بعد مرحلتي الحزن والغضب كان لا بدّ لأميركا من الدخول في مرحلة التصميم على ما يجب أن تفعله، فتدرك إنه ليس من مصلحة العرب ولا من مصلحة أميركا أن يستمر العداء بينهما وأن يُعالج الإرهاب بإرهاب مضاد والعنف بعنف أكثر قسوة. بل تخطىء الإدارة الأميركية في محاولة إقامة تحالفات ضد الإرهاب من دون تحديد معنى هذا المصطلح الذي تستعمله من منظورها ولمصلحتها ومن دون أن تحدّد أهداف الحرب ونطاقه. وتخطىء حين تحرص على التأكيد على عدم عدائها للإسلام في الوقت الذي تعادي قضايا المسلمين وتستعمل في مداولاتها مفهوم الحرب الصليبية crusade في مواجهة الجهاد. في الواقع أن العرب، حكومات وشعوباً، في غالبيتهم يجمعون على ضرورة التوصّل إلى حلول سلمية عادلة. لم تستوعب إسرائيل، كما لم تستوعب أميركا، على ما يظهر، أن العرب أقرّوا من موقع ضعفهم الاعتراف باسرائيل شرط الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، وإزالة المستعمرات وحلّ مشكلة اللاجئيين، والإعتراف بحق الفلسطينين بإقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة في الضفة الغربية وغزة مع أنها تشكلّ جزءاً صغيراً من وطنهم الذي فقدوه منذ عام 1948. وللأسف الشديد فإن المزاج المسيطر في أميركا بعد مرور شهر منذ الهجوم عليها في 11 سبتمبر لا يسمح بالتساؤل لماذا حدث ما حدث. لا تزال تُرفض مقولة وجود ترابط بين ما حدث ومأساة فلسطين، كما ترفض ان توضح ما الهدف الذي صمّمت عليه الإدارة الأميركية ونطاقه؟ تقول أن الحرب التي تشنها على أفغانستان هي مرحلة أولى؟ هل هناك مراحل أخرى وما هي؟ هل تريد الانتقام والردّ على العنف بعنف لا مثيل له في الحروب السابقة كما قيل؟ وما الذي ستستهدفه: شبكة منظمة القاعدة المنتشرة حسب تقديراتها في ستين بلداً غالبيته في العالم العربي والعالم الإسلامي أم الدول التي يقُال أنها تساند الإرهاب؟ هل تريدها حرباً على نطاق ضيق ومحدود من دون التسبّب بوقوع ضحايا بشرية لا علاقة لها بما حدث أو قد يحدث أم على نطاق واسع يستهدف دولاً ومنظمات مختلفة؟ تُرى هي حرب جارفة بدافع الانتقام وشفاء الغليل أم مجابهة عادلة؟ وهل يمكن الحروب أن تكون عادلة وألا تُوقع ضحايا من الأبرياء؟ إن أمام أميركا نوعين من الخيارات في ردّها على الهجوم الذي تعرّضت له: خيار الانتقام ومواجهة العنف بعنف أكبر كما وصفناه، وخيار بديل يبدأ بالتساؤل حول الأسباب الحقيقة للهجوم الذي تعرّضت له والإعتراف بأنه لم يكن يستهدف ديموقراطيتها وقيمها وثقافتها ونظامها الرأسمالي كما تدعي، بل جاء نتيجة لوجود تناقضات تتمثّل بهيمنة أميركا على العالم وخاصة الشعوب الضعيفة، وتضامنها المطلق مع إسرائيل، وبحصارها المستمر على العراق مما سبّب ويسبّب آلاماً لشعبه البريء، وبإقامة قواعد حربية تهدّد العرب في صميم أمنهم القومي. وإننا نشدّد خصوصاً على أنه ليس في الوقت الحاضر ما هو أكثر إلحاحاً من حل المشكلة الفلسطينية وليس من مأساة تفوقها قسوة، فلا يكون من الحكمة والعدالة الاستمرار بدعم إسرائيل بحيث تتمكّن من التوسّع والإحتلال وإقامة المستوطنات والهيمنة على حياة الشعب الفلسطيني ومحاصرته في سجن كبير لا يكون فيه للفلسطينين من خيار سوى الخضوع أو الاستشهاد حتى أصبح الموت في فلسطين أليفاً ورفيقاً. لنتمعن بتصميم الإدارة الأميركية على شن حرب شاملة ذات مراحل على الإرهاب دون تحديد لمعنى هذا المفهوم. تسمّي حق المقاومة الفلسطينية بالتحرّر من الإحتلال وتقرير المصير إرهاباً، وتعتبر إسرائيل ضحية في الوقت الذي تستعمل مختلف وسائل العنف لسحق شعب بكامله. بهذا تختلف أميركا في تحديدها لمعنى الإرهاب عن العرب والمسلمين والأحرار