على رغم جهود التعبئة والتجييش التي تكللت بخطاب "حال الاتحاد" الذي القاه الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، لا تزال استطلاعات الرأي تشير الى تردد في اوساط الجمهور الاميركي ازاء الحرب المتوقعة في العراق، حيث تميل الاكثرية الى تفضيل تجنبها ما لم يقم الدليل القاطع على تورط النظام الحاكم في بغداد بأعمال ارهابية، او بتطوير اسلحة دمار شامل. فالتوزع الحالي لمدى تأييد الحرب ومناهضتها هو: اكثرية غير مؤيدة واقلية مؤيدة. غير انه لا بد من الاشارة الى فارق جوهري بين الطرفين، حيث ان غياب التأييد للحرب في اوساط الاكثرية لا يعكس تأصل الرأي المناهض الفاعل او ثباته لدى الجمهور الاميركي. ففيما تنطلق الاقلية المؤيدة من اعتبارات عقائدية ومن قراءات مبدئية للمصلحة الاميركية او لمصلحة الحلفاء المقربين اسرائيل خصوصاً، فإن الاكثرية المناهضة تبقى في معظمها هشة يغلب على طروحاتها طابع البساطة والعمومية. فهي بالتالي عرضة للتبديل. وقد لا يكون توزع الآراء في اوساط المثقفين الاميركيين مطابقاً من حيث المضمون لعموم الجمهور وان اتفق معه شكلاً، حيث الاكثرية معارضة للحرب. فالجانب المعارض يحظى بقدر واسع من الطروحات المركّبة التي تتصدى للمسألة العراقية تحديداً، وإن بصيغة مجزوءة ونمطية في غالب الاحيان. الا ان آراء المثقفين حول الحرب المرتقبة تندرج في غالبيتها العظمى في المعسكرات الفكرية المعتادة، أي ان "اليمين" الثقافي بمعظمه يؤيد الحرب، كما يؤيد سائر سياسات الحكومة الجمهورية الحالية، فيما "اليسار" الثقافي يعارضها، ويعارض معها معظم توجهات بوش وطاقمه. فمن المتوقع اذاً ان يقصد اليسار الملتزم أبرز وجوهه الناشطة، مثل نعوم تشومسكي وهاورد زن، طلباً للاستزادة من الآراء التي تعيد الحرب الى جنوح استعماري جديد ورغبة في السيطرة على منابع النفط، فيما يعمد اليمين العقائدي الى منظّري الخط المحافظ الجديد لادراج الضربة المتوقعة في اطار الحرب على الارهاب، بل في اطار "الحرب العالمية الرابعة" باعتبار ان الحرب الباردة كانت الحرب الثالثة، حيث يتصدى معسكر الحرية لقوى الاسلام السياسي، وفق المقولة التي تقدم بها الكاتب المحافظ البارز نورمان يودهورتز. الا ان ثمة خروجا عن هذه القاعدة، يعود الى النقاش الدائر في الثقافة الاميركية حول مفهوم "الحرب العادلة". ويذكر هنا ان هذا المفهوم كان في صلب الرسالة-البيان التي وجهها ستون مثقفاً اميركياً الى زملائهم في ارجاء العالم وفي الشرق العربي والاسلامي تحديداً. ويقع تعريف "الحرب العادلة" في الوسط بين طرفين احدهما الاتجاه السلمي الذي يعتبر ان الحرب شر اكيد لأن لا مفر معها من سقوط الضحايا الابرياء، والآخر اتجاه الواقعية السياسية التي تعتبر ان الحرب تعبير عن مصالح عملية ولا تخضع لاعتبارات اخلاقية. ونظرية "الحرب العادلة" تدعو الى الالتزام بجملة مبادئ تحدد شروط الاقدام عليها وتفاصيل خوضها، ابتدءاً من تقييد الشروع بها باستنفاد سائر السبل، وصولاً الى الزام احترام الكرامة الانسانية للخصم وتحريم الاعتداء على غير المحاربين والسعي الى تجنيبهم الأذى. ويشكل مايكل والتزر، وهو صاحب المؤلفات في موضوع "الحرب العادلة"، مرجعية رئيسية في هذا الصدد. وكان التزر، وهو المحسوب احياناً على "اليسار" الثقافي في الولاياتالمتحدة، قد دان هذا "اليسار" واتهمه بالضحالة الفكرية حين تعالت في أوساطه الاصوات المعارضة للهجمة الاميركية على افغانستان. وبخروجه عن الاجماع "اليساري"، كسر والتزر فعلياً الاندراج التقليدي في المعسكرات الفكرية بين يمين ويسار على اساس مخاصمة الحزب الحاكم. اما في الموضوع العراقي، فإن والتزر يرفض الزعم الرسمي الاميركي بأن الحرب المرتقبة حرب استباقية، ويعتبرها حرباً وقائية وحسب. أي ان الخطر الذي يشكله النظام الحاكم في بغداد على الولاياتالمتحدة ليس خطراً داهماً، بل هو خطر محتمل يمكن ان يعالَج دون اللجوء الى الحرب. فهذه الحرب التالي لا يمكن اعتبارها عادلة. ويشير