تتميّز الثقافة السياسية الأميركية، خصوصاً في عهد إدارة بوش الحالية ومنذ 11 أيلول سبتمبر 2001، باستخدام لغة تتعمّد التعتيم والتبسيط بإسم الوضوح فتطلق حيناً مصطلحات إيجابية في سبيل التغطية على تصرفاتها السلبية، وحيناً آخر مصطلحات سلبية تهدف إلى تشويه صورة من تختلف معهم سياسياً. لنقدّمْ أمثلة حسية كي نوضح ما قد يبدو في ظاهره تلاعباً بالكلام. بالنسبة الى مسألة التعتيم والتكّلم بلغة إطلاق مصطلحات إيجابية في سبيل التغطية على تصرفاتها السلبية، نذكر أن الإدارة الأميركية كثيراً ما تتهّم الأنظمة السياسية الأخرى، خصوصاً في العالم العربي، بأنها تقوم على الفساد والرشوة والوساطة على حساب القوانين والمصلحة العامة. وهي حين توجّه هذه التهم بهذه اللغة، قد تكون في ظاهر الأمر على صواب. ولكنها حين تطلق هذه الأحكام لا تكتفي بإدانة الغير، بل تريدنا أيضاً أن نفترض أنها هي دولة القانون والمؤسسات والعمل في خدمة مصلحة شعبها العامة ولا مكان فيها للرشوة والفساد. طبعاً كان هناك دائماً في أميركا فكر نقدي يحاول تبديد هذه الأوهام، وقد بدأ الشعب الأميركي يعي أخيراً خطأ هذه الفرضية وسط أزمة إقتصادية حادة وفضائح الشركات الكبرى وعلى رأسها شركة "إنرون"، ومن خلال فضيحة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وربما هناك بداية تنبّه شعبيّ الى أن ما تطلق عليه لغة السياسة الأميركية تعبير "تبرع مالي" من جانب الشركات الكبرى للأحزاب والقيادات السياسية ما هو في واقع الأمر سوى رشوة مقنّعة بلغة إيجابية في مظهرها وسلبية في جوهرها. تتبّرع الشركات الكبرى بملايين الدولارات للإحزاب والمرشحين في إنتخابات الرئاسة ومجلس الشيوخ ومجلس الشعب مقابل خدمة المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة. ولا تقتصر ظاهرة تقديم التبرعات على الشركات الكبرى، بل تشمل جميع أصحاب المصالح الخاصة والفئات العرقية والدينية والمحلية. وهنا يدرك الجميع تقريباً، ربما باستثاء الشعب الأميركي نفسه، أن المؤسسات والتنظيمات اليهودية الصهيونية هي الأكثر نجاحاً في هذا المجال مما يفسّر لنا، على الأقل جزئياً، سرّ الدعم الأميركي لإسرائيل من دون تحفظ وتساؤل حتى على حساب مصالحها في العالمين العربي والإسلامي. إن مصطلح "تبرع" ما هو في واقع الحال سوى رشوة منظَّمة تقرّها القوانين والتقاليد المتبعة وتسهر عليها منظمات اللوبي التي يتنافس فيها أصحاب المصالح. ومن هنا فإن نسبة المشاركة في الانتخابات الأميركية العامة ضئيلة جداً بين الطبقات والفئات المحرومة بينما هي شديدة الإرتفاع بين أصحاب المصالح والأغنياء الذين ترتبط تبرعاتهم بسن قوانين تتناسب مع مصالحهم الخاصة. من ذلك، مثلاً، النفوذ الواسع ل "جمعية البندقية" Rifle Association التي تقدّم تبرعات للسياسيين مقابل دعم إلغاء أي قوانين تتعارض مع بيع الأسلحة للشعب في وقت يعرف الشعب جيداً كم ينتج عن هذه السياسة من جرائم بحق الناس الأبرياء. وما قلناه عن "جمعية البندقية" يقال عن شركات التدخين. وقد بلغت الرشوة تحت غطاء التبرعات المشروعة حداً يهدّد الاستقرار الإقتصادي كما يتضح من فضيحة شركة "إنرون"، كما يهدّد الشرعية السياسية كما ظهر جلياً من خلال انتخابات الرئاسة الأخيرة. أما كيف تستعمل الإدارة الأميركية، على العكس، مصطلحات سلبية في تشويه حتى السلوك الإيجابي لدى من تختلف معهم سياسياً، فيتمثّل على أوضح ما يكون