ازدواجية المعايير في سياسات الدول الكبرى الخارجية مسألة معروفة ولها تاريخ طويل. وما يميز ازدواجية السياسة الخارجية الأميركية وضوحها وصراحتها خصوصاً في تعاطيها شؤون الشرق الأوسط. وازداد هذا الوضوح بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر وبدء الولاياتالمتحدة ما سمته "الحرب على الإرهاب". وتتمثل الازدواجية في سياسة الدولة في تطبيق معايير للتعامل مع دول أخرى تختلف عن المعايير التي تطبقها على نفسها، أو في تطبيق معايير تختلف بين دولة وأخرى. وانطلاقاً من هذا التعريف فان الأمثال عن ازدواجية السياسة الأميركية كثيرة. ليس الغرض هنا التركيز على مساندة الولاياتالمتحدة أنظمة استبدادية في دول صديقة ومحاربتها أنظمة اكثر ديموقراطية في دول أخرى، أو على تدخلها في الشؤون الداخلية لبعض الدول لاستبدال أنظمة عسكرية استبدادية بأنظمة منتخبة ديموقراطياً، كما حصل في إيران مطلع الخمسينات عندما دبرت بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية انقلاباً على رئيس الوزراء، محمد مصدق، واستبدلت به الجنرال زاهدي ثم ساندت الشاه رضا بهلوي ودربت أجهزة استخباراته القمعية. أو كما حصل في تشيلي عندما دبرت واشنطن انقلاباً على الرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديموقراطياً وأحلت محله زمرة عسكرية يترأسها الجنرال اوغستو بينوشيه أحد اكبر الطغاة الذين عرفتهم أميركا اللاتينية في تاريخها. وما نريد التركيز عليه في المقابل هو ما يحصل للديموقراطية وحقوق الإنسان داخل الولاياتالمتحدة نفسها عندما تواجه خطراً حقيقياً أو متوهماً. فبعد أحداث 11 أيلول بستة أسابيع، اصدر الكونغرس الأميركي قراراً تحت عنوان "القانون الوطني الأميركي" US Patriot Act يعطي قوى الأمن صلاحيات يعتبرها الكثيرون من القانونيين الأميركيين مخالفة للدستور. إحدى هذه الصلاحيات تسمى "تسلل واختلس النظر" Sneak and peek التي تسمح لقوى الأمن بالدخول خلسة إلى المنازل والمكاتب لتفحص الأشياء الخاصة واحتجاز بعضها أو التلاعب فيها من دون إعلام أصحابها. وفي 13 تشرين الثاني نوفمبر 2001 صدر قرار جمهوري، تبعته تفسيرات من وزيري العدل والدفاع، يسمح للرئيس بان يأمر باعتقال أي شخص يكون لديه "سبب للاعتقاد" بأنه ينتمي إلى تنظيم "القاعدة" أو بأنه اشترك في عمل "إرهابي دولي" موجه ضد الولاياتالمتحدة أو آوى عن سابق معرفة أي شخص من هذا القبيل حتى ولو حصل ذلك منذ عشرات السنين. ويجيز القرار لقوى الأمن احتجاز هؤلاء الأشخاص من دون محاكمة والى أجل غير مسمى، وإذا تقررت محاكمتهم فتكون أمام "لجنة عسكرية" مؤلفة من خمسة ضباط يعينهم وزير الدفاع وتتبع إجراءات يحددها الوزير نفسه، ولا يتمتع المتهم بمبدأ انه بريء إلى أن تثبت إدانته كما لا يحق له انتقاء محاميه أو التكلم معه على انفراد أو سماع التهم الموجهة إليه. وتكون المحاكمة سرية تماماً لا يفصح فيها حتى عن أسماء القضاة، كما أن حكمها ليس قابلاً للاستئناف سوى أمام لجنة عسكرية أخرى يعينها وزير الدفاع