"وسط البلد" عبارة يعرفها كل سكان القاهرة من دون استثناء ويعلم الجميع انها تشير الى تلك البقعة الاستراتيجية التي يحكي كل ملليمتر فيها الكثير من تاريخ مصر الحديث وحاضرها. وعلى رغم ان السياح العرب يغفلون "وسط البلد" مفضلين عليه الاماكن الاخرى الاكثر حداثة، الا ان السياح من الجنسيات الاخرى يحرصون كل الحرص على تمضية عدد من الساعات فيها، ان لم يكن الاقامة فيها منذ وصولهم الى القاهرة. "وسط البلد" يتكون من عدد كبير من الشوارع الرئيسية والفرعية التي تقع في "وسط القاهرة" لعل اهمها وأبرزها شوارع: طلعت حرب وقصر النيل وعبدالخالق ثروت وعدلي و26 يوليو وألفي بك ويحوي شارعا طلعت حرب وقصر النيل وكلاهما طوله نحو كيلومتر واحد العدد الاكبر من فنادق القاهرة الرخيصة، ومكاتب شركات خطوط الطيران العالمية ووكالات السفر والسياحة. ويعود تخطيط "وسط البلد" كما يبدو اليوم، الى عهد الخديوي اسماعيل في ستينات القرن التاسع عشر. وكان أمر بإعادة بناء المنطقة على غرار شوارع باريس الجديدة ذات الاشجار الكثيرة والجادات الواسعة، لتبدو في صورة لائقة أمام الشخصيات العالمية الكبيرة التي وجهت اليها الدعوة لحضور حفل افتتاح قناة السويس. ويمكن القول ان تلك المنطقة كانت على مدى عقود طويلة مؤشراً اجتماعياً واقتصادياً وكذلك اخلاقياً لأبرز التحولات والتغيرات التي مر بها الشعب المصري. بل ان المظهر العام ل"وسط البلد" كان في كل حقبة يعكس الكثير من الارهاصات التي وجدت طريقها الى وجدان مصر بشكل تعجز الكتب والألسنة عن نقله. فقبل 50 عاماً كان شارع طلعت حرب حينئذ شارع سليمان باشا اقرب الى شوارع المدن الاوروبية الكبرى: اشجار متلاحمة على الجانبين، ومقاه على الارصفة، ونظافة تضاهي شوارع لوزان. ويقال ان هذا الشارع شهد احدى اكبر نقاط التحول في تاريخ مصر الحديث، وتحديداً في مقهى "ريشة". فهناك من يجزم بأن الضباط الاحرار خططوا لقلب نظام الحكم الملكي في مصر في ذلك المقهى قبل ما يزيد على ستة عقود. وهناك من يؤكد انهم الضباط الاحرار كانوا يستخدمون هواتف من مقهى "غروبي" للاتصال ببعضهم البعض للغرض نفسه. وعلى رغم استمرار الوجود الفعلي لهذين المقهيين، إلا أنهما خضعا لتغييرات وتحولات عدة. ف"غروبي" الذي كان يوماً الافضل في عمل الحلويات الاوروبية وكعكات الافراح واعياد الميلاد وانواع الشوكولاتة الفاخرة، وكان لا يجرؤ على دخوله سوى الطبقات الأرقى والاغنى من المصريين والاجانب، اصبح اليوم محلاً عادياً لا يشتري منه سوى اولئك الذين يعجزون على مسايرة عصر ما بعد الانفتاح، اقتصادياً واجتماعياً. إلا أن مقهى "غروبي" يبقى مع ذلك متخماً دائماً بالثنائيات الشابة الراغبة في تبادل كلمات الغرام والهيام مع فنجان شاي وقطعة كيك اجبارية يزرعها النادل المسن امام المحبين ولسان حاله يلعن الزمن الأغبر الذي اجبره على خدمة افرازات العولمة، بعدما كان يقدم افخر المأكولات والمشروبات للباشوات والنبلاء. وعلى يمين المدخل الرئيسي ل"غروبي" بعمدانه الأنيقة الشاهقة، يقف احد أبرز بائعي الجرائد والمجلات الأجنبية، وتقبل عليه اعداد كبير من المهتمين بأنواع الثقافة المختلفة، لا سيما انه يحتفظ باعداد كبيرة من المجلات التي تسهب في عرض الصفات التشريحية لقدود الجميلات. وعلى مرمى حجر، يقف المحامي الوطني طلعت حرب 1876 - 1941 يراقب احفاده من المصريين ويحاول ان يفك شفرة الاقتصاد المصري المتعثرة الذي ارسى دعائمه بتأسيس "بنك مصر". وفي هذا الميدان ايضاً تقع مكتبة مدبولي المشهورة، وهي مقصد يومي للمئات من المثقفين والاكاديميين المصريين والعرب. وهم يجدون في تلك المكتبة الصغيرة المكدسة كل ما يطمحون اليه من كتب في شتى العلوم والفنون. أما شارع قصر النيل فهو العصب المتاخم لشارع طلعت حرب، والذي كان قبل ما يزيد على مئة عام مضمار سباق. ويحوي حالياً محلات ملابس