في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي تماماً، أمر ملك قشتالة «ألفونس العاشر» الملقب بالحكيم بأن يترجم عن العربية، مباشرة، نصّ سيكون له منذ ذلك الحين تأثير كبير، ليس فقط في الآداب الرمزية الإسبانية والأوروبية، باعتبار أن الكتاب ينتمي إلى الأدب الرمزي، بل كذلك في الفكر السياسي، بحيث لن يعدم من سيقول لاحقاً إن معظم الذين خاضوا الكتابة حول السياسة والعلاقات السياسية وشؤون السلطة، بمن فيهم نيقولو ماكيافيللي (صاحب «الأمير») إنما اطلعوا، أولاً، على ذلك النص في شكل مباشر أو بالواسطة. قد يكون في هذا التأكيد شيء من المغالاة، لكنه - في حد ذاته - يكفي للبرهان على الأهمية التي اتخذها النص. والنص الذي نعنيه هنا هو، بالطبع، كتاب «كليلة ودمنة»، الذي عرفه الأدب العربي منذ القرن الميلادي الثامن، لكنه - في أصله الهندي المؤكد - كان وضع قبل ذلك بقرون وترجم إلى لغات آسيوية عدة منها الفارسية بأمر من كسرى أنو شروان. على أي حال، على رغم أصوله السنسكريتية البعيدة، ومن معرفة الفرس له حتى قبل الإسلام، فإن «كليلة ودمنة» اشتهر كجزء من التراث العربي، وذلك طبعاً، بفضل عبدالله بن المقفع، الذي هو، بفضل الكتاب واشتغاله عليه، يعتبر واحداً من ألمع أصحاب الفكر السياسي في التراث الإسلامي. تبدأ الحكاية دائماً بما يقوله دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف. وبيدبا هو، وفق معظم التفسيرات، مؤلف الكتاب الأول، وهو فيلسوف أخلاقي وحكيم، كان أكثر ما يهمه من خلال كتابته حكايات الكتاب الأولى، أن يعرض المبادئ الأخلاقية، ولكن بصورة رمزية، وعلى ألسنة الحيوانات، ومن خلال وصف العلاقات فيما بينها، (وكان هذا دأب المفكرين والأدباء في تلك الأزمنة حيث إذ يخدم الواحد منهم في بلاط حاكم أو ملك أو حتى رئيس مقاطعة، يطلب منه سيّده - أو في بعض الأحيان قد يتبرع هو بذلك - أن يكتب له قواعد سلوك معيّن أو أسس حكم من الأحكام، فيروح معبّراً عنها بتلك الطرق الرمزية التي قد تروق للسيّد صاحب الطلب فتتحول إلى قواعد وقوانين مدوّنة يعمل بها، وقد لا تروق فإذا بها تعامل فقط معاملة النصوص المسلية وبالتالي يأمن الكاتب على حياته)... هكذا، كتب بيدبا هذا النص الذي عرف في ذلك الحين على نطاق واسع وعبر حدود المنطقة التي ولد فيها ليصار إلى تبنّيه من قبل كتاب كثر أعاد كلّ منهم صوغه وفق ما يناسب أحواله وأحوال سادته. هكذا، من بعد نصّ بيدبا الأصلي، نسخ النصّ مرات عدة من أشهرها تلك النسخة التي حملت اسم «بانكاتانترا» (أي «الكتب الخمسة»). وفي هذه النسخة نعرف للمرة الأولى أن بطلَي الحكايات هما الثعلبان «كاراتاكا» (كليلة لاحقاً) و «دامانكا» (دمنة) اللذان يعيشان مغامرات توفر للكاهن البراهمي فيزنوزارمان أمثولات وحكماً يستخدمها في تعليم ثلاثة أمراء جهلة كلفه الراجا تعليمهم. من هنا، عرف الكتاب أيضاً باسم «كتاب الأمراء»، وهو اسم استخدمته نسخ أوروبية عدة وضروب محاكاة لاحقاً. والطريف أن هذه التسمية التي ارتبطت أول الأمر بشخصية الأمراء الصغار الذين كان مطلوباً من النصّ أن يعلمهم الحكمة والسلوك وبعض معارف العصر، فهمت لاحقاً على أنها ترتبط بالأمراء الحاكمين ما جعل للكتاب سمعة تعتبره نصّاً في تعليم الحكام فن الحكم على شالكلة ما ستكون عليه لاحقا ًكتابات مثل «الأحكام السلطانية» للماوردي وسواه. إذاً، ما يمكننا قوله هنا هو أن هذا الكتاب قبل وصوله إلى ابن المقفع، قام برحلة طويلة عبر خلالها أواسط آسيا وفارس. وحدث له كما يحدث لهذا النوع من الكتب، أن اغتنى في طريقه. وكذلك إذ اشتغل عليه ابن المقفع في بغداد، التي كانت حاضرة العالم الثقافية في ذلك الحين، ومصبّاً لشتى الحضارات، كان من الطبيعي أن يضيف إليه الكثير من الحكايات الجديدة، ما جعله يتألف في النهاية من 17 فصلاً، بعدما كان، في الأصل الهندي، يتألف من خمس حكايات فقط. ولعل أهم إضافة أضافها ابن المقفع، نوعاً لا كماً، هو ذلك الفصل الذي يشهد محاكمة دمنة، التي