إن تحوّل أميركا من جمهورية ديموقراطية إلى إمبراطورية تستعين بقواتها العسكرية بدلاً من الديبلوماسية لا ينفي أو يقلّل من شأن وجود صراع فكري حقيقي داخل الثقافة السياسية الأميركية نفسها. ولا أدلّ على ذلك في الوقت الحاضر من إحتدام النقاش بين ما أسمّيه أصحاب لغة الحرب وأصحاب لغة السلم. إنهما لغتان متعاكستان تميل إحداهما الى الإصرار على إستعمال لغة تعكس نزعة وطنية شوفينية وتستهين بخطورة الدعوة لشنّ الحرب على الشعوب الضعيفة المكافحة، تقابلها في الجانب الآخر لغة تؤكّد ضرورة البحث عن حلول سلمية في التعامل مع النزاعات الدولية. ويمكن هنا التدليل على الإختلاف الجوهري بين اللغتين بالإشارة الى اللغة التي يستعملها الرئيس جورج بوش على أنها لغة قرع طبول الحرب، ولغة الرئيس السابق جيمي كارتر التي تؤكّد ضرورة البحث الجاد عن حلول سلمية لمعضلات وأزمات مستعصية. ولكن قبل الدخول في مقارنة بين اللغتين، لا بد من التوضيح أن لغة الحرب كثيراً ما تلجأ الى التضليل والتشويه والتبسيط بإساءة إستعمال اللغة لأغراض سياسية دعائية. من هذا أن الإدارة الأميركية الحالية تلجأ إلى اعتماد لغة سياسية تدين مَنْ تعتبرهم، خطأً أو صواباً، أعداءها بغرض تسويغ اللجوء إلى الحرب أو التهديد بها. من الأمثلة على هذا أن الإدارة الأميركية تطلق تسمية "الإرهاب" من دون تحديد لهذا المصطلح والأخذ في الإعتبار حق الدفاع عن الذات والمقاومة بالوسائل المتاحة ضد عدو مغتصب. وما يسميه العرب "العمليات الإستشهادية"، مهما كان موقفنا منها، يطلق عليه في الإعلام الأميركي تسمية "قنبلة انتحارية" مما يسهّل على التحريض ضد الشعوب الضعيفة المكافحة كما يُستدلّ من كلام صحافيّ قال مطلع السنة الماضية، مثلاً، ان منفذي العمليات الانتحارية "لا يقتلون أنفسهم فحسب، بل يقتلون إنسانية شعوبهم". وينسى هذا المعلِّق أن الغرب كثيراً ما أنكر إنسانية العرب حتى لا نكاد نعثر عليها منذ زمن بعيد في قاموس الثقافة الأميركية، وذلك أن محاولة تجريد العرب من حقوقهم إقتضت لديهم تجريدهم من إنسانيتهم أيضاً. ويتناسى هؤلاء كل أدبيات الغرب حول ممارسة العنف بمختلف أشكاله والتضحية بالذات في سبيل المجتمع والأمة. وفي مقابل هذا ليس في الغرب سوى قلة ضئيلة ممن يجرؤون على الإعتراف بأن الإحتلال الإسرائيلي شوّه إنسانية إسرائيل والحركة الصهيونية في إعتداءاتها المستمرة على الشعب الفلسطيني الأعزل منذ ما يزيد على نصف قرن. وليس، سوى عدد صغير جداً، مَنْ يقول في أميركا أن القيادة الإسرائيلية الحالية بلغت درجة عالية من الوقاحة ومن دون خجل باستعمالها الأسلحة الأميركية المتطورة والمال الأميركي والدعم السياسي الأميركي ضد شعب أعزل لا يملك وسائل الدفاع عن نفسه. وليست هناك سوى قلة ضئيلة تعترض على قتل المدنيين الأبرياء الفلسطينيين ولا يُستثنى منهم الأطفال والعَجَزة، كما لو أن إنسانية العربي لا توازي إنسانية الإسرائيلي اليهودي. وفي معرض الحديث عن الصهيونية في أميركا، نشير إلى أن هناك مصطلحاً آخر كثيراً ما يساء إستعماله في تعطيل حرية الفكر ومنع النقاش وتخويف الناس، هو مصطلح "اللاسامية" الذي يُطلق على عواهنه. وفي وقت تصرّ الإدارة الأميركية على إستعمال لغة الحرب في تحريضها على الفلسطينيين والعراق، تحاول القضاء على أمل نشوء وعي سياسي بين الشباب العرب في المستقبل، بانشائها