واحذية متلاصقة تتناحر للاحتفاظ بما تبقى من اعداد صغيرة من المتسوقين، وذلك بعدما انجذبت الغالبية الى المراكز التجارية التي تتوالد يوماً بعد يوم في احياء مصر الجديدة ومدينة نصر والمعادي والزمالك. كما يحفل هذا الشارع بعدد من المكتبات المتخصصة والمقاهي التي كانت بارات في الخمسينات والستينات. ولعل شارع عبدالخالق ثروت احد اكثر شوارع "وسط البلد" احتفاظاً بطابعه المعماري القديم الانيق. وفي يقوم اكبر تجمع لمحلات بيع الذهب والالماس بعد خان الخليلي الا ان اسعار الاخير اقل بكثير من مثيلاتها في شارع عبدالخالق ثروت. وفي هذا الشارع مبنى سكني مشيد على الطراز الاداوردي الجرماني الجديد، وذلك في تقاطع شارعي عبدالخالق ثروت ومحمد فريد. ويقع في شارع عدلي المعبد اليهودي ذو الحراسة المكثفة على رغم ندرة استخدامه. وعلى بعد ناصية منه يقوم المكتب السياحي الرئيسي بالاضافة الى شرطة السياحة. وعلى الجهة المقابلة، فرع آخر ل"غروبي" الذي يحمل هو الآخر آثاراً مضمحلة لزمن مضى. وكان هذا الفرع ل"غروبي" اثناء الحرب العالمية الثانية احد الاماكن القليلة النادرة التي تفتح ابوابها للجنود البريطانيين العاديين، اذ كانت الرتب البريطانية الكبيرة تمنع اختلاط الرتب الصغيرة بهم اجتماعياً، لكنه اليوم يستقبل الجميع لا سيما الصحافيين والشبان والشابات المتعلقين بأذيال الطبقة المتوسطة. وفي نهاية شارع عدلي وفي اتجاه ميدان الاوبرا حيث كان ينتصب فندق "كونتيننتال سافوي" يستطيع السياح والاجانب شراء مختلف انواع الحيوانات بدءاً من البواء الافعى الكبيرة وانتهاء بانواع النمور المختلفة، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى. وفي ذلك الفندق اقام "اورد وينغات" العبقري العسكري الشاذ الذي حرر الحبشة من الحكم الايطالي لصالح الامبراطور هايلي سيلاسي. اما اكثر شوارع "وسط البلد" ازدحاماً فهو "شارع 26 يوليو" ويعتبر اسم هذا الشارع نفسه تأكيداً للمثل الشعبي القائل بأن "الدنيا يوم لك ويوم عليك" اذ كان الشارع يعرف باسم شارع فؤاد الاول ابن الخديوي اسماعيل. وتغير اسمه ليخلد تاريخ تنحي الملك فاروق عن الحكم في اعقاب ثورة 23 تموز يوليو 1952. ويحفل هذا الشارع الذي يمتد من حديقة الازبكية عابراً نهر النيل الى حي الزمالك بعدد كبير من الفنادق والبانسيونات الرخيصة، بالاضافة الى فندق "غراند" الذي كان يوماً اسماً على مسمى إي "عظيماً". وعلى مقربة من شارع 26 يوليو "شانزليزيه القاهرة" كما يحلو لرواده من سكان القاهرة ان يطلقوا عليه بدلاً من اسمه الحقيقي: "الفي بك". وفي اوله من جهة ميدان عرابي، تتلاصق محلات الفول والفلافل والكباب السريعة التي تخلو من زبائن على مدى ساعات اليوم ال24. وينتشر هنا ايضاً عدد من الفنادق الصغيرة والمقاهي الحديثة والقديمة. وبين الحديث والقديم تتأرجح منطقة وسط البلد ايضاً، تلك المنطقة التي شهدت الكثير والكثير، ففيها كانت دور السينما الراقية التي يؤمها سكان القاهرة في عطلات نهاية الاسبوع مثل راديو ومترو وديانا وريفولي، والتي تحولت عبر عقود الانفتاح والخصخصة والعولمة الى اماكن لعرض أفلام ال"أكشين" الأجنبية والمصرية على غرار "التيك اواي". وهنا ايضاً محلات الحلويات الشرقية والغربية التي لم تكن لها أي فروع سوى في "وسط البلد"، وكان المصريون يأتون اليها من كل صوب لتناول طبق "عيش سرايا بالقشدة" او "بسبوسة بالفستق" وذلك قبل ان تنتشر محلات الحلويات في كل ركن مقدمة خدمة توصيل المنازل. وشهدت منطقة "وسط البلد" ايضاً ارتفاع الجنيه المصري وهبوطه واحياناً اختفاءه. وكانت المنطقة شاهداً على قوته قبل عقود، ثم حفلت شوارعها الخلفية بخلايا السوق السوداء لبيع الدولار وشرائه، ثم قدمت مصارفها خدمة تغيير العملات الأجنبية طبقاً لنسب معلنة، واخيراً شاهدت المنطقة الجنيه وهو "يعوم" باحثاً عن طوق النجاة.