مؤلفة من ثلاثة ضباط آخرين. وبالممارسة تبين أن القرار يركز خصوصاً على المقيمين غير المجنسين الذين يبلغ عددهم بين 18 و20 مليون نسمة. وبرر الرئيس جورج بوش قراره هذا بالقول: "سيكون نظام المحاكمة اكثر عدالة من النظام المتبع من بن لادن و"طالبان". وستكون للسجناء فرصة اكبر من تلك التي أعطاها بن لادن لمواطنينا الذين كانوا في مركز التجارة العالمي أو البنتاغون". وكأن قضاء "القاعدة" و"طالبان" هو مقياس للديموقراطية. ومنذ ذلك الحين احتجزت السلطات الأميركية الآلاف من دون إعطاء المبرر القانوني أو الرجوع إلى القضاء ومن دون إعلان أي معلومات عن هوية المعتقلين أو مصيرهم. وليست هذه المرة الأولى في تاريخ الولاياتالمتحدة الحديث يعلّق العمل بأصول المحاكمات أو تتخذ الدولة إجراءات تتنافى مع حقوق الإنسان. إذ أن هذا الأمر حصل في الماضي في كل مرة شعرت فيها الحكومة الأميركية بخطر على نظامها، سواء كان هذا الخطر حقيقياً أو - كما ظهر في معظم الحالات لاحقاً - متوهماً. ففي أواخر الحرب العالمية الأولى اقر الكونغرس الأميركي "قانون التجسس" Espionage Act في وقت اعتبر النظام الفرنسيين والإرلنديين المقيمين في الولاياتالمتحدة ثوريين خطرين. واعتبر القانون جرماً قول أو كتابة أي شيء خاطئ أو مخز أو ماكر ضد الحكومة أو الكونغرس أو رئيس الجمهورية بهدف تحقيرهم أو الإساءة إلى سمعتهم أو إثارة الشعب ضدهم. وبعد ذلك مباشرة اقر الكونغرس "قانون التحريض على الفتنة"Sedition Act الذي يعاقب بالسجن لغاية 20 سنة كل من يسبب أو يحاول أن يسبب حال عدم ولاء للدولة أو حال رفض للانخراط في القوات المسلحة. "الذعر الأحمر" وبعد نجاح الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 تخوف البعض في الولاياتالمتحدة من انتشار الثورة داخلها. وفي سنة 1919 أرسل أحدهم رسائل مفخخة إلى بعض السياسيين كما انفجرت قنبلة بحاملها أمام منزل وزير العدل ميتشل بالمر. استغل هذا الأخير الحادثة، واستناداً إلى القانونين المذكورة، بدأ حملة اعتقالات واستجوابات واسعة شملت 10 آلاف مواطن وغير مجنس في السنة الأولى وستة آلاف في السنة الثانية. وسميت هذه الحملة ب"غارات بالمر" Palmer Raids كما سميت الحقبة بين 1920 و1922 حقبة "الذعر الأحمر" Red Scare. ونفذت الدولة معظم الاعتقالات من دون إذن قضائي. ولم يكن للحمر - كما كان المتهمون بالشيوعية يسمون - الحق بمحام للدفاع عنهم إلا إذا ارتأت الدولة ذلك. مئات الموقوفين الذين كانوا حصلوا على الجنسية الأميركية نزعت عنهم جنسيتهم وابعدوا إلى الاتحاد السوفياتي. وعومل معظم المعتقلين بقسوة فائقة كالضرب والتعذيب، وادخل إلى السجن كل من تلفظ علناً بكلمة حسنة عن الشيوعيين مثل بائع الثياب في ولاية كونيتكت الذي حكم عليه بالسجن ستة اشهر لأنه قال ان لينين كان رجلاً ذكياً. وبعد عامين من هذه الهستيريا، بدأ الشعب الأميركي يستفيق من هذا الكابوس خصوصاً أنه لم تثبت أي تهمة بالتخطيط لثورة شيوعية على أي من المعتقلين. إلا أن وزير العدل بالمر