل هو ما لا تستطيع أي صورة من صور الحياة ان تقاربه وتلامسه. الموت هو الغياب، العدم، أو بالأحرى هو سراب هذين الغياب والعدم، وهو سراب تفصلنا الحياة عنه دائماً. على هذا النحو، تصبح التجربة، ها هنا، اختباراً للحياة التي تقصر وثبتها وأفقها على الذهاب نحو الموت، وكأن الحياة تقوم بتفريغ نفسها من نفسها، كأنها ميتة من ذي قبل، ولكنها تعجز عن الموت الكلي والفعلي. وقصص بلانشو، على ما يرى دارسوه وشرّاحه، تدور كلها على هذه البؤرة الغريبة التي يلتحم فيها الأدبي والفلسفي، والتي تنقد فيها لعبة تبادل وتراسل لا تنقطع بين الحياة والموت. ولغة هذه الحكايات بسيطة، حيادية، شفافة وجهاز استعاراتها وبلاغتها ثابت لا يهتز. تجري الأمور كما لو أن بلانشو يريد لهذه اللغة أن تكون لغة الموت نفسه، المتخفف من لوعات الحياة وأهوائها، مطمئنة وساكنة حتى في حركتها وانزلاقها المتواصل نحو الجنون والهذيان، كأنها تعبير عن التكرار الأبدي للحياة داخل الموت. هذه اللغة ذات البؤرة القائمة على مفارقة من الطراز ذاته، أي نبرة الاهتياج البارد، والارتعاش المتخذ صورة اللامبالاة، هي التي تجعل الكاتب أقرب الى أن يكون شاهداً لا وجه له ولا شخصية ومن دون هدف، لأنه لا يريد أن يقنع أحداً بشيء ولا حتى أن يظهر نفسه. هكذا يذوب الشاهد وتختفي ملامحه ليصير الشهادة التي تتحدث من خلالها الحقيقة المستعصية للموت والتي لا منفذ اليها. وقد يكون مفيداً التذكير بأن روايات بلانشو ومحاولاته النقدية لا ينفصل بعضها عن بعض، إذ ثمة بينهما نوع من التصادي ومن تبادل المرايا حتى تكون المحاولات النقدية بمثابة شرح وكشف غطاء عن طلاسم أو ألغاز كتابته الروائية المستغلقة والغريبة. وأشار بعض دارسي نتاج بلانشو الى التعارض البارز بين الطابع المبهم والطيفي لنصوصه الروائية وبين طابع الدقة والوضوح الذي يسم تأملاته وقراءاته النقدية. التجربة السردية غير ان هذا لا يمنع من أن تكون تعليلاته وصياغاته النقدية المرموقة، كما يقدمها في كتابه "الفضاء الأدبي" الدائر على تناول تجربة الموت عند كافكا أو عند الشاعر ريلكه، بمثابة مفاتيح لقراءة نصوصه السردية. في كل الأحوال، تظل محاولة بلانشو السردية عالية القيمة والشأن، لأنها تنطوي على دلالة نموذجية مقصودة، نظراً الى أنها تفصح عن فكرة جديدة عن الرواية. وهناك صفحات في كتابه النقدي "خطوة عاثرة" أو "زلّة قدم" إذا شئنا ترجمة أخرى الصادر عام 1943، يقيم فيها تقابلاً بين الرواية كما هي مفهومة وشائعة، وبين الرواية كما ينبغي أن تكون، معتبراً أن الرواية لا تزال متأخرة عن الشعر. والخطأ الجسيم في نظر بلانشو يكمن في تحديد الرواية بالنظر الى نسبة اتصالها بالواقع. فالرواية، مثلها مثل الشعر، ابتكار للغة، "وما تختص به الرواية، هو أن يكون شكلها مضمونها بالذات"، أي حركة الكلمات. لذا كان بلانشو يرفض الحبكة الروائية، ويرسم شخصيات ينزع عنها مواصفات الوجود الجسماني المادي. ففي عرف بلانشو، لا تفعل اللغة سوى إظهار أو إماطة اللثام عن التجربة الجوهرية، أي الموت، ووسيلة هذه التجربة بامتياز هي الكتابة الأدبية. في إحدى محاولاته النقدية الصادرة عام 1956 في عنوان "الكتاب المقبل"، يعتبر بلانشو أن "من