Polly Toynbee. Hard Work: Life in Low-Pay Britain. العمل الشاق: العيش في بريطانيا المتدنية الأجر. Bloomsbury,London. 2003. 242 pages. اذا كنت صحافياً جدّياً تعشق تقصّي الحقائق وتشغلك الأمور الاجتماعية ايضاً، واذا كنت تابعت عن كثب التقلّبات التي شهدها المجتمع البريطاني، فكيف تتعامل مع بريطانيا توني بلير؟ بولي توينبي، اسم معروف جداً في وسائل الاعلامية البريطانية، قرّرت المثابرة على تقصّي الحقائق والكتابة. بل ذهبت الى ابعد من ذلك فغاصت في لبّ الحياة البريطانية، في الثلث المنسي من مجتمع لندن الغارق في الفقر، حيث لا يزال صدى مقولة السيدة مارغريت ثاتشر "لايوجد شيء اسمه المجتمع" يتردّد الى ما لا نهاية. ليس من وقت أنسب لصدور هذا الكتاب من أيامنا هذه. لقد انتهيت من قراءته بينما كان التحضير جارياً لتظاهرات ضدّ الحرب في العراق. وهي تظاهرات رفعت شعارات مناهضة لتلك الحرب تعكس رفض الكثيرين للموقف الذي اراده بلير لبلاده. والحال ان بريطانيا تسجّل أدنى مستويات الإنفاق الاجتماعي وأعلى مستويات الفقر في أوروبا. وليست هذه الوقائع بخفيّة. وقد قرّرت بولي توينبي، لربط هذه الارقام بالواقع الذي تعانيه اليد العاملة الفقيرة 30 في المئة منها، أن تنضمّ، لفترة وجيزة، إلى اولئك العمال الذين يتقاضون أجراً متدنياً وتشاركهم تجربتهم. "سألت نفسها هذا السؤال البسيط: ما نوع الحياة الذي يمكنني ان اتوقعه لنفسي في حال قرّرت ان اعمل بكدّ، ولأكبر عدد ممكن من الساعات، تبعا للتعريف الذي اعتُمد مؤخراً للحدّ الادنى للاجور؟". وتصرفت من دون أي سذاجة او رومانسيّة تذرّ الرماد في العيون، وبوعي تام منها لكونها لن تتمكّن ابداً من تصنّع البؤس واليأس اللذين يعانيهما العمّال: "صحيح أنني سعيدة بتعرفي على حياة الشريحة الأخرى في شكل أوفى، لكن معرفتي هذه تزيد سعادتي بكوني من المحظوظين". هكذا، باشرت بولي مهمتها. حاولت العمل في المؤسسة الصحية الرسمية NHS التي كانت ذات يوم مؤسسة يعتدّ بها المجتمع البريطاني ومرآة تعكس صورة عنه للعالم الخارجي لا تشوبها شائبة. لكن ذلك كان قبل خصخصة المحافظين للهيئة وتمسّك حزب العمال بتلك الخصخصة بحماسة فريدة من نوعها. فالآن يتم التعاقد مع الشركات الخاصة لتأمين معظم الخدمات في مستشفيات الدولة بدءاً من التنظيف، مروراً بالطهو وانتهاءً بتسليم السلع والخدمات، ومن ضمنها الوظيفة التي سعت بولي إليها. لقد انضمّت الى الطاقم الذي نراه غالباً في رواق المستشفى، ذاك الذي يدفع بالكرسي المتحرّك او الأسرّة التي تنقل المرضى والجرحى، من قسم الى آخر. لكن كون المشاريع خاصة لا يعني، بالضرورة، أن الشركة غير الخاضعة للدولة تتحمّل وحدها المسؤولية. فسرعان ما اكتشفت بولي انها كناية عن مجموعة متنوّعة من الوسطاء والشركات الوسيطة التي تحاول جني