أراد تحفيز الأميركيين مجدداً ضد الشيوعية، فأعلن أن محاولة ثورة شيوعية ستحصل في الأول من أيار مايو عام 1921 ما خلق حال رعب واسعة بين الناس. وعندما لم يحصل شيء في ذلك اليوم بدأ الأميركيون يفقدون ثقتهم بالوزير الذي خضع لاحقاً لاستجواب أمام الكونغرس ثم حكم عليه بعدها بإهدار أموال الدولة بسبب ملاحقاته. وبعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور عام 1941، أنشأت الحكومة الأميركية، بقرار رئاسي رقم 9066، "السلطة الحربية لإعادة الإسكان" وكلّفتها نقل كل الأميركيين من اصل ياباني إلى عشرة معسكرات اعتقال بنيت خصيصاً لهذا الغرض في أماكن صحراوية نائية. وبلغ عدد المعتقلين بين 110 آلاف و120 ألفاً كان ثلثاهم من مواليد الولاياتالمتحدة أي من الرعيل الثاني وما فوق. وقامت تظاهرات عدة داخل المعسكرات خلال الحرب يطالب فيها المتظاهرون بحقوقهم الدستورية، ولكنها قمعت كلها. وأصدرت السلطة تقارير عن عملية الاحتجاز الكبيرة تفاخر فيها بالسرعة التي أنجزت فيها المهمة وتعدد الخدمات التي قدمت للمحتجزين وكأنهم في رحلة سياحية درجة أولى. إلا أن الحقيقة انكشفت بعد الحرب. وبعدما أقفلت آخر معسكرات اعتقال سنة 1946، بقيت الأدبيات تتناولها بتفاصيلها المروعة مما استفز ضمائر الأميركيين إلى أن أضطر الرئيس جورج بوش الأب، ولو بعد حوالى 50 سنة، إلى إصدار رسالة اعتذار علنية موجهة إلى الأميركيين اليابانيين معترفاً فيها بالظلم الذي لحق بهم مؤكداً لهم تضامن الأميركيين الآخرين معهم ومتمنياً لهم مستقبلاً زاهراً. وعاد "الذعر الأحمر" إلى الظهور ثانيةً بعد الحرب العالمية الثانية وانتشرت الإشاعات عن تسلل الحمر إلى مراكز حساسة داخل الدولة وخارجها فأصدر الرئيس هاري ترومان القرار الرئاسي الرقم 9835 في آذار مارس 1947 الذي يهدف إلى البحث عن "متسللين خونة" داخل الإدارة الأميركية. وفي غضون خمس سنوات حقّق مع 6.6 مليون شخص استعملت الإدارة خلاله الشهادات السرية والمخبرين السريين من دون الرجوع إلى القضاء. ولم ينتج عن هذه الملاحقات الواسعة سوى طرد حوالي 500 شخص من وظائفهم الحكومية بسبب ما سمي ب"الولاء غير المؤكد". المكارثية في هذا الجو المحموم ظهر السيناتور جوزيف مكارثي عام 1950 وأعلن في خطاب عام، رافعاً رزمة أوراق بيده، أن لديه 205 أسماء لأعضاء في الحزب الشيوعي ما زالوا يعملون داخل الإدارة الأميركية. وكرئيس لجنة في مجلس الشيوخ تراقب أعمال الإدارة، قام بحملة استجوابات واسعة كان الأميركيون يتابعونها بشغف ورضا في كل وسائل الإعلام، وتدفقت عليه التبرعات من المواطنين العاديين لتغطية مصاريف ما سماه "الحرب الصعبة والمكلفة على الشيوعيين". وتركزت الحملة على بعض المخرجين السينمائيين والممثلين في هوليوود ما اضطر شارلي شابلن مثلاً للجوء إلى إنكلترا وإيليّا كازان المخرج المعروف إلى الإدلاء بمعلومات عن أصدقائه وزملائه مما جعله مكروهاً في هوليوود لزمن طويل. وبلغت قوة مكارثي السياسية وغطرسته حدوداً لم يسبق لها مثيل بين أعضاء مجلس