كان لمسؤول القسم السمعي - البصري في صحيفة "لوموند" الفرنسية تعليق ذكي بعد سماعه خطاب "حال الاتحاد" الذي ألقاه الرئيس الأميركي جورج بوش مؤخراً. فسماع خطاب زج فيه الرئيس الدين والعناية الآلهية بهذا الزخم، يقع وقعا غريبا على مواطنين أوروبيين عاشوا في دول علمانية منذ أكثر من قرن، حيث السياسة تخلو من التبشير الديني. وهذا ما حمل صحافي "لوموند" على الكتابة: إنه فعلاً صراع حضارات، ولكن بين أوروبا والولايات المتحدة… قراءة ريبورتاج "الاوبزرفر" البريطانية حول استخدام الدين في سياسة بوش تؤكد أيضاً وجود هذا الصراع. قسّ كبار رجالات النفط في ولاية تكساس يبدأ صلاته بمطالبته الله أن "يهزم أعداء أميركا ويبارك الرئيس وابن تكساس جورج والكر بوش". والرئيس منذ وصوله إلى سدة الحكم جعل من الصلاة بداية لكل اجتماع يعقده مع وزرائه. كذلك فإن عددا واسعا من معاونيه وحلفائه غدوا أيضاً يُدخلون المصطلحات الدينية للترويج للحقبة الجديدة التي يريدها بوش. حتى أن زعيم الجمهوريين، توم دي لاري، صرّح في هيوستن ان الله وضع بوش في البيت الأبيض لكي يغيّر العالم بما يتوافق مع الرؤى التوراتية! وبالطبع وجدت هذه الرؤية الدينية المسيحية حلفاءها لدى اليمين المتطرف اليهودي الحاكم في إسرائيل… ولو أن للطرفين، في نهاية المطاف، أي بعد وقوع حروب ومجازر، رأيين مختلفين: فطرد الفلسطينيين وجمع الشعب اليهودي وبناء الهيكل هي خاتمة المطاف للأصوليين اليهود، بينما تُعتبر بداية للمشروع الاصولي المسيحي في سعيه الى تنصير اليهود. هنا، وعلى الهامش، لا بد من التوقف عند أمرين: 1- الغالبية العظمى من الكنائس الأميركية، إذا ما استثنينا الكنيسة المعمدانية في الولايات الجنوبية، والتي لا تضم سوى "مؤمنين" ينتمون إلى العرق الأبيض واليمين المتطرف، ترفض الآن فكرة الحرب الأميركية ضد العراق. 2- لا بد من الرجوع إلى ماضي الأصوليين الأميركيين كماضي الرئيس بوش الذي ينافي القيم الدينية أو حتى القيم الاخلاقية المتداولة في العالم. فالمراهق الذي كان يلجأ الى أعمال سادية في علاقاته مع النساء، والسكير الذي لم يتوقف رسمياً عن العربدة حتى عمر الأربعين، والذي صرّح بأنه لا يريد أن يحصل لفتياته ما كان يقوم به من أعمال مع زميلاته في الجامعة، لا يمكنه اليوم أن يزجنا في حرب عالمية وكأنه مدفوع من إرادة إلهية. وانتقاد منهج بوش لا ينحصر في الإعلام التقدمي الأميركي أو الإعلام الأوروبي العلماني. فحتى عبدالعزيز الرنتيسي، أحد قادة حركة "حماس" الإسلامية الفلسطينية، هاجم هذا الأسبوع على مركز "أمين" على الويب الخطاب "الميتافيزيقي"، حسب تعبيره، للزعماء الأميركيين والإسرائيليين. فأعمال ك"ابتهال" بوش وشارون إلى الله كي يعيد رواد الفضاء سالمين بعدما وصلهما نبدأ انفجار مكوك "كولومبيا"، أو لجوء الرئيس السابق بيل كلينتون إلى الكنيسة على اثر فضيحة مونيكا لوينسكي، مما يحمل الرنتيسي على أن يرى أن هؤلاء الأشخاص "يتفوّهون بتعبيرات تخرج عن سياق الخطاب السياسي المعهود…". لكنه، هو نفسه، سرعان ما يدخل في "الميتافيزيق"، أو تدخل مقالته التي تعلمنا أن انفجار المكوك الفضائي عقوبة إلهية لأميركا وللصهاينة. وعلى رغم التقارير التي أكدت أن المكوك عانى وقت اقلاعه من خلل في جهته اليسرى، فإن الرنتيسي، لتأكيد مزاعمه ورؤيته الدينية للحادث، يتناسى هذه التقارير، ويكتب أن "المكوك كان معافى تماماً من أي خلل فني كما صرّح بذلك العديد من الخبراء بعد الكارثة". ولا يتوقف "الدكتور" الرنتيسي عند التفسير الميتافيزيقي، فيتساءل عن إمكانات أميركا بعد هذا السخص الإلهي "أن تعتبر"، "أن تنتفع من هذا الدرس"، "أن تتعظ". بيد أن بُعد رؤيته والقليل من تواضعه يجعلانه يختم تساؤلاته بالقول: "أنا لا اعتقد أن أميركا ستوقف عدوانها أو تغيّر من سياستها. ولن تلتفت إلى مقالي هذا…". وهو مقال جاء وقوع بعض حطام "كولومبيا" في بلدة في تكساس تدعى فلسطين ليعطيه "الشرعية الدينية". وليس السيد الرنتيسي وحده يقدم هذا النوع من التحاليل. فحتى مركز العونيين اللبنانيين على الويب rjliban رأى أن الله اختار تكساس قلعة الأصوليين المسيحيين وبلدة فلسطين فيها ليفجر فوقهما المكوك الأميركي. في هذه البلبلة الأصولية التي قد تكون، على رغم قساوة مفرداتها، نوعاً من "حوار الحضارات"، استهجن بعض الأقلام الجريئة كالزميل عدنان حسين في صحيفة "الشرق الأوسط" في ظل عنوان غدا شعار الساعة:""ليس باسمنا"، طريقة تعامل وسائل الإعلام العربية مع كارثة كولومبيا. هل سنخرج يوماً من زج الدين في الحياة السياسية؟ سنة 1999 في صحيفة "مشاركت" الإيرانية الإصلاحية التي أُغلقت، تساءل أحد القراء: "لماذا لا تمطر في بلد مؤمن كإيران، بينما الثلوج تعلو هضبات تركيا العلمانية؟". السؤال بالطبع لم يكن يهاجم المؤمنين أو يدافع عن العلمانيين…