بإطلاق أميركا مصطلح الإرهاب على مقاومة الشعوب الضعيفة للإحتلال والظلم. بل أصبحت الإدارة الأميركية ترفض بتاتاً أن تعرّف مصطلح الإرهاب كي تفسّره هي كيفما تشاء في خدمة ترسيخ هيمنتها وهيمنة حلفائها. بهذه اللغة المتداولة في الإعلام الأميركي والثقافة السياسية، تظنّ الإدارة الأميركية أنها قادرة على التعامل مع الضحية على أنها إرهابية ومع المعتدي المتحالف معها على أنه ضحية. هذا واضح جداً في تجربة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي ولا حاجة الى مزيد من التوضيح في هذا المجال. ولكن لا بد من القول هنا أن الإدارة الأميركية أصبحت تطلق مصطلح الإرهاب على دول وحكومات لمجرد دعم أو إيواء حركات التحرير لدى الشعوب الضعيفة الواقعة تحت الإحتلال. وأكثر ما هو بحاجة إلى التوضيح أن أميركا كانت ولا تزال تدرّب "فرق القتل" death squads التي كان من ضحاياها آلاف من الناس في أميركا الوسطى والجنوبية وفي الفيليبين. هنا أكتفي بالإشارة إلى ما جاء في مقالة كتبها أخيراً نيكولاس كريستوف في "نيويورك تايمز" بتاريخ 12/2/1002 جاء فيها أن "فلاحاً شاباً هزيل الجسم إسمه أنغولو كان يمشي في ممر مواز لغابة في الفيليبين حين هاجمته مجموعة من الإرهابين... فحطمت سبعة من أضلاعه وثلاثة من فقرات سلسلة ظهره وطعنته في ذراعيه وعنقه وقطعت لسانه وأعضاءه التناسلية... ولم يحصل موت أنغولو بهذه الطريقة البشعة على أيدي جماعة أبو سيّاف. القتلة كانوا من الجنود الفيليبيين المتعاونين مع أميركا في حربها ضد الإرهاب". ونشير في هذا المجال عابراً إلى حرص أميركا وإسرائيل على إستعمال في نصوص الإتفاقات مع الفلسطينيين ما يُسمّى مصطلح "الغموض البناء" constructive ambiguity الذي يُنسب إلى هنري كيسنجر، بحيث يمكن تفسيرالنص المتفق عليه لمصلحة القوي على حساب الضعيف. وعلى العكس من ذلك، ترفض أميركا ما يتقدّم به الفلسطينيون من إقتراحات بحجة أنها شديدة الغموض too vague ولا بد أن تستند إلى الأعمال لا الكلام. وهناك إضافة إلى ذلك لغة تبسيط الأمور والوقائع في الثقافة السياسية الأميركية خصوصاً في عهد الإدارة الحالية وبعد هجممات 11 أيلول. وكثيراً ما بلغ التبسيط درجة الكلام بلغة الأبيض - الأسود والخير والشر. هناك في خطاب الرئيس بوش وكثيرين في إدارته ومستشاريه حديث عن شعوب متحضرة وشعوب همجية، وعن حضارات شريرة وحضارات خيّرة، وعن مجتمعات ديموقراطية تقابلها مجتمعات مستبدة سلطوية معادية للقيم الديموقراطية وللغرب وأميركا بالذات ليس بسبب أعمالها وهيمنتها بل بسبب كره تلك الشعوب للحرية. يقال كل ذلك في الخطاب السياسي الأميركي في الوقت الحالي حين ترفض أميركا أن تصغي إلى أي نصيحة حتى عندما تأتي على لسان حلفائها الأوروبيين وأصدقائها العرب، وتهدّد بأنها مستعدة لأن تحارب "محور الشر" بمفردها حتى لو عارضها جميع أعضاء "أسرة الأمم" family of nations. بل ليس هناك من لغة أكثر إستبدادية وسلطوية ومعادية للقيم الدموقراطية من اللغة التي إستخدمها نائب الرئيس ديك تشيني حين أعلن أنه سيزور عدداً من البلدان العربية لا ليستشيرها بل ليبلّغها كيف يجب أن تتعاون مع الإدارة الأميركية في حربها ضد العراق. ولم يتوّقع تشيني في هذا الكلام دعماً عربياً فحسب ضد بلد عربي آخر، بل عنّف القيادات الأوروبية التي أبدت تحفظاً حيال مقولة "محور الشر" فصرّح في خطاب ألقاه أمام مجلس العلاقات الخارجية في