كافة في مختلف المجتمعات البشرية والقوانين الدولية التي تعترف بحق المقاومة للتحرّر من الاحتلال. هناك حقاً دول إرهابية أو مساندة للإرهاب، وأقول بتواضع واقتناع يقوم على أسس موضوعية ان إسرائيل هي بين أشد الدول إرهابية إن لم تكن في طليعتها. أقول أيضاً بتواضع واقتناع أن أميركا تغذي هذا الإرهاب الإسرائيلي لما يزيد على نصف قرن وما كان لإسرائيل ان تشرّد الشعب الفلسطيني وتمعن في قتله ومحاصرته وسلب ممتلكاته وتدمير منازله وإقتلاع أشجاره وتهيمن على حياته دون الدعم الأميركي الشامل وغير المتحفظ. إن العنف يولد من رحم العنف وب يزداد قسوة. لقد إعترف العرب بالآلام التي سبّبها الهجوم على أميركا، ويكون على أميركا الاعتراف بالآلام العربية. إنه من الضروري في الدعوة إلى تحسين العلاقات الأميركية العربية أن تُقلع أميركا عن الإصغاء للتحريض الإسرائيلي والصهيوني بشن حرب واسعة على دولة أو دول عربية. في هذا الوقت العصيب أقبلت إلى أميركا شخصيات إسرائيلية متطرفة مثل رئيس الوزراء السابق نتانياهو ورئيس بلدية القدس أولمرت للانضام إلى الجوقة الصهيونية في التحريض ضد العرب وفي محاولة لاقناع أميركا بتوسيع دائرة الحرب لتشمل العراق وسوريا ولبنان وإيران. ومما تبيّن من خلال المقابلات التي إجريت معهم من قبل وسائل الإعلام أنها تمّت بمساعدة شركات علاقات عامة تجيد التمويه وطرح الأسئلة التي تسهّل مهماتهم المتطرفة. قال نتانياهو في مؤتمر صحافي، تواً بعد الهجوم على أميركا، أن هذا الحدث جيد جداً very good بمعنى أنه سيعود بالفائدة على إسرائيل التي عملت دائماً على خلق فجوة بين العرب وأميركا. جاء إلى أميركا ليدعم التيار المتطرف المتمثل بموقف وكيل وزارة الدفاع الصهيوني بول ولفوفيتز الذي يدعو لشن حرب في أقرب وقت وأوسع نطاق ليس ضد أسامة بن لادن وشبكة قاعدته في أفغانستان فحسب، "بل أيضاً ضد قواعد إرهابية أخرى مشتبه بها في العراق والبقاع من لبنان". وهو بين أشد مَنْ مارسوا لغة التهديد، فقال: "إن هدف الحرب ليس فقط مسألة قبض على أناس ومحاسبتهم، بل إزالة الدول التي تتعهد الإرهاب" قاصداً بلداناً عربية بعينها. إن الفريق الذي أشرف على وضع استراتيجية الحرب ضد العراق 90-1991 هو الذي يشرف الآن على الحرب الحالية وإن تبدّلت وظائفهم وبينهم نائب الرئيس تشيني ووزير الخارجية كولن باول ووكيل وزارة الدفاع بول وولفوفيتز ووكيل وزارة الخارجية ريتشارد أرميتاج. هناك موقف أقل تطرفاً يتمثّل برأي وزير الخارجية كولن باول الذي يقول انه من الضروري عدم التسرع ريثما يتمّ تأمين التحالف الدولي مع أميركا والتمهيد للعمل العسكري. ولكن ذلك لا يشكّل إختلافاً جوهرياً في توجيه السياسة الأميركية حقاً. كان وزير الخارجية كولن باول قد إتصل بدوره بحكومات عدد كبير من البلدان وحذرهم أنهم من الآن فصاعداً لن يكون في امكانهم ان يبقوا حياديين في الحرب ضد الإرهاب، طبعاً الإرهاب كما يفهمه هو وكما يحدّده أو لا يحدّده مطلقاً. كذلك طلب من الحكومات أن يختاروا بين نعم أو لا في علاقتهم بأميركا، وإن لم تتعاون قد تجد نفسها مستهدفة. وهنا نلفت النظر إلى ورود تفسيرات خاطئة لظاهرة العنف والاستشهاد والانتحار في النقاشات التي تثار في هذه الأيام بمناسبة الهجوم على أميركا. لقد إتضحت من خلال المناقشات والتصريحات أن هناك نزعة متأصلة عند البعض على صعيد المسؤولين في الإدارة الأميركية للحديث ليس فقط عن تصرفات أفراد وجماعات بل أيضاً عن مجتمعات وحضارات متمدنة ومجتمعات وحضارات بربرية. وفي هذا رواسب عنصرية لم يتحرّر منها بعد الكثيرون من هم في موقع القيادة. وتتصل هذه الرواسب بأن القيادة الأميركية