في اطار عالم جديد تتدفق فيه المعلومات وتتزايد بين أرجائه الاتصالات، وتتفاعل بين شعوبه القيم والثقافات، لم يعد ممكناً لحاكم او محكوم أن يغفل او يتغافل يبتعد أو يتقاعس عن ضرورة التعلق بالديموقراطية. ومضى العهد الذي كانت فيه مفاهيم الاستبداد والاستئثار بالسلطة هي السائدة، وحل محلها تيار جارف ولو بدرجات متفاوتة يتمحور حول وجوب الاندماج او الالتحاق بإطار الديموقراطية. الديموقراطية ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على مقومات المجتمع ومقدراته من خلال المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات والرقابة على احترامها. فنظرة عامة على ارجاء المعمورة تظهر على رغم اي رصد لتباين ظاهري او فعلي ان أنظمة الحكم المختلفة وبمستويات متنوعة باتت تحاول ان تغلف اوضاعها السياسية وتطعمها بمظاهر وأنماط سلوك تمكنها من الادعاء والتوكيد على انها أنظمة حكم ديموقراطية. ومع التسليم بهذه الحقيقة الملموسة، فإن الفترة الأخيرة شهدت تجاذباً وصراعاً حول الديموقراطية وخصوصاً بعد أحداث أيلول سبتمبر من العام قبل الماضي، إذ اخذت الادارة الاميركية في اطار توجهاتها الاستراتيجية الجديدة تعتبر ضرورياً فرض الديموقراطية على انظمة الحكم في الدول العربية والاسلامية. بل وصل الأمر بمستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليزا رايس الى الاعلان صراحة انه يجب استبدال الأوضاع السائدة في العالمين العربي والاسلامي بأخرى تتطابق مع المفاهيم الأميركية وفي مقدمتها الديموقراطية. وحاول وزير الخارجية كولن باول تلطيف ما اعلنته رايس فأعلن "مبادرة الشراكة" بما لا يخرج عن الخطوط الرئيسية التي تعتمدها الادارة الأميركية. وهكذا، أصبحت الديموقراطية محلاً للتجاذب بين تيارين: تيار الرغبة، وتيار الرهبة. فتيار الرغبة يكمن في قيام أنظمة الحكم المختلفة بتطوير اوضاعها وفقاً لظروفها للتعلق بأهداب الديموقراطية. أما تيار الرهبة فيتمثل في قيام الولاياتالمتحدة باستخدام وسائل الضغط من اجل فرض الديموقراطية وفقاً للاجندة الاميركية. الدول العربية والاسلامية في وضع لا تحسد عليه ولم تعهده من قبل، وهو هل يتم السير قدماً نحو الديموقراطية وفقاً لظروفها وأوضاعها، ام يجب الاستجابة للمطالب الأميركية؟ قد يرى البعض وجوب التمسك بالسيادة وحرية اتخاذ القرار، غير ان ثمن ذلك معروف: ضرورة الاستعداد للغضب الأميركي بتداعياته المتوقعة. ان الموقف في غاية الصعوبة ولا سيما مع تزايد المشكلات الداخلية، فكيف يمكن التعامل مع هذا الوضع؟ ثمة مواجهات متعددة يتعين الاعتداد بها في هذا الشأن: 1 على رغم اي تخوف او توجس قد يجد ما يبرره من الانغماس في المسيرة الديموقراطية، لا بد من ادراج حقيقة ان الديموقراطية هي الضمان من خلال المشاركة الشعبية لمواجهة اي ضغوط خارجية. فكم تمسكت الادارة الاميركية في مواقفها المعروفة والمستمرة بخضوعها للرأي العام الداخلي، فلماذا لا يكون الرأي العام العربي والاسلامي من خلال المؤسسات الديموقراطية هو احد الأسلحة لمواجهة الضغوط الخارجية؟ 2 اذا كانت مبررات الادارة الاميركية لدمقرطة انظمة الحكم العربية والاسلامية تتلخص في مواجهة ثلاثية الفقر والفساد والاستبداد، فإن إعمال قواعد الديموقراطية بالمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات والرقابة على احترامها دليل الى الثقة بالنفس أولاً، وضمان سلامة الخطوات المتفق عليها وفاعليتها بعد ذلك. 3 على رغم ان الدوافع الأميركية لنشر الديموقراطية معلومة وغير بريئة وآخرها مقاومة الارهاب، لا يجب الارتكان الى الاستنكار والرفض في هذا الشأن. فلم يعد مجدياً هذا السلوك السلبي أمام التشدد الحالي من الادارة الاميركية في ما يتعلق بمسألة الديموقراطية. الأمر يقتضي الا ترفض الدول العربية والاسلامية الديموقراطية على رغم صنوف الضغط التي تمارسها اميركا لمجرد محاولة البعض فرضها. فالتمسك بالديموقراطية فيه الخير للعالمين العربي والاسلامي شعوباً وحكاماً. * عميد كلية الحقوق في جامعة الاسكندرية سابقاً.