أزاح وسط القاهرة القديمة الغبار والفوضى عن مبانيه التي استعادت بريقها مرة أخرى، بعد أن طليت من جديد، واكتحلت أعين المارة القاهريين بلمعان وجمال المكان عقب مشروع بدأته الحكومة المصرية يهدف لإعادة تنظيم وسط العاصمة المصرية الذي شهد ولسنوات وقوع مواجهات وتظاهرات استمرت لأعوام متتالية، حتى صارت هذه الأحداث سمة بارزة للمنطقة التي أرهقها الصخب والتجمعات السياسية، وهو ما أدى لضياع ملامح «وسط البلد» كما يطلق عليه المصريون هنا، وكادت ملامح مبانيه القديمة المبنية على الطراز البلجيكي والفرنسي الأنيق أن تنمحي، لينهي أخيرا مشروع حكومي طموح تلك الحالة بتنظيم المكان وترميم وطلاء مبانيه التي منحت القاهرة قبل قرنين من الزمان لقب «باريس الشرق». ملامح ونتيجة لأعمال الترميم الطموحة التي أخذ المسؤولون المحليون في إنجازها باصرار، بدأت تلك الترميمات تظهر نتائجها في الظهور عقب الانتهاء من المرحلة الأولى للمشروع الهادف لتطوير وسط القاهرة أو وسط البلد، بعد أن انطلق هذا المشروع في يناير من العام 2015، وتبلغ تكلفته حوالي 600 مليون جنيه. واعطت الالوان القرمزية والزهرية للمباني التي جرى تجديدها روحا جديدة للشوارع التي خططت ارضياتها ضمن مشروع التجديد بعلامات المرور البيضاء والصفراء لتسهيل حركة المشاة والسيارات على حد سواء. وعبر السنوات الخمس الماضية، أرهقت التظاهرات المستمرة والمواجهات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الامن وسط القاهرة بكامله، وتحول «وسط البلد» إلى ساحة للنزال، استخدمت فيه الحجارة وزجاجات المولوتوف والرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع، وذلك بشكل لم ينقطع، وهو الأمر الذي سبب الكثير من الجروح في قلب المدينة العتيقة التي اسسها القائد الفاطمي جوهر الصقلي قبل اكثر من ألف عام. القاهرة الخديوية ويطلق على وسط القاهرة «القاهرة الخديوية»، وهي المنطقة التي تبدأ من كوبري قصر النيل، وتنتهي في حي العتبة، وأنشأها الخديوي اسماعيل الذي حكم مصر في الفترة من عام 1863 حتى عام 1879، وكان الخديوي يطمح لأن تصبح العاصمة القاهرة«باريس الشرق». وتضم منطقة القاهرة الخديوية 421 بناية، وتمتد في مساحة تبلغ 700 فدان، وهي في مجملها تعتبر قطعة اثرية نادرة يقصدها السياح القادمون من مختلف دول العالم اثناء زيارتهم لمصر، وتتوزع هذه البنايات باختلاف طرازها المعماري ما بين الفرنسي والإيطالي والفيكتوري والإسلامي كذلك. المباني تستعيد شبابها وتتضمن المرحلة الأولى للمشروع تطوير مباني شارعي قصر النيل والألفي وميدان عرابي الذي جرى منع مرور السيارات فيه ليصبح مخصصا للمشاة فقط، وشملت أعمال الصيانة والترميم وضع دكك رخامية في منتصفه تلتف حوله أعمدة كهربائية معدنية خضراء ما يعطي ضوؤها ليلا رونقا خاصا، فيما يجري العمل على توحيد واجهات الكثير من المحلات التجارية بالبنايات التي تم ترميمها لتتناسب مع لون الطلاء الفاتح المستخدم، وابرز الطلاء الجديد جمال تصاميم تلك البنايات المصممة على ايدي امهر المعماريين البلجيكيين والايطاليين والفرنسيين، والتي كانت مختبئة لعقود خلت تحت اكوام من التراب لتستعيد شبابها مجددا بشكل جديد، وشملت أعمال الصيانة كذلك إزالة الاتربة والنفايات، وبالمجمل قامت السلطات بازالة كل مظاهر الفوضى التي كانت تضرب باطنابها هنا، وجرى نقل مئات من الباعة الجائلين الذين كانوا يحتلون كامل شوارع قلب وسط القاهرة إلى مناطق أخرى، ومنع انتظار السيارات داخل شوارعها، علاوة على إلزام اصحاب المحال التجارية بتوفير سلة للقمامة امام كل محل. سعادة بالنظام الجديد وبدا أصحاب المحال التجارية أكثر سعادة بهذا المشروع، الذي أكسب «وسط البلد» حلة جديدة، وظهر المكان وكأن مدينة القاهرة غيرت من هندامها بآخر جديد رائع التصميم والحياكة، وذلك بعد الفوضى الكبيرة التي شملت منطقة وسط القاهرة خلال الاعوام الماضية، وتضرر منها أصحاب المحال التجارية كثيرا. ويقول مصطفى سيد وهو رجل خمسيني، وصاحب احد هذه المحال التجارية بشارع طلعت حرب «نحن الآن سعداء جداً بما اصبح عليه وسط القاهرة»، وقال ان الحكومة نجحت في القضاء على الفوضى العارمة التي كانت ابرز سمات وسط البلد. وكانت