يؤكد أن يثبت الأدب في حد ذاته، لا يثبت شيئاً. ومن يبحث عنه لا يفعل سوى البحث عما يتخفى، ومن يعثر عليه، لا يعثر إلا على ما هو تحت الأدب، أو، على ما هو أنكى من ذلك، أي ما بعد الأدب. لهذا، في نهاية المطاف، فإن اللاأدب هو ما يلاحقه كل كتاب باعتباره جوهر ما يحب وما يريد اكتشافه بشغف ولوعة". واللغة، بحسب بلانشو، فعل سلبي، لأنها حين تسمي الأشياء تفصلها عن ذاتها، وتدمرها بالتالي. وهي لا تكون ذات طابع جمالي إلا بقدر ما تكون غير حقيقية. واللغة تحرق الأشياء لأنها تسعى الى ملاقاة العدم الأصلي الذي تتحدر منه، وهو الصمت. وبما أن اللغة مقلة من الصمت، فإن غايتها هي الصمت. قيل عن بلانشو انه دعا الى اللارواية، والى اللالغة، لأن الموت وحده يتحدث داخل اللغة، والفضاء الأدبي هو فضاء الموت، وفعل الكتابة لا معنى له إلا باعتباره محاولة "من أجل إقامة صلة حرية مع الموت". ضمن هذا الخليط من العدمية ومن الصوفية الفاقدة مركزها ووجهتها، ومن رفض فلسفة الذات، ومن تقصّد الارتياب وملاحقته الى أقصى الحدود، لن يعود غريباً أن تكون شخصيات بلانشو أشبه بآلات لغوية أو أجسام آلية تتحرك داخل مملكة العبث. والأدب هو وسيلة كل هذا ونهايته في آن واحد. ففي نظر بلانشو، على ما يقول في موضع آخر من كتابه "الكتاب المقبل"، "جوهر الأدب، إنما هو التفلّت من أي تحديد جوهري، ومن أي تأكيد من شأنه أن يثبت الأدب أو حتى أن يحققه: "فهو غير ماثل أبداً من قبل، بل هو على الدوام مدعاة عثور متجدد أو ابتكار متجدد. بل حتى أنه ليس مؤكداً أبداً بأن كلمة "أدب" أو كلمة "فن" تجيب عن شيء قائم بالفعل... أن تكون فناناً، يعني ألا تعرف أبداً أن هناك فناً موجوداً من قبل، ولا حتى أن هناك عالماً من قبل. لا شك في أن الرسام يذهب الى المتحف، ويكون لديه عندئذ وعي معين عن واقع الرسم: إنه يعرف الرسم، لكن لوحته لا تعرف ذلك، بل تعرف بالأحرى أن الرسم محال، غير حقيقي، وغير قابل للتحقق". ترك موريس بلانشو عدداً لا بأس به من النصوص الروائية ومن المحاولات النقدية الشيقة، هو الذي تأثر بقصيدة "ضربة نرد" لمالارميه وبفلسفة نيتشه ونصوص كافكا. أبرز أعماله السردية: "توما الغامض" 1941، "الإنسان الأخير" 1957، "جنون النهار" 1973، "الانتظار، النسيان" 1961. وأبرز محاولاته النقدية: "كيف يكون الأدب ممكناً" 1942، "خطوة عاثرة" 1943، "الكتاب المقبل" 1956، "الفضاء الأدبي" 1955، "لوتريامون وساد" 1949، "المحادثة اللامتناهية" 1969، "الصداقة" 1971، "الخطوة الذاهبة نحو الماوراء" 1973، "كتابة الكارثة" 1980، "من كافكا الى كافكا" 1982، "المثقفون على المحك" 1996. وقد يكون مفيداً أن نشير الى روايته "عميناداب" 1942 التي كرّس لها سارتر دراسة نقدية، والى روايات أخرى مثل "الحكم بالإعدام" 1948، "العلي" 1948، "في اللحظة المناسبة" 1951، "التكرار الأبدي" 1951، "ذاك الذي لم يكن يرافقني" 1953، "لحظة موتي" 1994. بعد كل هذا، لا يعود مستغرباً أن يحتل بلانشو مكانة كبيرة في نظر عدد من أبرز كتاب فرنسا، وفلاسفتها، مثل جان بول سارتر وميشال فوكو وجاك دريدا وغيرهم، وأن تكرّس له دراسات، حتى وإن كان يتشوق الى محو نفسه بواسطة الكتابة ولا شيء سواها.