ما سمته راديو "سوا" لتحويل إهتمام الشباب عن القضايا المهمة ببث لغة اللهو والطرب. وليست هذه محاولة للتعريف بالثقافة الأميركية وتغيير الصورة الأميركية بين الشباب العربي بل محاولة لصرف نظرهم عن شؤونهم. فالأميركيون يريدون تغيير صورتهم في العالم من دون أن يغيّروا سياستهم المجحفة بحقوق الشعوب الأخرى، خصوصاً الفقيرة منها. ومن الأمثلة الأخرى على إساءة إستعمال اللغة لأغراض سياسية دعائية في سياق الأحداث القائمة أن الرئيس بوش عمد في محاولة لتسويغ مشاريعه الحربية إلى تسمية كوريا والعراق وإيران "محور الشر" بلغة أصولية دينية لانها لم تخضع لقوانين اللعبة التي إخترعتها أميركا في محاولة الهيمنة على العالم. وفي وقت تحارب الإدارة الأميركية الإرهاب من دون أن تحدّد هذا المصطلح، نجد أنها تعرف جيداً ومسبقاً أنها في شنّ الحرب على العراق ستتسبّب في قتل الكثيرين من المدنيين الأبرياء لأهداف سياسية وعسكرية. ويشير تقرير للأمم المتحدة الى أن ما يُقدّر بنصف مليون من المدنيين العراقيين سيتعرّضون للأذى بما فيه الموت والحاجة إلى معالجة طبية إذا ما شنّت أميركا وحلفاؤها الحرب على العراق. وسيكون هناك عدد غفير من الناس الذين سيحتاجون إلى معالجة نفسية غير متوافرة، كما سيعاني ثلاثة ملايين شخص خصوصاً من الأطفال، من سوء التغذية. فهل يعتبر خبراء الإرهاب في أميركا مثل هذا التصرف إرهاباً؟ هكذا تتكلّم الإدارة الأميركية ووسائل إعلامها عن البلدان العربية كما لو كانت محطة بنزين، وعن العراق كما لو كان شقة يمتلكونها ويرون بين وقت وآخر كيف يكون من الأفضل لهم أن يعيدوا ترتيبها. وهم يتكلمون، للأسف الشديد، عن العراقيين كما لو كان لا وجود لهم، وإذا ما وجدوا فهم مخلوقات يمكن الإستغناء عنها إذا ما إقتضت المصالح الأميركية العليا. كثيراً ما يُنظر في ادبيات السياسة الغربية إلى أن الحرب فنٌ من فنون السياسة المتبعة وأداة من أدواتها. وبدأت تتضح العودة إلى مفهوم الحرب في القرن التاسع عشر على أنه فنٌ وأداة سياسية خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر عندما إشتدّ الحديث عن الحرب كوسيلة شرعية في تنفيذ السياسة المتبعة. وأعاد الرئيس بوش مثل هذا المفهوم التقليدي في القرن التاسع عشر في الخطاب الذي ألقاه في حزيران يونيو الماضي وتحدّث فيه عن مبدأ "الحرب الاستباقية" الذي عاد فظهر بعد ثلاثة أشهر في وثيقة صادرة عن البيت الأبيض بعنوان "إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية"، والتي تقول أن أميركا تحتفظ لنفسها بحق المبادرة بالإعتداء لمنع أي تهديد لأمنها. ورافقت هذه اللغة دعوة لتغيير النظام في العراق، وإعتبار الحرب الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف. لهذا استنتج أحد المعلقِّين من خلال حديث له مع المقرّبين من بوش في مطلع كانون الأول ديسمبر الماضي أن الحرب على العراق أصبحت مسألة متى وكيف وليس هل ستقع أم لا، وأن الإدارة تراه حتمياً وجزءاً من الحرب على الإرهاب، وأن واشنطن تعتبر نفسها مهدّدة وفي حال حرب، الأمر الذي "لا يمكن أن تقبل به عاصمة أقوى بلد في تاريخ العالم" فتؤكّد أن هناك حاجة ماسة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط "نيويورك تايمز" في 12/12/2002. وبدأ يتضح أن الإدارة الأميركية الحالية أصبحت لكثرة ما حرّضت على