الحكومة وعقب افتتاح جراج التحرير في يناير 2015 قامت بإلغاء انتظار السيارات بشوارع وسط القاهرة، وذلك للحد من التكدس المروري الذي يصيب شوارعها خاصة في أوقات الذروة نهارا، واشار مصطفى الى ان اصحاب المحال التجارية تعاونوا مع السلطات في هذا المشروع لشعورهم بجديته. خروج الباعة الجائلين وفي نتائج واضحة لمشروع اعادة تأهيل وسط القاهرة، فقد أضحت شوارعها خالية من الزحام المروري نتيجة لترحيل الباعة الجائلين الذين كانوا يحتلونها ببضاعتهم الى مناطق اخرى، وكانوا يتسببون في ضوضاء لا تتوقف ليلا ونهارا، واصبح من السهل الترجل والاستمتاع بمظهر البنايات التراثية التي جرى اضاءتها بشكل يبرز رونقها، وقال مصطفى بحماس «بالطبع تعاونا مع الحكومة، فالتطوير يصب في مصلحتنا»، واعتبر أن أهم ما في هذا المشروع هو نقل الباعة الجائلين الذين حولوا شوارع القاهرة لسوق محلي اساء لشكلها الحضاري، وجعل السياح ينفرون من المكان، واضاف قائلا: انتظار السيارات في اي مكان داخل القاهرة حولها الى جراج كبير، واصابنا بالاكتئاب، ولكن الآن وبعد منع السيارات من الانتظار في الشوارع الرئيسية لوسط القاهرة اصبحت هناك سيولة مرورية كبيرة. من جهتها تقول السائحة الانجليزية الاربعينية آن ويبر «الآن أستطيع الترجل في وسط القاهرة في اي وقت بعد ما كان الباعة الجائلون يحتلون نهر الطريق والارصفة طوال اليوم»، وتضيف آن «بلا شك التطوير الجديد اعاد للقاهرة رونقها مرة اخرى خاصة وانه خلال المرات الماضية لم اكن استطيع الدخول الى شوارع القاهرة بسبب الزحام اما الآن فيمكنني القيام بذلك، كما يمكنني ذلك من الاستمتاع بقضاء وقت بوسط المدينة». إغلاق منطقة المقاهي وشرعت السلطات اعتبارا من العام الماضي، في اغلاق عشرات المقاهي التي كانت معقلا للناشطين الشباب في قرار اثار الجدل حوله، وتعرف هذه المنطقة باسم «مقاهي البورصة». ورغم ان مراقبين يقولون ان القرار له بعد سياسي للحد من اماكن تجمع النشطاء المعارضين للحكومة، الا ان عددا كبيرا من اهالي المنطقة تحدثوا للصحيفة معربين عن رضاهم من القرار الحكومي موضحين ان المقاهي التي كانت تعمل حتى الفجر، تسببت في احداث القلق والفوضى، وأحدثت مشاكل لسنوات عديدة، إلا أن السلطات هنا سمحت ببقاء مقاه اخرى في شوارع مختلفة خاصة في تلك التي تم تحويلها لشوارع للمشاة فقط، مثل شارع الألفي وميدان عرابي. وطبقاً لمحافظ القاهرة الدكتور جلال السعيد فانه تم تقسيم المرحلة الأولى للعمل بمشروع تطوير القاهرة الخديوية إلى ثلاثة محاور تتضمن ثلاثة قطاعات، الأول خصص كشارع للمشاة وهو شارع الألفي وميدان عرابي، بينما القطاع الثاني يتمثل في المنطقة التي تضم ميداني طلعت حرب ومحمد فريد وشوارع قصر النيل وطلعت حرب برفع كفاءة الشارع والأرصفة وإعادة واجهات العمارات والمحلات. أما القطاع الثالث فيتمثل في شارعي التحرير وميدان عابدين. وقال سعيد في تصريحات للصحافيين بديوان الوزارة «وسط المدينة كنز معماري لا بد من الحفاظ عليه وإعادته إلى رونقه القديم، والذي لم نتمكن من اعادته لحالته دون اتخاذ إجراءات تنفيذية موازية لعملية التطوير بوسط المدينة». وأوضح المحافظ قائلا «جرى نقل الباعة الجائلين بمحيط المنطقة كاملة وآخرها ميدان رمسيس، ثم افتتاح جراج التحرير، ثم أعقبها منع الانتظار تدريجيا في عدد من الشوارع، منها امتداد شارعي طلعت حرب وقصر النيل على الجانبين، بالإضافة لشارعي 26 يوليو وقصر العيني وصولا لمنع الانتظار نهائيا». الحلم بمدينة عالمية وفي السياق قال ل «اليوم» محمد أيمن عبدالتواب نائب محافظ القاهرة للمنطقتين الغربية والشمالية، ان الهدف من مشروع تطوير القاهرة الخديوية، هو اعادتها مرة اخرى لخريطة المدن العالمية، خصوصاً وانها تعد واجهة لمصر امام العالم، ومن ثم فكان من المستحيل ان يتم تركها بهذا الشكل، فيما تمنى عدد كبير من المواطنين العابرين بوسط القاهرة ان تمتد حملة التطوير هذه لتشمل احياء اخرى من العاصمة. وتثير خطط الحكومة الجارية حاليا لرصف عشرات الشوارع بالقاهرة تفاؤلا كبيرا بالنهوض بمستوى الطرق في مصر، خاصة مع اطلاق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مشروعا قوميا لتنفيذ طرق جديدة عبر البلاد.