ورد في المأثور: "ومن لم يمت بالسيف مات بغيره/ تعددت الاسباب والموت واحد". كان هذا في الماضي الغابر. غير ان المأثور العربي، كغيره من كل ما يمت بصلة الى الوجود العربي، تبدل الآن في هذا العصر، اذ ان الموت العربي تعددت اوجهه، بينما اتحدت الاسباب حتى اضحت واحداً. وعلى رغم الظاهر العنفي لهذا البيت من الشعر الذي ترعرعت عليه وفيه اجيال من الطلاب العرب، من المحيط الى الخليج، فإن باطنه اجدى بأن يُسبر ويؤخذ به. والآن، ما هي اوجه هذا الموت العربي المتعدد؟ إذا وضعنا جانباً الهجرة الناجمة عن اسباب سياسية قمعية، فإن نسبة كبيرة من الهجرة العربية الى خارج الاوطان هجرة اقتصادية في الاساس، أي هي هجرة بحثاً عن اسباب العيش. وهذه الحقيقة تعني ان النظام السياسي العربي، وطوال عقود مما أُطلق عليه "تحرر وطني"، لم يفلح حتى في الابقاء حتى على المأكل والمشرب لدى الناس. واذا اخذنا بنظر الاعتبار الموارد الاقتصادية الهائلة القائمة فعلاً في الاوطان العربية، فإن هذه الحال تشير الى وضع يقف ازاءه الانسان العربي منذهلاً، ان لم يكن ابعد من ذلك. ان هذا "التحرر الوطني البلاغي"، ربما حرر طوال العقود الاخيرة فئات معدودة من العرب بتثبيتها في السلطة، وتحريرها من مسؤولية المساءلة الديموقراطية. وهكذا ظلت هذه الفئة جاثمة فوق الصدور، مختبئة وراء شعارات تنحي بلائمة تردي الاوضاع على الاستعمار والصهيونية العالمية واسرائيل، وما الى ذلك من ذرائع سائغة على اللسان العربي كان هدفها دائماً عدم التنحي عن هذه السلطة. وما من شك في ان هنالك كثيرين من ذوي النوايا الحسنة في هذه البقعة العربية او تلك، غير ان النوايا الحسنة لا تكفي لتغيير هذه الحال المزمنة، والولوج في طريق تفضي الى الخلاص من هذه الحال العربية المرضية. فعلى الفرد العربي ان يسأل نفسه مرة واحدة تلك الاسئلة الحقيقية. هل الصهيونية هي المسؤولية عن وضع الامية في العالم العربي؟ وهل الاستعمار هو المسؤول عن الوضع المتردي للطفل العربي وللمرأة العربية؟ وهناك الكثير الكثير من هذه ال"هل"، حول قضايانا. في هذا العصر، وبعد انتشار ثورة التقانة العارمة في انحاء الارض، لم تعد اسباب المأكل والمشرب كافية للانسان. كما ان المعارف هي التي تطور اسباب المأكل والمشرب. ولما كانت المعارف غائبة او مغيبة عن الفرد العربي بإمرة السلاطين، فإن الامراض تتراكم فوق بعضها البعض، فتنشأ مجتمعات بأكملها من ذوي العاهات الاجتماعية النفسية السياسية والتي تشكل عالة على المجتمعات البشرية الاخرى. وهكذا، وصلت هذه المجتمعات العربية الى وضع لا يلتفت معه العالم اليها. لقد ورد في المأثور ايضاً ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. لن يلتفت العالم ايضاً الى العرب إن لم يلتفتوا الى انفسهم، ولكن، لات ساعة التفات. اليس من حق المواطن العربي في كل مكان ان يتساءل علانية عما الحقت به من ماسٍ كل هذه الدويلات الاقليمية؟ اليست هذه في النهاية هي دويلات صنيعة الاستعمار، وليس أي شيء آخر يعود الى هوية قومية حقيقية لها مبرراتها الاقليمية الوطنية. اليس من حقه ان يشاهد وان يقرأ وان يسمع ما لدى قادة هذه الدويلات من افكار وتصورات وحلول للقضايا التي تواجهه في هذا العصر؟ وحتى متى سيظل الباحث العربي عن حقيقة ما يجري في الساحة العربية مضطرا الى الذهاب الى وسائل اعلام غربية، وحتى اسرائيلية، لمعرفة خوافي الامور العربية؟. كل هذه التساؤلات تراودني بعد ان شاهدت على شاشات الفضائيات العربية، ربما كغيري من المازوخيين العرب، الجلسة المفتوحة لمؤتمر القمة في شرم الشيخ. إذّاك قرر من قرر في اروقة العرب الظلماء قطع البث الحي، لتعود الشاشات الفضائية الى الاستوديوهات عارضة مواد ارشيفية، راقصة احيانا على مشاهد الموت العربي في كل مكان. ان قطع البث الحي هو في جوهره هذا السبب في تعدد الموت العربي. طوال عقود من الزمن تحاول الدويلات العربية قطع الحقيقة عن مواطنيها. انها تحاول هندسة الحقائق على مقاساتها، فماذا تبقى لمن يبحث عن خوافي الامور وحقائقها؟ يبدو ان الحكومات العربية هي الوحيدة في هذا العصر التي تفرض اخفاء الامور عن مواطنيها، فكل وسائلها الاعلامية رسمية او شبه رسمية. وهذا الذعر السلطوي العربي من اظهار الحقيقة علانية امام المواطن العربي هو السبب في تعدد الموت العربي. السنا بحاجة الى انقلاب ذهني؟