الشيوخ ما سمح له باتهام الرئيس هاري ترومان بأنه ليبرالي خطر والجنرال جورج مارشال ودين اتشيسون بأنهما ضعيفان تجاه الشيوعية، وساعدت حملته على هؤلاء الديموقراطيين في انتخاب جمهوري للرئاسة هو دوايت ايزنهاور. وفي عام 1953 بدأ مكارثي التحقيق مع ضباط في الجيش الأميركي مما أغضب ايزنهاور، وكان الشعب الأميركي يئس من مكارثي بعد ثلاث سنوات من الاتهامات غير المثبتة والطرق غير الديموقراطية التي كان يستعملها في تحقيقاته، فتألبت عليه القوى وخسر عام 1954 مقعده كرئيس لجنة في مجلس الشيوخ وانتهى بذلك عهده بعدما وجه مجلس الشيوخ توبيخاً رسمياً إليه. ولا تتوقف الازدواجية في السياسة الأميركية عند حد الديموقراطية وإن كانت في هذا السياق تؤثر سلباً في صدقية الولاياتالمتحدة أكثر من الازدواجية بالنسبة الى أي موضوع آخر. فكيف تستطيع الإدارة الأميركية أن تنادي بالديموقراطية وحقوق الإنسان عندما تتجاور المبادئ الديموقراطية وتخترق حقوق الإنسان داخل أميركا نفسها. وعندما تقول الإدارة ان أحد أهدافها الرئيسية للحرب ضد العراق إقامة نظام ديموقراطي، يرى الناس في أنحاء العالم أن الهدف هو النفط أو مساندة إسرائيل أو حتى ثأر بوش الشخصي لأبيه. ومن الأشكال الأخرى للازدواجية الأميركية ما تردده الإدارة الأميركية على أعلى مستوياتها بأن أحد الأسباب الرئيسية التي تحتم تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل هو أن الرئيس صدام حسين استعمل أسلحة دمار شامل في حربه مع إيران. إلا اننا إذا استثنينا الحوادث التي حصلت في الحروب القديمة نجد أن الدولة الوحيدة التي استعملت أسلحة الدمار الشامل على نطاق واسع هي الولاياتالمتحدة في أواخر الحرب العالمية الثانية عندما ألقت طائراتها قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناكازاكي تسببتا في مقتل بين 150 و220 ألفاً من الأبرياء، إضافة إلى أعداد كبيرة من الأشخاص الذي تشوهوا نتيجة هذه الهجمة وماتوا موتاً بطيئاً. يعتقد مؤرخون ان القنبلة الثانية كان القصد منها تجربة مادة البلوتونيوم لأن الأولى صنعت من الأورانيوم. وقال الرئيس الأميركي في خطاب ألقاه أخيراً يحض مجلس الأمن على اتخاذ قرار يسمح بضرب العراق لعدم تنفيذه القرار 1441 في شكل كامل: "إن على مجلس الأمن أن يقرر، عندما يتبنى قراراً، ماذا يعني ذلك. وعليه أن يقرر إذا كانت لديه العزيمة الكافية لتطبيق قراراته وإلا فانه سيتلاشى أمام التاريخ كجماعة حوار غير فاعلة وغير ذات شأن". وبالعودة إلى قرارات مجلس الأمن التي لم تطبق بعد لوجدنا أن الدولة التي رفضت تطبيق أكبر عدد منها هي إسرائيل من دون منازع إذ فاق هذا العدد 35 قراراً منذ عام 1968، وتليها في ذلك تركيا وكلا الدولتين تعتبرهما اميركا صديقتين ولا تأتي على ذكرهما أبداً في هذا المجال. وفي حين قبل العراق استقبال المفتشين الدوليين وأعطاهم حرية البحث عن أسلحة الدمار الشامل، صرحت كوريا الشمالية بأنها تمتلك قدرة نووية وأعادت تفعيل برنامجها النووي الذي ينتظر أن ينتج قنبلة