لا تكف عن زرع الشقاق بين الحيوانات. وكان من الواضح أن هذه المحاكمة إنما اتت لتستجيب لدوافع أخلاقية بحتة، وتجعل شيئاً من الروح الأخلاقية يدخل على البعد السياسي، ما يخلق تناقضاً واضحاً، بين ما كانت عليه القواعد السياسية المطلقة المعمول بها والشيء الأخلاقي الجديد الذي بدا أن ابن المقفع يأتي به. تستبق النص العربي لكليلة ودمنة، أربع مقدمات لعل أهمها ذلك الذي يروي لنا سيرة المفكر الفارسي برزويه، وذلك لأنها تكشف عن عمق الأزمة الروحية والعقلية التي يمكن الفكر أن يعيشها في مقابل ألاعيب السياسة. أما بالنسبة إلى الفصول الباقية، فإن كلاً منها يحتوي على حكايات متفرقة. ومن الواضح لدى قراءة هذه الحكايات أنها كلها تشتغل من طريق الرمز والكناية والأمثولة، ما يوضحه كونها، كما أسلفنا، وضعت أصلاً لغاية محددة: تأديب الأمراء وأبناء عِلّية القوم، أخلاقياً وسياسياً أيضاً. ومن الواضح في معظم الحكايات أن الأخلاق التي تدعو إليها قد يغلب عليها الطابع البراغماتي، أكثر مما تغلب عليها مبادئ الفضيلة (التي قد يوحي بها استخدام تعبير «الأخلاق» في هذا المجال. ويتضح هذا أكثر ما يتضح لدى مراجعتنا حكايات اشتهرت مثل «الأرنب وملك الفيل» و «الثعلب والطبل» و «الأرنب والأسد» و «الناسك المخدوع» و «الذئب وابن آوى والغراب» وغيرها). ويرى باحثون مدققون لحكايات «كليلة ودمنة»، أننا هنا لا يمكننا الحديث عن «أية سمات سيكولوجية للشخصيات» باستثناء ما يتعلق منها بشخصية دمنة التي تبدو، في معظم الحكايات ذات شخصية ماكيافيلية تقربها أيضاً من سفسطائيي الفكر اليوناني القديم. في كتابه الذي صدر قبل سنوات عن «مركز دراسات الوحدة العربية» وشكل الجزء الأخير من رباعيته الشهيرة «نقد العقل العربي» يعرّف المفكر المغربي الراحل الدكتور محمد عابد الجابري «كليلة ودمنة» بأنه كان «منذ عصر التدوين، الذي ترجم فيه، إلى عصر النهضة العربية الحديثة، الذي بلغ أوجه في منتصف القرن العشرين، المرجع الأول في تكوين العقل الأخلاقي العربي». ويضيف الجابري مستطرداً: «ليس هذا فحسب، بل كان هذا الكتاب، طوال هذه المدة، قيمة في ذاته: قيمة على مستوى أدب اللسان وقيمة على مستوى أدب النفس، وهو من هنا كان بالفعل أول كتاب مدرسي في الثقافة العربية الحديثة». وإذ يقول الجابري هذا يشير إلى ما في فصول الكتاب من تناقض بين نصوص تركّز على «طاعة السلطان» وأخرى تركز على «خطر صحبته» وتندد «بميوله إلى الطغيان»، لافتاً إلى أن النصوص الداعية إلى الطاعة فارسية الأصل، والأخرى هندية الجذور... كما أشرنا كان لترجمة «كليلة ودمنة» في قشتالة ومن ثم إلى لغات أخرى أوروبية، لاتينية خصوصاً، تأثير كبير، وكتب كثيرون على منواله، من أ.ف. دوني (1525) في كتابه عن «الفلسفة الأخلاقية»، إلى لافونتين في حكاياته، مروراً بأمثال أ. فيرينزويلا من أصحاب حكايات الحيوان، ووصولاً ربما إلى جورج أورويل في القرن العشرين وكتابه الشهير «مزرعة الحيوان» الذي وضعه لينتقد من خلاله ومن خلال التنديد بكل فكر شمولي، بالستالينية التي كانت تمارس أقسى درجات القمع الداخلي في الاتحاد السوفياتيّ في ذلك الحين. ويعرّف ابن النديم، عبدالله بن المقفع في «الفهرست»، بأنه «روزويه بالفارسية، وهو عبدالله بن المقفع، ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو، فلما أسلم كنّيَ بأبي محمد» ويقول إنه «تقفّع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة، ضرباً مبرحاً فتقفّعت يداه». وأصله من خوز وهي مدينة في كور فارس. وعاش ابن المقفع في القرن الثامن وكان «في نهاية الفصاحة والبلاغة، كاتباً شاعراً فصيحاً» ولقد قتله سفيان بن معاوية حرقاً بالنار، بتهمة الزندقة. وهو كان «أحد النقلة من اللسان العربي إلى الفارسي مضطلعاً باللغتين فصيحاً بهما. وقد نقل كتبا عدة إضافة إلى «كليلة ودمنة» وكتاب «مزدك». وله كتاب الأدب الكبير وكتاب الأدب الصغير، المعتبران من أهم الكتب النثرية في التراث العربي. [email protected]