يبدو اليوم أن اطمئنان البعض إلى نهاية حقبة السرديات الكبرى، أو الايديولوجيات الجامعة والمتماسكة كالماركسية والفاشية والقومية والدين، في أعقاب انهيار المنظومة الاشتراكية مطلع التسعينات وحلول ما بدا كأنه واقعية جديدة، كان سابقاً لأوانه. وإذا كان الطرح الإسلامي، لا سيما في فروعه السلفية وفروع فروعه الجهادية وصولاً إلى التكفيرية، يستأثر بالساحة الفكرية العربية، بعد الاندثار الفعلي للطرحين القومي واليساري، فإن الساحة الفكرية الأميركية تشهد استفحال سردية كبرى لا تقل طموحاً ولا شمولية عن نظيراتها العربية. وفي حين أنه ليس لهذه السردية القائمة على الأحقية الأميركية والمسؤولية الأميركية اسم متعارف عليه، حيث أنها لدى أصحابها دعوة مجردة الى الحرية والديموقراطية، ولدى خصومها دعوة إلى إمَريالية جديدة، أو إلى إمبراطورية جديدة، فإنها قد نجحت بالفعل في الاستتباب في الثقافة الأميركية فكراً ومؤسسات، وفي التأثير الفاعل بالسياسة الأميركية. ولا شك أن العقائديين من المحافظين الجدد هم أنشط الداعمين لهذه السردية الكبرى. وجذورها الفكرية تعود بالتالي إلى اعتناق هؤلاء خطَ الرئيس الأسبق رونالد ريغان في تخليه عن الطابع الانعزالي الذي رافق الفكر المحافظ نظرياً، وخوضه معترك السياسة الخارجية وفق صيغة تسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بما يتناسب والمصلحة الوطنية الأميركية. وينسب المحافظون الجدد إلى هذا الخط الفضل في سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. وفيما يشكل عهد الرئيس السابق بيل كلينتون تراجعاً عن هذا الالتزام، في نظر هؤلاء المحافظين الجدد، فحلول عهد الرئيس الحالي جورج دبليو بوش قدم فرصة لوضع تصورهم مجدداً موضع التطبيق. وجاء اعتداء 11 أيلول سبتمبر 2001 ليمنح أصحاب هذا التصور حول عدم جدوى الانسحاب من الشأن الدولي وضرورة فرض الصيغة الملائمة على النظام العالمي، زخماً ودعماً انتقلا بتصورهم من كونه وجهة نظر خاصة ببعض العقائديين إلى اطار فكري صالح للثقافة الأميركية في خطها السائد. وثمة مفارقة هنا لا بد من الإشارة إليها عند متابعة سيرة أصدح دعاة هذه السردية الكبرى الجديدة، داخل الحكومة الأميركية وخارجها. فرغم أن هؤلاء ينشطون منذ فترة غير وجيزة لتحقيق مقومات دعوتهم، إلا أن نجاحهم الحالي الظاهر ليس قطف ثمار الجهود التي بذلوها بقدر ما هو حصاد طارئ لحالة فاجأتهم كما فاجأت سائر المجتمع الأميركي، واستنفدت معظم أشكال التحليل والتفسير المتداولة في الولاياتالمتحدة حول السياسة الدولية، ما عدا الصيغة التبسيطية شبه الخيالية أحياناً والتي تنادوا إليها، فكان أن استفادوا من الفرصة وتمكنوا من الاستقرار في الثقافة والسياسة. وتجدر الإشارة إلى هذه المفارقة لتوضيح العلاقة الملتبسة بين الخلفية والواقع. فبعض أهم الوجوه التي تحمل لواء الحرب والدعوة إلى "تغيير العالم بأسره" ضمن الحكومة الأميركية وفي العاصمة واشنطن، كانت قد ارتبطت بالتقرير المقدم إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتانياهو عام 1996 حول ضرورة إعادة تشكيل الشرق الأوسط ككل، دفاعاً عن استمرارية وجود إسرائيل وضمان نفوذها، وذلك انطلاقاً من إسقاط النظام القائم في بغداد وإحلال حكم مؤيد للغرب مكانه يكون على استعداد لتوقيع صلح وسلام مع إسرائيل، مع إطلاق يد الحكومة الإسرائيلية في إنزال الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية والتخلي عن اتفاقية أوسلو كإطار للحل، وإعادة ترتيب الأردن وإقراره وطناً بديلاً، وتمكين الحكومة الإسرائيلية من توجيه الضربات الموجعة لكل من سورية ولبنان لوضع حد لدعمهما للعمليات المعادية لها، وصولاً إلى نقل ساحة الصراع من اسرائيل إلى عمق الدول العربية المجاورة عبر دعم الحركات المعارضة لأنظمتها الاستبدادية والمطالبة بالحكم التمثيلي. وهذه الأفكار "الثوروية" هي نفسها اليوم الأفكار التي يعتنقها العقائديون من المحافظين الجدد. ويبدو أنهم في سبيلهم إلى وضعها