الارباح بوصفه خدمة من جملة خدمات اخرى. فالوسيلة اليتيمة للحصول على عمل ككرّاج مع شركة "كاريّون"، احدى أبرز الشركات التي تؤمّن كرّاجين للمستشفيات الرسمية، هي اللجوء إلى وكالة توظيف. وهذه الاخيرة، وإن كان لا علاقة لها من قريب او بعيد بمعالجة المرضى او نقلهم، ابتكرت طريقة لائقة لجني الارباح من سوق خدمات موجّه للمستشفيات. وليس غرض وكالة التوظيف جني الارباح فحسب. فهذا امر معلوم، بل انها تخشى أن يُظهر العمال كفاءات لافتة في ممارستهم لمهماتهم بحيث تعطيهم المستشفى وظيفة دائمة، ما يعني حرمان الوكالة من حصتها في الأجور. وهي لا تهتم إلا بتأمين وظائف بدوام نصفي وغير ثابت. فثمة سقف محدّد مسبقاً لا يخول هؤلاء الذين لا حول لهم تخطّيه. وليس جني الارباح الشغل الشاغل للشركات الخاصة المعنيّة بخدمات نقل المرضى والطهو ليس في الامر أي سوء مبدئياً، سوى أنه يتعلّق بصحّة المرضى وآلامهم! بل هي تخشى كذلك ملاحقتها من احدى الشركات القانونية الخاصّة في حال وقوع أي حادث يتسبّب به العمال عند مساعدتهم المرضى على الجلوس أو عند نقلهم إلى الكرسي المتحرّك. وتوصّلت هذه الشركات الى حلّ يناسبها تماماً يقضي بتوقيع البوابين عقوداً تنصّ على عدم رفع المريض حتى لو وقع أرضاً على سبيل المثال. وفي خضم هذا كلّه، يضيع مفهوم العناية بالمرضى الاكثر هشاشة في متاهة الوكالات الصغيرة وأرباب العمل. "كنت أتقاضى مبلغ 174 جنيهاً استرلينياً لأسبوع كامل، ثماني ساعات في اليوم مع استراحة نصف ساعة ليس إلا أي ما يساوي 150.67 جنيهاً بعد اقتطاع الضريبة... بمعنى آخر كنت أنال 3.76 جنيه في الساعة. فإذا ما اضفت الى هذا المبلغ رسوم المجلس البلدي يكون أجري 3.45 جنيه في الساعة. ماذا يمكنني أن أبتاع بهذا المبلغ المتواضع؟ فساعة واحدة من العمل تؤمّن لي بعض الجبن البخس، أو ربع ساعة في عدّاد سيارة الأجرة بين منزلي ومكتبي، او علبة مسحوق غسيل او نصف تذكرة سينما. ينبغي أن أعمل ثماني ساعات لشراء حذاء عمليّ ومريح، وتسع ساعات لتذكرة لحضور مسرحية في مسارح "ويست اند"، ويومين لشراء نظارات جديدة ويومين آخرين لشراء تذكرة قطار للعودة من زيارة اقربائي في مانشستر". ولا شكّ في أنّ هذا الأمر مخجل للغاية، بل هو عار عندما يتعلّق الأمر بالعيش في لندن، عاصمة السلطة الاقتصادية الرابعة في العالم. لا شيء يبرّر جشع هؤلاء المتعطّشين الى الربح. وكلّما ازدادت الاسواق الحرّة تقلّصت رقابة الدولة، وكلّما ازداد عدد الوكالات، ارتفعت نسبة المنافسة وانخفض أجر اليد العاملة. وبحسب بولي توينبي لا ينبغي ان تكون الأمور على هذا المنوال بالضرورة. فهي تتحدّث بتبصّر عن تجربتها كعاملة في مطبخ مدرسة كبيرة يتمّ فيه تحضير الوجبات لأجيال شابة وتوفير حياة صحيّة سليمة لهم. ويتعرض هذا القطاع أسوة بغيره للخصخصة فيما