نووية كل ستة أشهر وطردت المفتشين الدوليين وانسحبت من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وكثفت تطوير الصواريخ البعيدة المدى. إلا أن الإدارة الأميركية ما زالت تحشد قواها لضرب العراق فيما لا يخلو أي بيان أو تصريح لمسؤول أميركي من التأكيد بأن الولاياتالمتحدة لا تنوي ضرب كوريا الشمالية. ويفسر بعض المسؤولين الأميركيين هذه المفارقة بأن التعامل مع المشكلة الكورية الشمالية هو في أول الطريق فيما التعامل مع العراق وصل إلى آخر الطريق. ولكن المسألة الكورية ما زالت تتفاعل منذ أكثر من 20 عاماً. وحقيقة الأمر كما يعلمه الجميع هو أن العراق ضعيف عسكرياً وكوريا الشمالية قوية عسكرياً وباستطاعتها إذا نشبت الحرب أن تبيد القسم الأكبر من القوات الأميركية المرابطة على حدودها مع كوريا الجنوبية والتي يبلغ عديدها ال70 ألف مقاتل. إن ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية تظهر إذاً بأشكال ثلاثة تمثل مبادئ التعامل الذي تتبعه الإدارة الأميركية الحالية في سياستها الخارجية: أولاً: تعتبر الإدارة الأميركية أن ما ينطبق على غيرها من معايير لا ينطبق بالضرورة عليها متبعة في ذلك القول الأميركي المعروف: "افعل ما أقول ولا تفعل ما أفعل". ثانياً: إن المعايير التي تتعامل الإدارة من خلالها مع الدول الحليفة والصديقة تختلف عن تلك التي تتعامل بها مع الدول الأخرى، وتصبح أكثر مطاطية كلما كانت الصداقة أمتن فما يجوز لإسرائيل مثلاً لا يجوز لتركيا وما يجوز لتركيا قد لا يجوز لبعض العرب. وتتغير المعايير بحسب تغير الصداقات والتحالفات. ثالثاً: إن معايير التعامل تتكيف مع قوة الدولة العسكرية وبحسب تغير موازين القوى. وتعتبر هذه المبادئ الثلاثة مكملة لما يسمى "عقيدة بوش الجديدة". فالعقيدة هذه ذات شقين: داخلي وخارجي. الشق الداخلي تبلور بإنشاء "مكتب أمن الوطن" داخل البيت الأبيض وفي وثيقة رسمية بعنوان "الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي" وما تبعها من إجراءات أمنية على الأرض. أما الشق الخارجي فأعلن في خطاب الرئيس بوش أمام الكونغرس في كانون الثاني يناير الماضي وأعطيت تفاصيله في وثيقة أصدرها البيت الأبيض لاحقاً تحت عنوان "استراتيجية الولاياتالمتحدة الأميركية الوطنية للأمن القومي". والفكرة الأساسية في هذا الشق من العقيدة تتمثل في استعداد الولاياتالمتحدة للقيام بهجوم عسكري على أي دولة تعتقد أنها تخطط للقيام بأعمال عدائية ضدها. وهذا ما سمي بالضربة الوقائية للدفاع عن النفس Pre-emptive self-defense . وتتعارض هذه الفكرة صراحة مع القانون الدولي وخصوصاً البند 51 من ميثاق الأممالمتحدة الذي ينص على حق الدولة بالدفاع عن النفس فقط في حال حصول هجوم عسكري عليها وذلك إلى أن يتمكن مجلس الأمن من اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة السلام. أما كيف ستنفذ الولاياتالمتحدة هذه السياسة الخارجية فهذا ما تظهره الأشكال الثلاثة لازدواجية المعايير التي تكلمنا عنها. المكملة لعقيدة بوش. والسؤال المطروح هو: هل تستطيع الإدارة الأميركية أن تطبق هذه العقيدة في الأمد الطويل؟ وهل ستستطيع إدارة بوش المضي في تطبيق قوانين مخالفة لأسس الديموقراطية وحقوق الإنسان داخلياً كما تفعل اليوم وتطبق خارجياً سياسة الضربة الوقائية تحت شعار الدفاع عن النفس في شكل انتقائي يشمل الأعداء الضعفاء ويحيد الأصدقاء والحلفاء والأقوياء؟ الجواب عن هذا السؤال ليس بالضرورة بالإيجاب لأن هناك قوى معاكسة لهذا الاتجاه. أولاً: ان الرأي العام الأميركي قد ينقلب في النهاية ضد الإجراءات التعسفية الداخلية كما فعل في الماضي بالنسبة الى غارات بالمر وملاحقات مكارثي اللتين لم تدم الواحدة منهما أكثر من ثلاث أو أربع سنوات وانتهى بالوزير بالمر في العشرينات والسيناتور مكارثي في الخمسينات بأن دينا رسمياً وشعبياً. ويعتبر الأميركيون اليوم هاتين الحقبتين وصمتي عار في تاريخ بلادهم. ثانياً: إن الدول الأخرى لا تتقبل بسهولة الهيمنة الأميركية. فبعدما استوعبت الدول الأوروبية والصين وروسيا وغيرها من الدول الفاعلة رد الفعل الأميركي الغاضب بعد 11 أيلول بدأت تقف وقفة أكثر. وقد تزداد هذه المواجهة حدة إذا مضت الإدارة الأميركية في تعاملها الانفرادي والمتعالي مع القضايا الدولية. ثالثاً: ولعل ما لم يكن في الحسبان عندما وضع الرئيس بوش عقيدته السياسية الخارجية هو الرأي العام العالمي. فالتظاهرات العارمة التي حصلت أخيراً في المدن الأوروبية وغيرها وخصوصاً في عواصم البلدان المساندة لأميركا في موقفها من الحرب مع العراق، والتي ضمت الملايين من الناس أثرت مباشرة في القرار الأوروبي في هذا الخصوص وأضعفت الموقف الأميركي على رغم قول الرئيس بوش لاحقاً إنها لا تؤثر في قراراته. وأشار أحد المعلقين الأميركيين إلى هذا الرأي العام العالمي بأنه القوة العظمى الثانية في العالم اليوم. في التاريخ الأميركي الحديث عضو في مجلس الشيوخ أجمع المؤرخون على وضعه فوق كل زملائه هو السيناتور جاي وليام. وكان فولبرايت السيناتور الوحيد الذي صوّت ضد تمويل اللجنة التي كان يترأسها السيناتور مكارثي كما كان من القلائل الذين وقفوا في وجه الرئيس جون كينيدي في محاولته غزو كوبا عام 1961. تخوف هذا السيناتور من جنوح بلاده نحو الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية فحاول دائماً كبح جماح الصقور المتهورين في الإدارة الأميركية وألّف كتاباً سنة 1966 سماه "غطرسة القوة" The Arrogance of Power. جاء فيه: "أملي بألا تقع أميركا في إغراء القوة المميت الذي هدم أمماً كبيرة في الماضي وأن تكتفي بالعمل الجيد في العالم الذي هو ضمن إمكاناتها إما مباشرة أو بكونها مثالاً يقتدى". وحذر فولبرايت أميركا من غطرسة القوة "الذي يفترض أن القوة هي برهان التفوق فعندما يكون لدى دولة الجيش الأقوى تعتبر أن هذا يدل على أن لديها أناساً أفضل ومؤسسات أفضل ومبادئ أفضل وعموماً حضارةً أفضل". * سفير لبنان لدى واشنطن سابقاً. ** نص محاضرة ألقيت في ندوة في "النادي الثقافي العربي" في بيروت.