منتصف شباط فبراير بقوله: "لأميركا أصدقاء وحلفاء في هذه القضية، ولكن نحن وحدنا نستطيع أن نكون في موقع القيادة... الولاياتالمتحدة وفقط الولاياتالمتحدة تستطيع أن تحقّق الانتصار. نحن في موقع فريد من نوعه بسبب مواردنا، وبسبب طبيعة شعبنا، وقوة مثلنا العليا، وجبروت عسكرنا والإقتصاد الخارق الذي يدعمه" نيويورك تايمز في 16/2/2002. وإذا كان لي ما أقوله هنا، فإنني أجزم بأن ديك تشيني لم يقرأ كتاب عنجهية القوة Arrogance of Power عن حرب فيتنام للسيناتور العظيم والديموقراطي الحقيقي وليم فولبرايت، واذا قرأه فلا أظن أنه فهمه. وفهمه أم لم يفهمه، فإن لغة نائب الرئيس تشيني ليست لغة ديموقراطية حين توقّع من الحكومات العربية التعاون معه من دون أن يكون لها رأي، وبقوله في هذا الخطاب أن إيران تريد أن تدمّر العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين في الوقت الذي يعرف أن عملية السلام ماتت والقاتل هو شارون والشاهد على القتل هو حكومة الولاياتالمتحدة التي فشلت أن تلعب دور الوسيط. إنه، كبقية المتطرفين اليمينيين في الإدارة الأميركية، لا يقرّ بحق الشعوب الضعيفة أن تدافع عن نفسها. وليس من قيم الديموقراطية أن يتوجّه الرئيس بوش إلى أمم العالم بأن لها في الحرب الأفغانية وضد الإرهاب خياراً واحداً وهو أن تكون معه أو ضده، وكل خيار آخر غير مقبول. وما كان للرئيس بوش أن يتوصّل إلى إعتماد هذا الخطاب لولا أن سياسة الإدارة الأميركية الحالية تبدأ من قاعدة تبسيط الأمور والحديث بلغة المطلقات بدلاً من رؤيتها بكل تعقيداتها وتشابكاتها والحاجة القصوى لإيجاد حلول عادلة وسلمية لها بعد زمن طويل من المآسي البشرية. إنه حقاً يتخذ منهجاً مطلقاً ومبسّطاً في التعامل مع المشكلات العالمية الشائكة. وقد بدأ هذا المنهج قبل مأساة 11 أيلول. فقد أظهرت مقالة في "الواشنطن بوست" في 17/2/2002 أن الرئيس بوش قرأ قبل سنة من هذا التاريخ كتاباً لروبرت كابلن بعنوان "شرقاً إلى تارتري"، أي الجحيم، الذي رسّخ في ذهنه بإشراف مستشارته للأمن القومي كوندوليزا رايس، وهو الذي لا يعرف العالم الخارجي، بأن هناك مجتمعات وجماعات شريرة يجب قهرها. ومن هنا قوله في الخطاب السنوي عن "حال الاتحاد" بلغة دينية أصولية: "وصلنا إلى معرفة حقائق لا شك فيها، وهي أن الشر حقيقي وتجب مقاومته. يواجه الأميركيون معاً خطراً. وقد اكتشف العديدون مرة أخرى أنه في المحنة، بل خصوصاً في المحنة، الله قريب". وكان أن دخل الرئيس بوش الحرب من دون التفكير في كيفية الخروج منها لأنه، كما قال، "لن أنتظر الأحداث، فيما يقترب الخطر". في مثل هذه الأجواء القائمة على التعتيم والتبسيط من نهاية كانون الثاني يناير الأخير هدّد وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بقوله: "في الوقت الذي نخوض هذه الحرب على الإرهاب، يجب علينا أن نعدّ لحرب تالية". ونصحت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر الدولة العظمى الوحيدة بقولها "إن دول الغرب وقيمه لا تزال تحت تهديد مميت، وأن هذا التهديد تجب إزالته من الوجود، والآن هو الوقت الذي يجب ان نتصرف بعزيمة... والمرحلة الثانية للحرب ضد الإرهاب تجب أن تكون بضرب مراكز الإرهاب الإسلامي الأخرى". نيويورك تايمز في 11/2/2002. إنها لغة التعتيم وتسويغ الهيمنة، لا لغة إضاءة الظلمة. * كاتب وإستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.