الحرب تخاف فكرة عدم شن حرب على العراق أكثر مما تخاف الإقدام عليها فعلاً. ومن مزايا الإدارة الأميركية الحالية أن رئيسها ليس ضليعاً في السياسة الخارجية فسلّم أمره لغيره خصوصاً في البنتاغون وعلى رأسه دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز. وقد قال بوش لدى وصوله الى الرئاسة أن الأولوية هي للجيش لذا يزداد التنافس بين وزارتيّ الخارجية والدفاع، وهذه الأخيرة تهدف في الدرجة الأولى الى الحصول على أعلى نسبة من موازنة الدولة مما تستطيع تأمينه في زمن الحرب أكثر من زمن السلم. وفيما يستعد البنتاغون للحرب ويدفع بقواته ومعداته في اتجاه العراق يفخر رامسفيلد أن ما بين 500 إلى ألف طائرة حربية تستطيع ان تنطلق خلال الساعات الأولى للحرب مجهّزة بقنابل موجّهة تستهدف في الوقت ذاته مواقع عراقية عدة. هكذا يفخر رامسفيلد بقواته ومعداته وليس بأخلاق أميركا وقيمها الحضارية. وبهذه العقلية يتوجّه جورج بوش إلى جنوده بقوله: "إننا مستعدون. إننا جاهزون للحرب" "واشنطن بوست" في 4/1/2003. أما لماذا الحرب، فيعترف توماس فريدمان في اليوم التالي "أنها من أجل النفط"، وكان في إمكانه أن يضيف "وللسيطرة على الخليج قاطبة"، اذ إعترف بوش في هذا الوقت بالذات أن مجلس أمنه إنتهى من إعداد الخطط النهائية لإدارة العراق بوجود قوات عسكرية أميركية لمدة لا تقل عن سنة ونصف سنة وانها ستستولي على آبار النفط لتغطية نفقات إعادة بناء العراق بعد تهديمه، أما ماذا بعد هذه المدة الإنتقالية، فلا جواب على ذلك سوى القول أنه في مختلف الإحتمالات "ستظل العسكرية الأميركية اللاعب المركزي في إدارة شؤون البلد لزمن". "نيويورك تايمز" في 6/1/2003. وقد يسأل البعض هل من لغة سلم وديبلوماسية في أميركا؟ وجواباً نقول ان هناك ما يقابل ضجيج لغة الحرب في الثقافة السياسية الأميركية، إنما بصوت منخفض. فهناك لغة مهذّبة تدعو إلى ضرورة التوصّل إلى حلول سلمية للمسألة العراقية كما للمسألة الفلسطينية باعتبار أن ليس هناك من حلول عسكرية لمثل هذه الأزمات المستعصية، بل ان الحروب قد تتسبّب في نشوء أزمات جديدة غير متوقعة. هذا ما قال به، مثلاً، الرئيس السابق جيمي كارتر في خطاب استلام جائزة نوبل للسلام الخريف الماضي، معترفاً بأن العالم تغيّر كثيراً منذ ترك البيت الأبيض، فهناك قوة عالمية واحدة تملك قدرات عسكرية وإقتصادية لم يسبق لها مثيل. وقال في خطابه إن موازنة التسلح الأميركي للعام المقبل تفوق مجموع موازنات الدول ال15 التي تلي الولاياتالمتحدة قوة. وتوّج كارتر خطابه بالقول إن إعتماد البلدان القوية مبدأ الحرب الإستباقية يشكّل مثالاً قد يؤدي إلى نتائج خطيرة ... وإن المثل الأكثر وضوحاً في هذه الحالة أنه بعد مرور ما يزيد على نصف قرن من تأسيس دولة إسرائيل، أصبحت مشكلة الشرق الأوسط مصدر تأزم عالمي. وختم خطابه بالقول ان الحرب في بعض الحالات قد تصبح شراً ضرورياً، لكنها دائماً شرٌّ لا خير منها أبداً. إن لغة السلم التي نسمعها ونقرأ عنها في الإعلام الأميركي لغة ضعيفة وخافتة حتى لا نكاد نسمعها. فهل يمكن أن نسأل في هذه الحال هل تشنّ أميركا الحرب على العراق؟ ما نعرفه جيداً أن أميركا ستشهد إحتجاجاً لا تتوقّعه. ولكن لنقل مع القائلين ان الحرب ليست حتمية، خصوصاً إذا ما عرف القادة العرب كيف يجب التصرف. * عالم إجتماع وروائي مقيم في