غير مستعدة للتساءل والبحث حول أسباب حصول الهجوم الموجع الذي تعرّضت له أميركا من حيث لا تدري، لأنها إذا ما بحثت جدياً بهذا الأمر قد تجد نفسها مضطرة للتريث وإعادة النظر بسياساتها الخاطئة التي لا ترغب بتعديلها. ومن هنا أنها تلجأ لتفسيرات غير دقيقة كالقول أن الدافع وراء الهجوم هو كره الديموقراطية والثقافة والقيم الغربية. ولننظر في خطاب الرئيس بوش أمام الكونغرس الذي لخّصته صحيفة "الواشنطن بوست" بعنوان ضخم في الصفحة الأولى 21/9/01 بأنه "حرب كونية" Global War ضد الإرهابين ومناصريهم. بين أهم ما جاء في خطاب بوش من حيث ما يمكن ان نستدل به الى نوع الحرب التي يدعو إليه، أرى أن نتوقّف ملياً عند قوله أن هذه الحرب لن تكون كحرب الخليج ضد العراق ولا كالحرب الجوية ضد صربيا في ازمة كوسوفو، ولن تكون معركة واحدة بل جولة مرحلية طويلة الأمد على خلاف ما رأيناه في السابق. وبعد هذا التوضيح، يهدّد بوش بقوله "سنطارد الأمم التي تقدّم مساعدات او ملجأ أمين للإرهاب. كل أمة في كل منطقة يكون عليها أن تقرّر فيما إذا كانت تقف معنا او مع الإرهابيين. من الآن فصاعداً، أية أمة تستمر في إيواء او دعم الإرهاب ستنظر اليها الولاياتالمتحدة على إنها نظام عدائي... إن الوسيلة الوحيدة للتغلب على الإرهاب كتهديد لطريقة حياتنا هي... باستئصاله وتدميره حيث ينمو .. هذه هي حرب الحضارة... إن العالم المتحضر يندفع للوقوف إلى جانب أميركا" التي "تحدّد أزمنتها ، ولا تتحدّد بها... إن الحرية والخوف، والعدالة والشراسة في حالة حرب دائمة... ليمنحنا الله الحكمة". إن كل إنسان يتمنى أن يلهم الله الرئيسَ بوش الحكمة التي يحتاجها في تحقيق السلم لا الحرب، ولكن الهيمنة على العالم ليست من الحكمة التي يُلهمها اللهُ خَلْقَه، وأنه ليس من القيم الديموقراطية تهديد الأمم بأنه لا خيار لها سوى أن تكون معه أو ضده. للأمم الحق أن تفاوض وتناقش وتأخذ كما تعطي وتدافع عن حقوقها في الحياة ويكون لها حرية في إبداء الرأي. وللأسف العميق، لا يبدو أن القيادة الأميركية قادرة على الربط بين سياساتها الخاطئة والهجوم الذي تعرّضت إليه. إنه هجوم لا يُبرّر ومن الخطأ الإيحاء بتسويغه بأي شكل من الأشكال، إنما لا بدّ من الاعتراف الضمني على الأقل بالمسؤولية والبحث الجاد عن حلّ للمشكلات المستعصية فتتجنّب البشرية مزيداً من المآسي، ولأميركا مسؤولية أساسية في هذا المجال. غير إن الخطاب المتداول في أميركا لا يظهر رغبة صادقة من قبل البعض بالاعتراف وإعادة النظر. على العكس، كثيراً ما نسمع لغة الانتقام والحرب لا لغة البحث عن حلول، فهدّد حتى وزير الخارجية كولن باول الذي يُعتبر الأكثر إعتدالاً القيادات التي يريد منها التعاون بقوله الفج أنه لن يكون من المقبول لدى أميركا ان تنهج أية دولة في العالم سياسة حيادية وعلى كل بلد أن يختار أن يكون معها أو ضدها، ومهما كان ستخضع كل دولة للمحاسبة الأميركية. وإذا كان لي ما أختم به هذه المقالة فهو أن الإدارة الأميركية المفجوعة لا تدري ولا تريد أن تدري أو تعترف بأنها لا تدري بأن هناك علاقة حميمة ومباشرة وسببية بين فجيعتها وبين الجراح التي أحدثتها سياستها الخاطئة في النفس العربية خلال نصف قرن من الزمن. إن هذا الكلام ليس لتبرير الفجيعة، بل لتفسير ما يحدث وللحضّ على ضرورة البحث عن حلول عادلة لمشكلات مستعصية يعاني منها الإنسان أينما كان. ومن دون هذا الحدّ الأدنى قد يحصل تعاون بين الإدارة الأميركية والحكومات العربية والاسلامية، ولكن الأهم من كل ذلك حصول تفاهم وتعاون بين الشعوب والحضارات. * كاتب عربي واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.