والتزر، على سبيل المقارنة، الى ضرب اسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981، فيعتبره على الخلاف من الحرب الاميركية الموعودة عملاً استباقياً مشروعاً يمكن ادراجه في اطار "الحرب العادلة"، لوجود حالة عداء وحرب سابقة بين القطرين والتهديد المستمر الصادر من بغداد بحق اسرائيل. ولم يشكل والتزر ظاهرة فريدة، في انشقاقه عن الصف "اليساري" لتأييد حرب ردة الفعل على هجمة 11 ايلول سبتمبر، على اساس ان الاحتواء والردع لم يعودا كافيين. لكن والتزر اذا كان هو وصحبه قد انتقلوا من خطهم السابق الى وسط فكري جديد، فإنهم قد ساهموا بظهور حركة مماثلة من اليمين المعتدل في شأن الحرب المرتقبة في العراق، متجهة نحو معارضة النهج الذي تعتمده الحكومة. وعلى هذا الاساس صدر عن "معهد القيم الاميركية"، وهو المؤسسة التي تولت اعداد رسالة المثقفين الستين، بيان معارض للحرب وقعته مجموعة من الثقفين الذين ركنوا الى هذا الوسط الجديد من الجانبين اليميني واليساري. ومن أبرز هؤلاء فرانسيس فوكوياما صاحب مقولة "نهاية التاريخ"، واحد المنظرين الرئيسيين الذي يستفيد منهم الخط المحافظ الجديد والعقائدي. ويعترض البيان على الحرب المزمعة على اساس مخالفتها قاعدتين من قواعد "الحرب العادلة"، هما التناسبية بين الفعل وردة الفعل، والحصيلة الايجابية عند مقارنة الفوائد بالاضرار. فالنظام الحاكم في بغداد، وفق هذا المنظور، لم يقدم على عمل صريح يبرر شن الحرب عليه، وهذه الحرب إن حصلت سوف تتسبب بخسائر جمة في الارواح وأضرار واسعة للمصالح الاميركية، دون ان تجني فائدة فعلية لا يمكن تحقيقها بوسائل اخرى، أي بالاحتواء والتفتيش ومناطق الحظر الجوي. على ان هذه المعارضة للحرب تبقى في جوهرها اجرائية وليست مبدئية. اي انه في حال قدمت حكومة الرئيس بوش تصوراً اكثر تماسكاً لأغراضها من الحرب او تصورها لسبيل خوضها، فإن الباب مفتوح لاستقطاب دعاة "الحرب العادلة". ويصل وليام غالستون، استاذ الفلسفة والسياسة العامة، ومستشار الرئيس السابق بيل كلينتون، واحد الموقعين على بيان "معهد القيم الاميركية"، الى حد التصريح بذلك. وغالستون، كما والتزر، من المحسوبين على اليسار الذين ساندوا سياسة حكومة الرئيس بوش في افغانستان وعموم الحرب على الارهاب، ثم اعترضوا عليها في الموضوع العراقي. ففي ندوة اقيمت في العاصمة الاميركية واشنطن في مطلع تشرين الاول الماضي، اشار غالستون الى امكانية ابقاء هدف "تغيير النظام" في اطار "الحرب العادلة" لكن ذلك، برأيه، يستوجب التزاماً صريحاً من الحكومة الاميركية بدور بنّاء فاعل في العراق ما بعد الضربة، وربما احتلال له على مدى اعوام، على غرار ما حصل في اليابان في اعقاب الحرب العالمية الثانية. وموقف غالستون هذا يشير الى امكانية لاستقطاب دعاة الحرب العادلة باتجاه تأييد الضربة الاميركية، لا على اساس تلطيفها، بل على اساس توسيع نطاقها الزمني والاداري، بما يتناسب مع اقصى طموحات العقائديين الساعين الى "تغيير العالم بأسره". فالثابت في اعتراض غالستون وصحبه على الحرب ليس الاعتراض بحد ذاته، بل عدم اتفاق الحرب مع مفاهيمهم، فاذا تم التوافق زال الاعتراض. والمثقفون الاميركيون قل ان يستعرضوا الحجج الداخلية العراقية التي قد تبرر عملاً معادياً للنظام الحاكم في بغداد. والحكومة الاميركية، وهي الضالعة بتأييد هذا النظام خلال فترة ارتكابه أشنع جرائمه، تتجنب على الغالب، التطرق الى هذه الحجج بما يتعدى المزايدات الدعائية. وقد يعود جزئياً غياب الثقافة الاميركية عن إدراج الواقع العراقي الداخلي في معترك نقاشها لصوابية الحرب المرتقبة الى اهمالها العام لما لا يطال المجتمع الاميركي مباشرة، لكنه يعود ايضاً الى جهلها تفاصيل الواقع العراقي. ويشترك بهذا الجهل السائد المثقفون الاميركيون من كافة الميول. فتسويق التفاصيل في هذا المضمار، سلباً وايجاباً، يمكن ان يؤدي الى تبديل في المواقف، ليكشف عن هشاشة في الثقافة الاميركية ازاء الحرب، كما في عموم مسائل المجتمع.