موضع التطبيق الفعلي ابتداء بالحرب المتوقعة على العراق. وإذا كان من اختلاف فهو أن طموح هؤلاء العقائديين وجنوحهم نحو الخيال والخرافة قد ازداد منذ 1996، والحديث اليوم هو عن زرع بذرة "الديموقراطية" في العراق ورعايتها مع ترقب انهيار كافة الأنظمة المعادية في المنطقة من تلقاء نفسها، مع توق الشعوب إلى التمثل بالتجربة العراقية. فلا بد من التأكيد هناأن النجاح المفترض لهؤلاء العقائديين في جعل البرنامج المقدم لحكومة نتانياهو الإسرائيلية للعام 1996 البرنامج الفعلي على ما يبدو لحكومة بوش الأميركية للعام 2003، يعود بالدرجة الأولى إلى اقتناص الفرصة التي منحها لهم تنظيم "القاعدة" من خلال اعتداء أيلول، وليس إلى خطة محكمة وضعت موضع التطبيق وصلت بهم إلى موقع القوة. ولولا المعطيات الجديدة التي جاء بها هذا الاعتداء، لما رجحت كفة المحافظين الجدد في حكومة الرئيس بوش والتي يتمثل فيها "الواقعيون" بقوة. ولا حرج، لا في الأوساط السياسية في الولاياتالمتحدة ولا في الثقافة الأميركية ككل، أن يتماثل البرنامجان نتانياهو 1996 وبوش 2003. فالقناعة راسخة في أن العلاقة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل ليست علاقة مصالح وحسب، بل علاقة قائمة على المبادئ. فلا يغيب عن كافة السياسيين أن دوغلاس فايث وريتشارد بيرل وَول وولفوويتز وإليوت أبرامز من المؤيدين لإسرائيل ومن خلفية يهودية. لكن ذلك بحد ذاته لا يكفي للتشكيك بولائهم. فسجل خدمتهم للخط المحافظ، من منطلق أميركي بحت، قائم وثابت، وأية إشارة تكتفي بالتلميح إلى خلفيتهم الدينية وتأييدهم لإسرائيل تسقط على الفور، في معظم الأوساط الاميركية في خانة "العداء للسامية" أي التمييز الفئوي المعادي لليهود. والكثيرون من هؤلاء العقائديين من خلفيات فكرية يسارية، بل يشار أحياناً إلى غلبة الأصل التروتسكي على أبرز شخصياتهم. ويمكن استطراداً التنبيه إلى وجه الشبه بين الدعوة الأممية التروتسكية الساعية إلى ثورة شيوعية عالمية، وبين دعوة هؤلاء المحافظين الجدد الى نشر مبادئ الحرية والديموقراطية في كافة أصقاع الأرض. ووجه الشبه الآخر أن دعاة السردية الجديدة، كما أسلافهم اليساريون، ينشطون بإقامة منظمات واجهة. فالعاصمة الأميركية تحفل بمراكز الأبحاث والمؤسسات السياسية والثقافية التي تتعدد أسماؤها ومواضيع اهتمامها المفترضة، لكنها تشترك بأعضاء مجالس إدارتها وبتوجهها العام. وأبرز مراكز الأبحاث هذه معهد "أميركان أنتربرايز" والذي يسعى إلى استقطاب المفكرين العرب "المنفتحين". ويبدو أن معيار الانفتاح بالنسبة الى بعض المسؤولين في هذا المعهد هو مقدارالاستعداد للتخلي عن الموضوع الفلسطيني. والاهتمام بهذا الموضوع إنما من وجهة نظر محبذة للمصلحة الإسرائيلية، هو مهمة "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" الذي يتداخل بفعالياته مع معهد "أميركان أنتربرايز"، ويشكل أقوى حضور إعلامي وسياسي في الولاياتالمتحدة حول مسألة الصراع العربي الإسرائيلي. وتنسجم مع هذين المعهدين جملة من المؤسسات الأخرى من "لجنة تحرير العراق" إلى "منتدى الشرق الأوسط"، وترتبط بهما مجموعة من الدوريات لتشكل، في مجموعها، صخباً فكرياً وإعلامياً ينصب في اتجاه واحد، دون أن يكون على الساحة الفكرية الأميركية بديل واضح المعالم. غير أن غياب البديل الفكري الحالي لهذه السردية الكبرى التي يسوّقها العقائديون من المحافظين الجدد، لا يعني أن استتبابها لا عودة عنه. وإدراك الطبيعة الآنية لنجاح هذه السردية الكبرى يشير إلى منافذ للتصدي لها بالنسبة الى التقدميين في الولاياتالمتحدة. أما على الصعيد العربي، ففرص نجاح التصور الذي تسوّقه هذه السردية تعود إلى الأزمة القائمة في الحكومات والثقافة والمجتمعات العربية، بقدر ما تعود إلى جموح القوة والخيال الأميركيين. فإما أن يتبدل الواقع العربي من تلقاء نفسه، وفق الأطر التي تناسبه وبما يتفق مع مصالح مجتمعاته، أو أن يبقى عرضة للتغيير القسري الذي يخدم من يقدم عليه أولاً.