تتنافس الشركات على تلك السوق. وغني عن القول ان من المفترض معرفة الطباخين الجيدة بالسلامة الغذائية ومسبّبات التسمّم وما الى ذلك. فعندما تطهو اللحم والحلويات للآلاف في وقت واحد، قد يؤدّي أيّ خرق للقواعد الصحية الى كارثة. إلاّ انّ هذه الشركات دخلت هذا المضمار حديثاً فبريطانيا ليست اميركا، ويحقّ لها التنافس كيفما شاءت بحيث تنتهي واحدتها اما بالعة للاخرى او مبلوعة منها. فالذين سيضمنون الارباح لهذه الشركات في تلك السوق التنافسية هم أولئك الذين يتقاضون الحد الادنى من الاجور الذين قبلوا التوقيع على عقد يتحمّلون بموجبه مسؤولية أيّ خرق يطاول قواعد النظافة يتبعون نصف ساعة من الدروس والتعليمات في هذا الشأن قبل شروعهم بمهماتهم. وفي حال إصابة أحد ما بتسمم يلاحَق العاملون لا الشركة. وتطرح توينبي السؤال: اولادنا في خطر، ومستشفياتنا، واهلنا الطاعنون في السنّ ونحن أيضاً في فترة لاحقة، فلماذا نتساهل في هذا الموضوع؟ أبسبب الايديوليوجيا؟ او خوفاً من ان يرفع السياسيون الضرائب؟ ام أنه اعتقاد جديد بأن كل صغير جيّد، ما يشجّع على دعم الشركات الصغيرة؟ منذ متى كانت الشركات الصغيرة أفضل من غيرها؟ فهذا النوع من الشركات لا ينفق، مثلاً، على الأبحاث التي تطوّر عمله، وغالباً ما تكون الرقابة فيها في أدنى مستوياتها، اما نقاباتها فنادرة، ويسهل فيها سلب المرأة حقوقها أسوةً باليد العاملة المهاجرة حديثاً. ذلك هو انتصار النموذج الاميركي. وبلير الحائر بين أميركا واوروبا، يمدّ احدى يديه غرباً وبالثانية يحاول الاحتفاظ بمساعدة الضمان الاجتماعي الأوروبية. لكن لو كان العمال الموكلون أصعب الوظائف وأقلّها جاذبية على الاطلاق يتقاضون اجراً معقولاً، لما احتاجت الدولة إلى تأدية دور فاعل الخير. ومن حقّ الأفراد في البلدان الغنية التمكّن من دفع الضرائب والتمتّع بمنزل مريح وحياة لائقة في الوقت عينه. شعرت بالحزن والأمل معاً عند قراءة كتاب بولي توينبي "العمل الشاق". بالحزن لأنني رحت افكر في الحياة البائسة التي يعيشها من يعمل اكثر من 48 ساعة في الاسبوع، وبالأمل لوجود امثال بولي البعيدين كلّ البعد من الشعبوية والديماغوجية، والملتزمين بهذا المجتمع القائم والذي يشكّل بقاؤه شرطاً أساسياً لحفاظنا على أفضل وجوه التمدّن. لقد استمتعت ايضاً بحسّ الفكاهة الذي يحتويه كتاب بولي، خصوصاً حين ذكرت كم كانت تخشى عند عملها في مكتب رسمي او وزارة كمنظفة، أو مربية اطفال... الالتقاء بسياسيّ بارز سبق ان اجرت معه، كصحافية، مقابلة مطولة. وأكاد أشعر بأنها، بهذا، كانت، بطريقة ما، تتلذذ بتلك اللعبة، وبأنّها حاولت المجازفة والاقتراب ما امكنها من الخطّ الأحمر. لكن من بين اولئك الذين في مراتب السلطة العليا، ينظر الى وجه المنظفة ومربية الاطفال والى سحنة هؤلاء الذين يرتدون المئزر؟